بؤس التفسير الثقافي (١-٢)

كنت أود الكتابة في الاسابيع الماضية عن الآثار التي تركتها إدارة بوش في جيلي الذي أنتمي إليه. لكن حال دون ذلك الاحداث الرهيبة التي أنهى بها بوش فترته. أعني بجيلي، الجيل الذي تشكل وعيه إبان حرب الخليج حيث العرب يغزون عربا مثلهم، وتمثل له العالم بحسب الهيئة التي صوره بها الفكر الصحوي المؤثر الرئيسي في وعينا منذ الثمانينات. الذي يمكن تلخيص التصورات التي أمدنا بها بالتالي: فالتاريخ عبارة عن سيرورة انحطاط دائم عن العصور الأولى العظيمة، والواقع هو ارتكاس ممنهج عن تعاليم الإسلام الخالدة، وأن إصلاح هذا كله يكون عبر العودة للمثل الاسلامية والتطهر من كل ارتباط بالغرب وقيمه. هذا ما كان يقدم لنا في مدارسنا، وفي نشاطاتنا اللاصفية (التوعية الإسلامية)، وفي حلقات مساجدنا، وفي كل المحاضرات والاشرطة التي نستمع لها… كان التعامل مع الحياة بجدية، لا منفذ له ولا قناة إلا عبر المنافذ والقنوات التي سيطر عليها هذا الفكر. كانت الخيارات الأخرى أمامنا إذا لم نشأ أن نكون “مطاوعة” هي إما العربدة أو الاستغراق في الأنشطة الرياضية ومتابعتها…إلخ، لم يكن هناك أي خيار آخر غير صحوي أمامنا إن نحن أردنا بناء تصورات ومواقف جديدة جدية من العالم والاصلاح.

منذ منتصف التسعينات تقريبا: انفتح جيلنا على الثقافة والفكر العربيين، أو بتعبير أدق على إنتاج غير الإسلاميين من عرب الأقطار الأخرى. هذا الانتاج الذي سعى الفكر الصحوي لوضع كل الحواجز الذهنية بيننا وبينه… فالمفكر العربي لم يكن يتبدى إلا كعلماني، زنديق، شيوعي، داعية للغرب.. كان كل القوميين والليبراليين العرب مجرّمين مسبقا في أذهاننا، وكانت “الحداثة” تتمثل لنا كتهمة أكثر بكثير من كونها نعتا أو وصفا. كان الانفتاح في بدايته بطيئا، لكن زاد من وتيرته تقلص التأثير الصحوي وبروز وسائط حديثة غير خاضعة للصحوة ولا للدولة، كالفضائيات أولا، والانترنت بشكل خاص ثانيا. ثم أدى بعد ذلك زيادة هامش الحرية التدريجية في الصحافة، و 11 سبتمبر، والتوجه العام الرسمي للإصلاح سواء عبر التأثير المباشر لـ11 سبتمبر، أو من أجل الترتيب للانضمام لمنظمة التجارة العالمية… وبغض النظر عن التفاصيل الدقيقة يمكن القول: أنه حدث نوع من “إعادة اكتشاف” للفكر العربي. ومن هذه اللحظة أستطيع الحديث عن “بؤس التفسير الثقافي”.

كان الفكر العربي الذي التقى به جيلنا، ليس ذلك الفكر النهضوي في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ولا هو الفكر القومي الثوري الوحدوي في فترة الخمسينات والستينات. كان ذلك الفكر هو فكر ما بعد نكسة حزيران 1976، فكر هزيمة أكثر من كونه فكر نهضة، فكر مجروح في نرجسيته- إن شئنا استعارة مصطلحات جورج طرابيشي- أكثر من شيء آخر. وعلى الرغم من احتواء أدبيات هذه المرحلة من الفكر على الكثير من البكائيات والندب وجلد الذات، تلك التي يصفها أحدهم بالعنف، عبر استعراضه لعناوين كثيرة: الهزيمة والايديولوجيا المهزومة، دكتاتورية التخلف العربي، اغتيال العقل العربي، انفجار المشرق العربي، الاغتيال السياسي في الاسلام….إلخ. على الرغم من كل جلد الذات هذا، إلا أن أهم ما راج عندنا من هذه الادبيات، هو بالضبط ما اعتبره أحد مؤرخي هذا الفكر، أقصد محمد جابر الانصاري في كتابه “مساءلة الهزيمة”: “ومضات متتابعة لفعل العقل التحليلي والنقدي في قضايا المستقبل والتراث والواقع…”، و”حركة مراجعة فكرية وثقافية جادة قد بدأت في الحياة العربية” وذلك النزوع نحو “تأسيس ثقافة من نوع جديد لا تكرر خطيئة الأدلجة التي ضللت أجيالا عربية عديدة حيال قضايا السياسة والحياة والوجود والمعرفة، ولم تتح إلا ارتطاما مفجعا بالواقع والوقائع”.

ويمكن اختصار اتجاهات هذا الفكر في دراساته للتاريخ والواقع: بإعادة نقد كافة التصورات المسبقة عن التراث وتحويله لحقل دراسة تتوسل المناهج الغربية الحديثة، وإرجاع مشاكل الواقع إلى أنساق ثقافية يتم ربطها بالتراث، والدعوة للإصلاح عبر تبني قيم حداثوية تم “تتريثها”، أي إعادة اكتشافها في التراث من جديد كالديمقراطية والعقلانية…إلخ. يشدد هذا الفكر على أهمية نقد الثقافة وأولويتها على كل نقد، سواء كان ذلك عبر نقد تراثها أو واقعها، ويؤكد على القطيعة مع فكر ما قبل الهزيمة، عبر دمغه بتهمة “الأدلجة”.

وكنموذج على هذا الفكر، والذي يعتبر أكثر مفكر مؤثر بشكل عام وبجيلنا بشكل خاص، أقصد محمد عابد الجابري. والذي تتأكد سلطويته على جيلنا عندما نتذكر تكثيف الهجوم الذي شنه عليه أحد التائبين عنه والعائدين لحياض الفكر السلفي، عنيت إبراهيم السكران. فالجابري في “نحن والتراث” يؤكد على “سلفية” قراءات التراث السائدة: فالقراءة السلفية الدينية “قراءة لا تاريخية”، لا تنتج سوى فهما تراثيا للتراث، “التراث يحتويها وهي لا تستطيع أن تحتويه لأنها: التراث يكرر نفسه”. أما قراءة الليبرالي للتراث، فهي سلفية، لكن السلف هنا هذه المرة هي المرجعية الأوروبية، فهو “لا يرى فيه إلا ما يراه الأوروبي”، أي النظرة التي صنعها “الاستشراق”. أما القراءة الاخيرة التي ينتقدها، هي قراءة اليساري العربي الذي لا يسعى لتطبيق المنهج الجدلي كمنهج لـ “التطبيق” بل يتبناه كـ”منهج مطبق”. هكذا يقطع الجابري مع كل القراءات السائدة، مبشرا بقراءته التي يعبر عنها كـ”نقد علمي للعقل العربي”. هذا بخصوص نقد التراث، أما بخصوص إخفاقات الفكر العربي، ففي “الخطاب العربي المعاصر”، وفي خاتمته تحديدا، ينتهي الجابري بالحكم على زمن الفكر العربي المعاصر بأنه “زمن ميت أو قابل لأن يعامل كزمن ميت”، وبأن هذا الخطاب العربي النهضوي “لم يستطع… طوال المائة سنة الماضية إعطاء مضمون واضح ومحدد، ولو مؤقتا، لمشروع (النهضة) التي يبشر بها”. “لقد فشل (العقل العربي)، إذن، في بناء خطاب متسق حول أية قضية من القضايا التي ظلت تطرح نفسها عليه طوال المائة سنة الماضية”. ويا ترى من يتحمل مسؤولية هذا الاخفاق الشنيع؟ تأتي الاجابة الجابرية: “لا بد من تحميل القسط الأوفر من مسؤولية هذا الفشل لما عبرنا عنه سابقا بهيمنة النموذج-السلف على الفكر العربي ونشاطه”.

ومن هذه الاجابة الذي جاءت في بدايات الثمانينات، طغى هذا النوع من التفسير الثقافي على الفكر العربي، أي بإرجاع خيباته لأسباب “ثقافية ومفاهيمية”، على طول الفترة الممتدة من تلك اللحظة وحتى يومنا هذا. إن عنوان هذه المقالة يحكم على هذا النوع من التفسير بأنه بائس… لماذا يا ترى؟ هذا ما أجيب عنه لاحقا…

اترك تعليقاً