تمهيد

ليس مستغربا أن تحدث كارثة طبيعية في أي مكان في العالم، وليس غريبا جدا أن ينتج عنها قتلى ومفقودين… كل هذا وارد، ولعل الجانب الأعظم من قصة الإنسان على هذا الكوكب هو قصة صراع مع هذه الكوارث الطبيعية. الذي بدا غريبا جدا، وغير متوقع، هو كيف أمكن لكمية عادية، أو متوسطة على أكثر تقدير، من المطر أن تحدث هذا الكم الكبير من الخراب في مدينة تصنف على أنها ثاني أكبر مدن السعودية. حوالي مائة قتيل هي النتائج الرسمية المعلنة، والأخبار التي تتسرب من خلف الكواليس تقول إن الرقم أكثر من هذا بكثير… غطت الأوحال شوارع جدة، وتهدمت منازل، وسدت جسور، وملأت رائحة عفن جثث المواشي هواءها. كل هذا في مدينة تنتمي لدولة صنفت من ضمن الدول العشرين الأكبر اقتصادا في العالم!

سياسة الحكومة، التي اعتدناها، في التعامل مع مثل هذه الحوادث هو “التكتم”، وعدم الإفصاح عن حجم الكارثة، وطمأنة الناس بأن كل شيء “تحت السيطرة”، وأن “الوضع آمن وهادئ”. حاولت الحكومة إتباع هذه السياسة في الأيام الأولى، لكن وكما نقول في المثل العامي “الشق أكبر من الرقعة”. كانت الصور التي انتشرت في الانترنت، ومقاطع الفيديو على اليوتيوب، تعكس صورة مخالفة لما حاول الإعلام الرسمي تصويره؛ فما لبثت الحكومة ـ عبر أمر ملكي ـ أن اعترفت بأن كارثة ما قد وقعت، بل اعترفت بما هو أكثر: بأنها ليست كارثة طبيعية، بقدر ما هي نتيجة فساد. وبقدرة قادر، بدأنا نرى الإعلام ينشر صور الضحايا ويعقد البرامج التي تدين الفساد، وبدأت تتهاطل المقالات متناولة هذه الطاحونة “الدونكشوتية” الجديدة، التي تحملت وحدها مسؤولية الحدث، أعني بها “الفساد”.

حاولت في الأيام السابقة، تتبع ما كتبه المثقفون السعوديون في الصحف حول الحادثة، فوجدت الآراء في غالبيتها تدين الفساد.. لكنها اختلفت في من يتحمل الفساد، هناك من يشير إلى “جهات متعددة”، وهناك ـ كمعظم مقالات جريدة الوطن المملوكة لأمير مكة ـ من حاول تحميل المسؤولية بكل شيء، بهدف تبرئة الأمير من الحادثة، في محاولة وصلت إلى درجة الوقاحة في تحميل الناس جزءا من هذه المسؤولية، لأنهم سكنوا في بطون الأودية، كما تحدث بهذا جمال خاشقجي. وتم تمرير بعض المصطلحات الغريبة في هذه المقالات، كوصف الأحياء المنكوبة، بأنها “أحياء عشوائية”، لإخلاء مسؤولية أجهزة الحكومة عنها، وكأنها بنيت بلا فسح ولا صك. ووصف الحادثة بأنها كارثة طبيعية… للتقليل من مسؤولية أجهزة الدولة، وفتح المجال لشركات التأمين لعدم تعويض الخسائر.

جاء الأمر الملكي، ليسد الباب أمام هذه المحاولات. فقد وصف الحادثة بأنها لا تصل إلى مستوى الكارثة الطبيعية، ولم يحمل الناس مسؤولية ما حدث، بدليل أنه أمر بتعويضات مالية لأسر الضحايا. هذا الجانب الإيجابي من الأمر الملكي، لكن الجانب السلبي الخطر منه، أنه علق مسؤولية الحادثة في رقبة الفساد، وتم تشكيل لجنة للتحقيق في ذلك. وحتى على افتراض أن الفساد هو المسؤول عن كل ما جرى، فإن تشكيل لجنة يترأسها أمير المنطقة، تعني ضمنيا تبرئته من الحادثة… وتمهيد الطريق لتحميل المسؤولية لبعض مدراء الإدارات وتعويض المتضررين.

أما لماذا اعتبرته أمرا سلبيا وخطرا، فلأن هذه الطريقة التي تعاملت بها الدولة مع هذه الحادثة، لا تفضي أبدا إلى حل للمسألة. بل أقصى ما يمكن أن تفعله هو أن تُطهر بعض الإدارات الحكومية في مدينة جدة من المسؤولين الفاسدين، وتحميلهم كليا جريرة ما حدث وإقفال الملف بعد ذلك نهائيا. وتشكيل لجنة محددة جغرافيا بنطاق مدينة جدة، وجعل أمير المنطقة رئيسها، يعني أمرين اثنين: الأول، هو اعتراف ضمني بأن المشكلة جزئية ـ محصورة في إدارات مدينة جدة ـ وعارضة لا تمس هيكل الدولة نفسه وبنيته الأساسية. والثاني هو تبرئة الأسرة الحاكمة من تهمة الفساد، وحصرها بمدراء إدارات مدينة جدة.

وهدف هذه الورقة هو محاولة النظر للأمر من زاوية أخرى، زاوية تحمل مسؤولية ما حدث لنظام الدولة نفسه بهيكليته وبنيته الأساسية.. الأمر الذي يعطي معنى آخر للفساد، غير المعنى العرضي والطارئ الذي تحاول الدولة ترويجه عبر إقرار مثل هذه اللجنة، مما يفضي لحلول أخرى تماما، يمكن اختصارها بكلمتين: اللامركزية والديمقراطية.

إن الأطروحة الرئيسة لهذه الورقة، تُرجع سبب ما حدث في جدة إلى مشكلتين أساسيتين في جهاز الدولة نفسه: المركزية والطغيان. وتترعرع هاتان الخاصيتان في كنف دولة لم تحسم مسألة هويتها الوطنية بعد، ويعتمد اقتصادها بشكل رئيس على بيع سلعة واحدة ناضبة، وبهذا يتم تحويل الدولة إلى مرتع خصب لنمو وتشكل الفساد. فالفساد في الدولة ليس مجموعة من الأشخاص، ينتهي عبر طردهم، بل هو يعيد إنتاج نفسه باستمرار داخل الدولة، بحيث يجعلها وكأنها دولة مؤقتة، أو كعكة يتسابق الجميع على الاستفادة من حصتهم منها.

الفساد ـ كما يصفه الكاتب اللبناني جورج قرم بعيدا عن التقويم الأخلاقي ـ هو محض صفقة بين شخصين، يملك أحدهما المال ويملك الآخر السلطة. فيدفع الأول للآخر من المال ما يجعل الآخر يوظف سلطته لمصلحة الأول بما يناقض المصلحة المفترض على هذه السلطة تحقيقها. وتتحول هذه الصفقات إلى سلوك عام لدى موظفي دولة العالم الثالث، لأنها الوسيلة الوحيدة للإثراء، في ظل غياب الرقابة وسيطرة الدولة على كافة مجالات الثروة ومنافستها للقطاع الخاص في السوق، وعدم تشجيع الأخير، بحيث لا يتشكل إلا طفيليا يقتات على مشاريعها في الغالب. تزداد هذه الصفقات أهمية عندما تكون مثل هذه الدولة شديدة الثراء. وتصبح هذه “الانتهازية” الوسيلة الوحيدة للارتقاء الاجتماعي والاقتصادي، ويتم تمييعها وإخفاؤها عبر سلسلة من الإجراءات البيروقراطية، بحيث يصعب ضبطها ومراقبتها. بهذا المعنى لا يصبح الفساد اختلالا في اقتصاد البلد، بقدر ما يصبح “رد اقتصادي عقلاني على محيط اجتماعي-اقتصادي، مجرد من منطق وقواعد اقتصادية واضحة” (قرم، الفوضى الاقتصادية العالمية الجديدة). هذا ليس تبريرا للفساد، بقدر ما هو محاولة لفهم آلياته، فالإدانة الأخلاقية للسلوك الفردي والتهديد الوعظي الديني بالعذاب، لم تغير أبدا من هذا السلوك، كما أن محاولة حله بإنشاء مؤسسات حكومية لمراقبته لم تجد نفعا، لأنه ـ شيئا فشيئا ـ يصبح موظفو القطاع الرقابي الجديد جزءا من الصفقات المعقودة. وهذه البيئة تستدعي العلاقات التقليدية من قبلية ومذهبية ومناطقية، وتحولها إلى علاقات منتجة اقتصاديا، وفي هذه البيئة تتحول “الواسطة” إلى وسيلة ارتقاء اجتماعي واقتصادي ومصدر رزق.

من هذا المنطلق، يصبح تصوير محاربة الفساد بأنه محاربة لمجموعة من الأشخاص الفاسدين، تصويرا خاطئا، أو مبتسرا للفساد. لأن النظام نفسه بمركزيته وطغيانه يهيئ بيئة خصبة لهذا الفساد. فمشكلة الفساد في الدولة مشكلة بنيوية لها أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وليست مشكلة أشخاص… يتم البحث عنهم.

1 Response

اترك تعليقاً