خرافة الأشياء الدخيلة!

كنت أستمع للإذاعة وأنا في طريقي للرياض قادما من القصيم، وكان المذيع يستطلع آراء جمهوره عن موقفهم من دبلة الزواج. كل هذا أمر عادي، ما أثار انتباهي: رسالة جاءت من أحد الجمهور يقول فيها: أن الدبلة عادة دخيلة. هنا تناثرت الأسئلة على رأسي: ماذا يعني بقوله دخيلة؟ وهل كون العادة “دخيلة” هذا يعني أنها بالضرورة مرفوضة؟
لنبدأ بالسؤال الأول: ما معنى كون العادة دخيلة؟ إن وصف عادة ما بأنها دخيلة، هذا يعني الإقرار ضمنيا بأن عادات المجتمع كلها أصيلة، ولا توجد من بينها أي عادة وافدة. وهذا ما لا يستطيع ادعاؤه أحد، فالكبسة مثلا، هذه الأكلة الشعبية الأولى، بكل ما يحيط بها من آداب: أليست وافدة؟ لا يماري أحد في ذلك… فهي ببساطة لا تزرع في هذه الصحراء. حسنا، طالما أن العادات التقليدية هي مزيج بين الأصيل والوافد، لماذا هذه الحساسية مع وافد جديد؟ السبب يتمثل فيما أسميه “وهم الأصالة”. فلأن ذاكرتنا التاريخية معطلة، تسلل من خلال هذا العطل وهم يؤكد باستمرار: فرادتنا، أصالتنا… وأخيرا خصوصيتنا. هذا الوهم، كأي وهم، يستمد سلطته من استشراء الجهل وتحفيز العصبية، فيكون محاطا بسياج حديدي أمام أي تساؤل وتفكير. هذا الوهم يعكس أيضا قلق المجتمع من فقدانه لهويته، فالمجتمع الذي تقبل تدفق الوافد، الذي كان يتدفق ببطء يسمح له بالانسجام والتكيف، يحيط نفسه اليوم بسد منيع من تقبل أي وافد، الذي تسارعت وتيرته وتعاظمت سلطته… مما يجعله يهدد الهوية، تلك القيمة التي لا يستفز مجتمع ما أيما استفزاز، إلا عندما تصبح مهددة.
أنماط التمدن والتجمع الحديثة تحوّل المدينة إلى مكان وظيفي تماما، مكان للسكن، للعمل، للترفيه، مكان يتلائم مع أي كان… ولا تأبه كثيرا بهوية المجتمع. والرياض نموذج لهذا الأمر: ماذا تبقى من الرياض القديمة؟ ما الذي تبقى في الرياض خاصا ومميزا عدا جوها؟ لا شيء، فالرياض اليوم مدينة مليونية تؤدي لأقرادها الخدمات التي يحتاجونها كي يعيشون، لكنها تهمل جانبهم المعنوي. وبكلمة واحدة: كلما ازدادت وظيفية المدينة، كلما اتجهت لفقدانها هويتها. فلأنها مزدهرة يفد إليها الناس من كل مكان، وتختلط اللهجات واللغات، تتشكل عادات جديدة من الاشخاص الجدد، وتتخلق عادات أخرى يفرضها التمدن. وعندما يحدث هذا كله دفعة واحدة لمجتمع لم يتعود إلا على التغير البطيء جدا، فطبيعي أن يتحسس من الأشياء الدخيلة… وطبيعي أن تترادف لفظة “دخيلة” في قاموسه مع لفظة “مرفوضة”. هذا الترادف، يمكن النظر إليه كنتيجة للتركيز الذي حظي به الازدهار العمراني والاقتصادي، دون الاهتمام بالإنسان وتأهيله على خط مواز لتأهيل مدينته ووسطه. فأدى هذا التخلف، لمعاداة الوافد، للتحسس منه، ووضعه دائما موضع ريبة.
أنا هنا لا أريد أن أحامي عن الوافد، لكني أريد توضيح نقطة تكاد تبدو واضحة وبديهية، لكنها دوما ما تنسى وتغيب خلف أسوار وهم الاصالة الذي تحدثت عنه للتو. والنقطة التي أقصد هي أن معيار الحكم على الوافد ليس كونه وافدا… بل العديد من الأشياء: كمدى جدواه، وتوافقه مع ما نحمله من قيم… لكنه أبدا لا يمكن أن يكون: من أين أتى؟ أو: هل أتانا من الخارج؟
التحسس من الدخيل، قد يكون تحسسا معنويا أكثر منه واقعا ملموسا، فنحن من أكثر الشعوب التي اكتست جوانب حياتها بكل وافد، لكن حتى هذا التحسس المعنوي يؤدي مهمة سلبية تماما في التعامل مع ما يعتبره دخيلا، فهو عندما يتعامل معه يتعامل معه كواقع مفروض، كضرورة لا محيد عنها. فأنا أعرف الكثير من الذين يتذمرون جدا من بنطال الجنز الذي يفرضه عليهم وسط العمل الذي يعملون به، يتذمرون منه فقط لكونه “وافدا” و”دخيلا”. وهذا النوع من النظر يلغي التلاقح مع هذا الوافد، مما يمهد لتحوله سلطة عظمى تتحكم فينا، على الرغم من كل ما نكرره من رفضنا إياه انطلاقا من وهم الأصالة الذي نحتمي تحته!

1 Response

اترك رداً على Magda إلغاء الرد