من يدعمون التدخل الخارجي أحد اثنين:
١- طرف يدعمه من منطلق “إنساني”، أي يقول “أنا أريد إيقاف حمام الدم هذا بأي ثمن، ولو كان بتدخل خارجي”، “كل ما يهمني ردع هذا المجرم بشار من القتل اليومي”.
١- طرف يدعمه من منطلق سياسي. أي يقول أن التدخل الخارجي هو عبارة عن “تلاقي مصالح”. ويقول “قد يتسبب التدخل الخارجي بسقوط قتلى ومدنيين وضحايا، ولكن هذا ثمن تحقيق الهدف السياسي”.
سأقوم الآن بتقديم ثلاث حجج:
أولا، من يبيح قتل المدنيين لتحقيق أهداف سياسية هو مثل بشار الأسد.
فبشار الأسد لم يستيقظ من النوم فجأة وقرر تقتيل الناس، بل مارس القتل واستهدف قرى ومدن وبلدات ثارت عليه، فاستباح قتل مدنييهم لتحقيق هدف سياسي وهو “إخماد الثورة وبسط سيطرته على البلاد”. والتدخل الإيراني والروسي في سوريا كان من منطلق سياسي غير آبه بأعداد المدنيين الذين يقتلون من أجل تحقيق الهدف السياسي “حماية النظام السوري من السقوط”.
الآن، كيف يختلف- من ناحية أخلاقية- من يدعم التدخل الخارجي لهدف سياسي “إسقاط النظام”؟
لا يوجد أي اختلاف، فجميعهم يبيحون قتل مدنيين لتحقيق أهداف سياسية. فمثلا لو قتلت الضربات الأمريكية آلاف السوريين، فلن توصف أمريكا بالمجرمة مثل ما يوصف به بشار، وذلك فقط لأنها تقتل مدنيين لهدف سياسي يتفق معه من كان يصمّ آذاننا بالأمس بوصف بشار بالمجرم.
ولأن “التدخل الخارجي” هو استخدام للقوة، وهو قصف جوي مستمر، فإنه من الطبيعي أن نتوقع سقوط عدد من القتلى المدنيين.
ثانيا، التدخل الخارجي ليس إيقافا للقتل بل استمرار وزيادة فيه.
هذه الحجة موجهة لمن يدعمون التدخل من منطلق إنساني، ويمكن تقسيمها لعدة نقاط:
أ- التدخل نفسه هو عبارة عن “استخدام للقوة”، وعادة ما يبدأ بعملية قصف جوي مستمرة تقوم بتدمير كامل البنية التحتية وفتل المدنيين، ففtي كوسوفو مثلا- وحسب تقرير هيومن رايتس ووتش– تم قتل ٥٠٠ مدنيا في ال٧٨ يوما التي قام الناتو خلالها بأعمال القصف الجوي، وفي ليبيا تم قتل ٧٢ مدنيا- بينهم ٢٠ امرأة و٢٤ طفلا- في ثمان ضربات فقط. فمن يدعم التدخل من منطلق “إنساني” يجب أن يجيب على هذا السؤال: أليس التدخل هو أيضا استخدام للقوة؟ أليس هؤلاء الموتى مدنيين مثلهم مثل المدنيين الذين يقتلون على يد بشار الأسد؟ كيف إذن تبيحه وأنت اعتراضك على بشار الأسد أنه كان يقتل مدنيين؟ على أي أساس تبرر قتل مدنيين من جهة وتدينه من جهة ثانية؟
كل “الإنسانيين” الذين سألتهم هذا السؤال، لا تخرج إجابتهم إلا من الحجة “العددية” التالية: صحيح أن التدخل يقتل مدنيين، لكن بدونه سيكون عدد المدنيين القتلى أكثر بكثير.
وعندما يقوم الإنساني باستخدام هذه الحجة فهو فورا يتجرد من كل “إنسانيته” المدعاة، إذ تضحي المسألة بالنسبة له “أرقام”، قتل “١٠” مدنيين، أهون من قتل “٢٠” مدنيا. لا يهم “الإنسان”- الذي صمّ آذاننا دفاعا عنه- ما يهم هو “تقليل الأرقام”.
فهذه الحجة أولا “ليست إنسانية”، وثانيا هي “محض رجم بالغيب”. فكما سنوضح فيم بعد، فالتدخل الخارجي غالبا “يزيد من قتل المدنيين” ولا يقلل منه.
ب- التدخل يجعل النظام يقتل عددا أكبر من المدنيين.
وذلك لسببين: أولا، أن النظام قبل التدخل كان يحاول أن يخمد الثورة بأقل عدد ممكن من القتلى المدنيين حتى لا يعطي ذريعة لمعارضيه أن يستنجدوا بالناتو، فإذا قرر الناتو الدخول في الحرب فهذا “الحرج” سيرتفع، وستزداد أعمال القتل أكثر مما سبق.
أما السبب الثاني، فهو أن دخول الناتو يجعل النظام في موضع ضعف، وهذا الوضع يحفزه لاستخدام كل ما يمكن استخدامه للدفاع عن نفسه.
وفي هذه الدراسة عن أثر التدخلات العسكرية على الضحايا المدنيين وجد الباحثين الثلاثة أن النظام يزيد من قتل المدنيين ٤٠٪ بعد التدخل
ج- التدخل يحفز قوى المعارضة على الانتقام وقتل المدنيين.
وهذا ما رأيناه على سبيل المثال في كوسوفو، فبعد أن قام الناتو بالقصف الجوي تراجعت القوات الصربية مما دفع جيش تحرير كوسوفو إلى الانقضاض على القرى الصربية المحيطة وقتل المئات وتهجير الآلاف.
د- أن من يقوم بالتدخل ليس أقل إجراما من بشار الأسد.
فالناتو- والدول المكونة له، التي على رأسها أمريكا- هي من أكثر الدول إجراما في العالم، فالدماء التي أراقوها ويريقونها بشكل مستمر في العراق وأفغانستان وباكستان واليمن ومالي لم تجف بعد، فكيف يتوقع “الإنساني” إذن أنهم سيكونون أرحم بالمدنيين من بشار الأسد؟
والآن، إذا كانت التجارب السابقة تخبرنا أن “قتل المدنيين لا يتوقف مع التدخل” بل “إنه يحفز كافة الأطراف للزيادة فيه”، و”أن من سيقوم بالتدخل ليس أقل إجراما من النظام نفسه”، فما هي الأرضية “الإنسانية” لتبريره؟ لا شيء.
ثالثا، التدخل ليس “حلا”.
وهذه الحجة موجهة لمن يقول بعد مواجهته بكل هذه الحجج “هل لديك “حل” آخر؟”. وهذا السؤال مضلل جدا، لسببين:
١- أننا عندما نسأل عن “الحلول” فنحن يجب أن نتفق على “ما هي المشكلة أصلا”. هل المشكلة هي “كيف نسقط بشار الأسد؟” أم هي كيف “نساعد في التحول الديمقراطي في سوريا؟” أم هي “كيف نوقف أعمال القتل المستمرة”؟
وهذا ليس لعبا بالمصطلحات أو فذلكة لغوية، بل هو “تأطير للمشكلة” الذي بدونه لا يمكن أن نفكر في حلول. فما هو الإطار الذي نتنباه لما يحدث في سوريا؟
إذا كان الإطار “كيف نوقف أعمال القتل المستمرة؟”، فالتدخل العسكري- كما رأينا- ليس حلا أبدا، بل هو زيادة في تعقيد المشكلة.
أما إذا كان الإطار “كيف نساعد في التحول الديمقراطي في سوريا؟”، فالتدخل العسكري- ليس حلا- لأن أميركا وأوروبا وحلفائها في المنطقة من دول الخليج وإسرائيل لا تريد دولة ديمقراطية في سوريا، بل أقصى ما تريده هو نظام طوائف كلبنان والعراق، يحول البلاد إلى ميدان صراع بين القوى الاقليمية.
أما إذا كان الإطار “كيف نتخلص من بشار الأسد”، فالتدخل هو أفضل حل، لكن نتيجته ستكون نفس نتيجة “حل” تخلص العراق من صدام حسين، أي سنوات من الحرب الأهلية وبناء نظام طائفي واحتلال وقد يكون هناك تقسيم.
٢- أن عدم تقديم “حلول بديلة” لا يعني “صحة الحل المتاح”. فعندما تكون مريضا بمرض ما، وتسألني هل هذا العلاج مفيد، وأقول لك أنه غير مفيد. ثم تسألني “تعرف علاج مفيد؟” ثم أجيبك “لا”، فمن الغباء أن تقول “كونك لا تملك علاجا بديلا فسأجرب هذا حتى وأنا مقتنع أنه غير صالح”.