كوبا والتهوين من شأن الديمقراطية

قبل ثلاثة أعوام، وفي الذكرى الحادية والستين لوصول الضباط الأحرار إلى السلطة في مصر، جرى نقاش حاد حول التجربة الناصرية. صحيح أن هذا النقاش يتكرّر بشكل مستمر بين عدة تيارات عربية، إلا أن ما يميز النقاش في تلك السنة أن الحادثة جاءت بعد عشرين يوماً من إنهاء عبدالفتاح السيسي التجربة الديمقراطية في مصر، حيث كان جزء من الخطاب الذي اتكأ عليه لتبرير وصوله إلى السلطة هو تقديمه نفسه باعتباره امتداداً لجمال عبدالناصر، في وقتٍ كان فيه أنصار الرئيس محمد مرسي معتصمين في ميدان رابعة العدوية، قبل أن يتم فض اعتصامهم بمجزرة كبيرة في الرابع عشر من أغسطس/ آب.لهذا السبب، كان مرور تلك الذكرى، في ذلك الوقت، مناسباً لكل الأطراف لتبادل الاتهامات من أجل توظيف الماضي، لتبرير الحاضر، وكذلك توظيف الحاضر لإدانة الماضي. من بين الحجج التي ردّدها خصوم السيسي والانقلاب أنه: ادعاء السيسي صحيح، هو فعلا امتداد لعبد الناصر، كلاهما عسكريان حاولا إسقاط حالة ديمقراطية لإقامة نظام مستبد. حينها، كتبت في مقال بعنوان “بؤس المعيار الديمقراطي” “صحيح أن الديمقراطية مهمة، صحيح أن غيابها أحد الخطايا الكبرى لتجربة عبد الناصر، لكنها ليست المعيار الوحيد للحكم على التجارب السياسية، فهناك أيضا معايير أخرى، مثل الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية”.

توفي الزعيم الكوبي، فيديل كاسترو، قبل أيام، وكما هو متوقع، كرّر أصحاب معيار الديمقراطية محاججتهم نفسها: ليس ديمقراطياً؟ إذن، لا قيمة له. لم يكن خروج مثل هذه المحاججة منهم مفاجئاً، بل ما كان مفاجئاً ردود من المدافعين عن تجربة كاسترو من يساريين واشتراكيين. لنتفحّص، مثلاً، مقالة عامر محسن في صحيفة الأخبار البيروتية “عن كوبا والاشتراكية والسعادة”. قدّم الكاتب مجموعة من الحجج، يحاول في واحدة أن يبين أن كوبا ليست فقيرة، ويهوّن، في ثانيةٍ، من شأن انعدام الديمقراطية في كوبا.

يكتب، في حجته الأولى، ردّا على من يدّعي أن كوبا فقيرة إنها “من أثرى دول الكاريبي”، 

“أمر مذهل أن يتفق اشتراكي ونيوليبرالي في موقفهما من الديمقراطية” ويوضح ما يقصده بـ “أثرى” أن معدل دخل الفرد فيها أعلى من غيرها بالقيمتين، الدولارية والشرائية. أولا، لماذا حصر المقارنة فقط مع دول الكاريبي؟ هل يصح مثلاً أن استنتج أن اليمن ليست فقيرة، لأن معدل دخل الفرد فيها أعلى من بقية دول القرن الأفريقي (إثيوبيا وإريتريا والصومال وجيبوتي)؟ ستكون نتيجة مضحكة. وما يزعج حقا أنه، على الرغم من اعتباطية المقارنة بدول الكاريبي، إلا أنه لم يتحرّ الدقّة فيها، ذلك أن ترتيب كوبا، من ناحية دخل الفرد، هو التاسع من بين اثنتي عشرة دولة ودويلة في الكاريبي.

ليست معضلة محسن في هذه المقارنات الكميّة الاعتباطية، بل في محاججته الثانية ضد من سماهم “الديمقراطيين العرب”، فهو يردّ على تهوينهم من شأن سياسات كاسترو الاقتصادية والاجتماعية بتهوينٍ من شأن الديمقراطية نفسها. فبالنسبة له، “الهدف من الانتخابات وتبادل السلطة والنّظام السياسي” هو “ضمان الأمان والكرامة للمجتمع”، والأخيرة أمور “مثل تعليم الشعب، وتأمين الرعاية الصحية اللائقة، وتوفير الأمن الغذائي للجميع”. يذكّرني هذا الردّ بمقالة لمدير قناة العربيّة، تركي الدخيل، نشرها في بداية الربيع العربي، وتبرّر رفضه الديمقراطية في دول الخليج بحجة بسيطة: إذا كانت التنمية هي الهدف من الديمقراطية، فدول الخليج حققتها، فما الحاجة لها؟ إنه لأمر مذهل أن يتفق اشتراكي ونيوليبرالي في موقفهما من الديمقراطية.

تتعامل مثل هذه الحجج مع مسألة الديمقراطية بطريقة أداتية، أي أنها تصوّر الديمقراطية وسيلة لتحقيق أمر آخر، الأمان الغذائي والتعليم بالنسبة لمحسن، والتنمية بالنسبة للدخيل؛ وهما 

“المشاركة في اتخاذ القرار، واختيار من يحكمك، والتداول السلمي للسلطة ليست غايات مطلوبة في ذاتها” بالمناسبة شيء واحد، فإذا استطاع النظام تحصيل هذا المطلب بدون ديمقراطية، فهذا يجعلها بلا قيمة. أي أن المشاركة في اتخاذ القرار، واختيار من يحكمك، والتداول السلمي للسلطة ليست غايات مطلوبة في ذاتها، وإن وجودها في مجتمع ما يجعلها تحقق جانباً كبيراً من كرامة الإنسان، بطريقةٍ تتيح له أنه يلعب دوراً في تحديد مصيره، وأنه ليس قاصراً بحاجة لطليعة أو نخبة ما، تزعم في نفسها حكمةً متعاليةً تتيح لها تحديد ما هو الأصلح للناس، من دون أخذ رأيهم.

انتقاد الاقتصار على معيار الديمقراطية مهم، والأهم منه انتقاد التهوين منها، والتعامل معها بشكل أداتي، فهي (الديمقراطية) مهمة بالمقدار نفسه، إن لم يكن أكثر، الذي يكون فيه الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية والتنمية مهمة. وعوضاً عن البلادة الفكرية بالاقتصار على واحدةٍ من هذه الجوانب، واعتبارها معيارا للحكم على الأنظمة الحاكمة، لا بد من الاعتراف بوجود علاقةٍ متوترة بينها، وأنه لا يمكن الحصول عليها كلها دفعةً واحدة، والتفريق بين التمييز الأولوي لواحدةٍ منها لأجل أخرى في سياق محدّد، وبين تبرير تغييب إحداها عبر تقديم أخرى. مثل هذا العمل الأخير يحتاج مجهوداً فكرياً أكبر، بعيداً عن الأحكام الجاهزة المعلبة والتبريرية.

اترك تعليقاً