ما هي علاقة التحريض الطائفي بعمليات داعش؟

من يطرح هذا الطرح؟

كلما قامت داعش بعملية في السعودية، يقوم فريقان في السعودية بترديد الحجة التالية: (التحريض الطائفي هو السبب المؤدي لهذه العمليات). التياران اللذان يتبنيان هذه الحجة هما:

١- التيار اللبرالي السعودي.

٢- التيار الشيرازي الشيعي.

التيار الأول المعروف، أما التيار الثاني- باختصار- أقصد به تيار منتشر في القطيف مكوّن من أعضاء سابقين في الحركة الشيرازية الرسالية تبنوا بعد عودتهم من المنفى خطابا طائفيا* (علمانيا تارة، ودينيا تارة أخرى) سلميا يحاول حلّ “مشكلة الشيعة” (أنا لا أؤمن بوجود مشكلة سياسية خاصة بالشيعة) من داخل الدولة وليس عبر التصادم معها. رموز هذا التيار تشمل توفيق السيف، حسن الصفار، جعفر الشايب، ومن الشباب نجد هناك وليد سليس.

أمثلة على من يطرح هذا الطرح؟

عبدالرحمن اللاحم (نموذج تقليدي للبرالي السعودي) كتب مقالة بعنوان (ما زلنا نجزّ العشب) يذكر فيها أن علينا بدل أن نجز العشب الذي ينبت بين فينة وأخرى، أن نقوم باقتلاع أصل النبتة الخبيثة، وهي هنا “ثقافة الغلو والتكفير والتطرف وملاحقة المحرضين على الفتنة وتقديمهم للعدالة كشركاء في تلك الجرائم…إلخ” (لاحظ أن هذا يعتبر محاميا، وانظر كيف يسيء استخدام معنى التحريض القانوني لأغراض ايديولوجية).

حسن الصفار إسلامي معروف وأحد رموز الشيرازية، ذكر في خطبة الجمعة الماضية  كيف أن التوصيفات الدينية المسيئة لأهل البيت باتت تمنح الغطاء والمبرر للاعتداءات الارهابية. رغم أن الأخير لم يقصر الأمر على الخطاب الديني، إلا أن الإثنين يعتبران الخطاب التحريضي سببا.

ما هو التفسير المطروح؟

لننظر مرة أخرى في التفسير المطروح: الخطاب التحريضي هو سبب العنف. ما المقصود بهذا الكلام؟ المقصود أن هناك خطاب ما يجعل الأفراد أكثر جاهزية للقيام بعمليات عنف ضد الشيعة. أي أن أمامنا هنا سلوك محدد: شخص يقوم بتفجير نفسه في حسينية، والتفسير المطروح لهذا السلوك هو تواجد نوع من الخطاب والأفكار  والثقافة. أي أن هذه الحجة تقول أن الثقافة (س) هي السبب في السلوك (ص).

  ما هي هذه الثقافة؟

الجواب غير معروف. فهناك من يقتصرها على خطاب مشايخ الصحوة الطائفيين، وهناك من يوسعها لتشمل خطاب الصحوة، وخطاب المؤسسة الدينية الرسمية، والتعليم، والإعلام، والمواد التي تدرس في الجامعات. هناك من يقصرها على الصحوة والخطاب الإسلامي الحركي، وهناك من يحمّل الوهابية ككل مسؤولية هذا التحريض. لا يوجد تعريف محدد وواضح حول ماهية ثقافة التحريض هذه، وأعتقد أن هذا الغموض في حد ذاته كاف لرفض الأطروحة (لأننا لا يمكن أن نجعل سبب ظاهرة ما غامضا، التفسير بالغموض مثل عدم التفسير) من أساسها وكشف بعدها السياسي باعتبارها وسيلة موجهة ضد الخصوم السياسيين. لكن سنتابع الحديث لأن هناك فعلا من هو مقتنع بهذا الموضوع بدون كثير تأمل.

هذه التدوينة مخصصة لمن يجعل الخطاب التحريضيسببا للعمليات التفجيرية.

أي أن الذي يعتبره أحد الشروط، أو أحد الظروف، أو يعتبره سببا من بين مجموعة كبيرة من الأسباب، ليس معنيا هنا. المعني هنا هو من يعتبر الخطاب التحريضي السبب الوحيد أو السبب الرئيسي أو السبب المهيمن لأعمال العنف التي تقوم بها داعش.  

لماذا هذا الطرح خاطئ؟

١- هناك فرق بين (الإقتران) و(السببية)

عندما أرجع كل يوم إلى المنزل، اسمع كلبا ينبح في الشقة المجاورة لشقتي. عندنا هنا عاملين: ١- نباح الكلب. ٢- عودتي للمنزل. هذان العاملين حدوثهما مقترن، كل ما حدث (العودة للمنزل) حدث (نباح الكلب). هل نستطيع القول أن عودتي للمنزل هي سبب نباح الكلب؟ الجواب: لا. هذا اسمه اقتران، والاقتران لا يقتضي السببية. وهذا صحيح، فأنا أعود للمنزل كل يوم في الساعة الثانية، وفي الساعة الثانية هو موعد أكل الكلب فينبح طلبا للأكل. فسبب نباحه لا علاقة بينه وبين عودتي للمنزل، واقترانهما إنما هو بسبب أن كلاهما يحدثان في الساعة الثانية.

قد يعترض شخص على هذا التفسير ويصر على أن عودتي للمنزل هي سبب نباح الكلب. هنا، استطيع أن أثبت له تفسيري بطريقة بسيطة: أن أتأخر في العودة ساعة. أي أن أغير من أحد العوامل وهنا لا تزول  السببية فقط، بل يزول الاقتران نفسه.

فكون من قام بالتفجيرات في السعودية  تأثروا (بخطاب التحريض)، فهذا لا يجعل خطاب التحريض سببا للقيام بالتفجيرات. كل ما يمكن قوله هو أن هناك (اقتران) بين خطاب التحريض والقيام بالتفجيرات، مثلما أن هناك (اقتران) بين كون الإنتحاريين ذكور، وسعوديين ومسلمين. هل نقول أن (الذكورة) سبب للعمليات التفجيرية؟ أو نقول أن (الجنسية السعودية) سبب للقيام بالتفجيرات؟ أو أن (الإسلام) هو سببها؟

٢- كيف يتحول (الإقتران) إلى (سببية)؟

ليس من السهل أن نقول أن علاقة اقتران ما هي علاقة سببية، لا يكتفي مجرد ملاحظة الاقتران للوصول إلى أن هناك علاقة سببية، يجب القيام بعدة خطوات طويلة حتى نستطيع أن نغلب الظنّ أن هناك علاقة سببية.

سنأخذ المثال التالي: كلما ضغطت على زر في الجدار، سمعت صوت جرس. هناك علاقة اقتران بين (ضغط الزر) وبين (صوت الجرس). لكن هل ضغطي للزر هو سبب سماعي لصوت الجرس؟ حتى نصل لهذه النتيجة لابد من القيام بالخطوات التالية:

أ- التكرار. كلما تكررت العلاقة بين ضغط الزر وسماع الجرس، فإن الاحتمالية تزداد بأن هناك علاقة سببية بينهما.

ب- التعاقب. كلما كان حدوث (سماع الجرس) يأتي بعد (ضغط الزر) في كل مرة، فهذا يزيد احتمالية وجود علاقة سببية بينهما.

ج- خلو العوامل الأخرى. كلما حدث الاقتران مع تغير كافة العوامل الأخرى، كلما زاد الاحتمال أن العلاقة سببية. يعني مثلا ضغطنا الزر في النهار وفي الليل، في الشتاء وفي الصيف، ضغطته أنا وضغطته أنت. بهذي الطريقة نفينا عامل أن الاقتران بسبب الوقت، أو بسبب الحرارة، أو بسبب الضاغط نفسه. وجربنا كافة التفسيرات الاخرى وفي كل مرة نكتشف ان عملية الاقتران موجودة، بهذه الطريقة تزداد الاحتمالية أن العلاقة سببية.

د- وجود رابطة سببية بين السبب والنتيجة. مثل أن الزر مربوط بالجسر بسلك كهربائي، وكلما ضغطنا على الزر يرن الجرس. هذه الرابطة ممكنة منطقيا، ويمكن اختبارها، وليست غرائبية أو عجائبية.

هناك قائمة طويلة للطرق التي نحاول التأكد من خلالها أن الاقتران عبارة عن علاقة سببية غير هذه، لكن هذه مجرد أمثلة فقط.

لننتقل الآن للإقتران بين (الخطاب التحريضي والعمليات الإنتحارية):

١- التكرار. هذا غير متحقق. ليس كل متأثر بالخطاب يقوم بعملية انتحارية ضد الشيعة. هناك متأثرين به ضد العمليات، هناك متأثرين به من رجال الأمن يحمون الشيعة، هناك متأثرين به يكرهون الشيعة لكن لا يؤيدون قتلهم، هناك متأثرين بهمع قتل الشيعة في مكان لكن ضده في مكان. إذن هناك أكثر من اقتران وليس اقتران واحد:

الاقتران الأول: اقتران بين المتأثرين بالخطاب والعمليات الانتحارية ضد شيعة السعودية.

الاقتران الثاني:اقتران بين المتأثرين بالخطاب ورفض العمليات الانتحارية ضد شيعة السعودية.

فكيف تكون واحدة (سبب)، والثانية (ليست سبب)؟ لا بد من تفسير لكل من يقول بهذا الأمر.

قد يقول المدافع عن هذا الرأي، أن كلما زاد تأثر المتلقي بالخطاب، كلما كان احتمالية قيامه بالعملية أكثر. وهذا ما يفسر الاختلاف بين المتأثرين. هذا تفسير جيّد، لكن ليس لدينا أدوات قياس: كيف نقيس مدى تأثر الشخص بالخطاب؟ كيف نعرف أن المفجر كان متأثرا بالخطاب أكثر من أخيه؟ هذه المعلومات لا نملكها، وبالتالي الاستناد عليها لا معنى له.

٢- التعاقب، وهذا متحقق. كل من فجر ضد الشيعة في السعودية كان وهابيا قبل قيامه بالتفجير.

٣- الإتساق: وهذا يعني أن العلاقة متسقة. فكلما زاد السبب تزود النتيجة، وكلما قلّ السبب تقل النتيجة. مثال: كلما زدت حرارة النار، فالماء يغلي بسرعة أعلى، وكلما قللتها فإن الماء يغلي بسرعة أقل.

هل هذا متحقق في الخطاب التحريضي والعمليات الانتحارية؟ الجواب: لا. فهذا الخطاب كان في الثمانينات أيام عزّ الصحوة الإسلامية في السعودية مرتفعا بشكل كبير، ولكننا لم نرى أي عمليات انتحارية ضد الشيعة. ولكنه الآن عندما قلّ بشكل كبير عما كان عليه قبل ثلاثين سنة، نجد عمليات انتحار. هذا يضعف احتمالية وجود علاقة سببية بينهما.

٣- خلو العوامل الأخرى. وهذا غير متحقق. فمن فجر في الشيعة في السعودية هم: ١- متأثرين بالخطاب التحريضي. ٢- ذكور. ٣- سعوديين. ٣- شباب. ٤- مساجين سابقين، أو لهم أقارب مساجين. ٥- مبايعين لداعش. ٦- مسلمين. وغيرها الكثير من العوامل المشتركة. فكيف نستطيع أن نقول أن أحد هذه العوامل فقط هو (السبب)؟

٤- وجود رابطة سببية بين السبب والنتيجة. فأصحاب تفسير (الوهابية هي السبب)، يقولون أن الخطاب التحريضي يزيد من معدلات الكراهية والجهل والحقد والضغينة في المتلقي، وهذا يدفعه لفقدان عقله ورحمته وضميره، ويصبح مستعدا للقيام بأي شيء ضد المخالفين له، كقتلهم. هذا تفسير يبدو منطقيا للوهلة الأولى، ولكنه مبني على مسلمات كثيرة لا يوجد دليل عليها:

أ- أن الخطاب يؤثر على السلوك بشكل كبير. وهذا ليس صحيحا، انظر هذه المقالة لبدر الراشد يستعرض فيها النظريات التي تتحدث عن العلاقة بين الخطاب والسلوك.

ب- أن المنفذين مدفوعين بالحقد والكراهية والجهل والضغينة. وهذا لا يتناسب مع شكل العمليات، فهذه عمليات مصممة بدم بارد، ومختارة بعناية، وواضح الغايات السياسية منها. فلو كانت الكراهية والضغينة والجهل هي الدافع وراء العمل، لقام الجاني بقتل أي شيعي في الشارع، أو يذهب للعراق ويقتل من الشيعة ما يشاء. لماذا اختار قتل هؤلاء الشيعة بالذات، في هذا المسجد أو الحسينية بالذات، في هذا الوقت بالذات؟ هذا يعني أن العمل مختار بعناية، وبدم بارد، وضمن حسبة عقلية هادئة.

هذا يجعل من الرابطة المقترحة بين السبب والنتيجة غير مقنعة.

إذا لم يكن التحريض، فما هو السبب؟

هذه مغالطة أيضا. قد لا نعرف ما هو السبب، لكن هذا لا يعني أن نقبل أي تفسير. والهدف من هذه التدوينة ليس توضيح السبب، بل توجيه النقد للخطاب التحريضي باعتباره سببا. وسبب هذا النقد هو:

١- أن هناك من يستخدم هذه العلاقة السببية لتمرير أجندة سياسية.

٢- أن هذه العلاقة السببية خاطئة، وقد يقود تبنيها والعمل بناء عليها إلى إنفاق الأموال والجهود

 والوقت على أمر خاطئ.

٣- أن جانبا من الأجندة السياسية المقترحة المستغلة لهذه العلاقة تهدف إلى تضييق الحريات والخطاب الإعلامي أكثر مما هو ضيّق. وهذا قد نفكّر به بأنه امر مقبول في حالة طوارئ أو حرجة، لكن بناء على تحليل خاطئ؟ ما الذي يدعونا للقبول به.

٤- سبب شخصي بحت: أن هناك الكثير من الغباء خلف تبني هذا الطرح، وأنا صراحة يستفزني الغباء.

اترك تعليقاً