المدخل

(مناقشة علمية)… (والرهان على العلم)… (وسنتجاوز ذلك لإختبار مدى علمية هذا النقد)… هذا التلويح بالعلم الذي نجده مبثوثا في كثير من كتابات إبراهيم السكران الممتدة من (مآلات الخطاب المدني) وحتى (ذرائع الإصلاحيين) هو الذي سأحاول مناقشته في هذه المقالة. فأنا، ومنذ (مآلات الخطاب المدني) لاحظت أمرا لم ينفك عن التنامي والتضخّم في كتابات السكران حتى أصبح هو الطاغي والمسيطر، عنيت (منهج التزييف) في تأكيد نتائج قد قررت مسبقا تحت مسمى (العلم) و(الموضوعية).
لن أخوض في تفصيل تعريفات مفهوم العلمية وشرح الخلاف حوله، بل سأنطلق مباشرة في هذه المقالة من أبسط شروط العلمية والموضوعية، وهي الاستسلام لنتائج المنهج المستخدم بغض النظر عن ماهية هذا المنهج… فالباحث يكون علميا وموضوعيا فقط إذا استسلم لنتائج المنهج الذي ارتضاه للبحث. وأضع هذا الشرط البسيط للعلمية مقابلا (لمنهج التزييف) الذي يستخدمه السكران وهو عبارة عن تطويع للأدوات البحثية والمنهجية من أجل تقرير نتائج مقررة مسبقا.
وكما ذكرت مسبقا، يمكن ملاحظة بداية تشكل هذا المنهج التزييفي لدى السكران منذ (مآلات الخطاب المدني) ففي هذا البحث وفي إحدى فقراته المعنونة بـ(الافتتان بالقوة المادية لخصوم النبوات) ومن أجل أن يؤكد السكران دعواه العامة بأن (جوهر الصراع القرآني أساسا بين المظاهر المادية والمبدأ الديني) وأن (افتتان الناس بالقوة المادية يخلب ألبابهم ويعشي أبصارهم ويصرفهم عن الانصياع والاستسلام للوحي)، راح يقرأ سير الانبياء من هذه الزاوية بأنها صراع بين المفتونين بالقوى المادية وبين الانبياء المحرومين منها. وفي معرض قراءته هذه، وتحديدا عندما وصل إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم قال التالي:
“وبكل صراحة واجهوه (= يقصد كفار قريش، واجهو الرسول) بأنه لا يملك (ثروة مادية) يستحق بها أن يتبعوه كما ساق تعالى احتجاجهم في سورة الفرقان بقولهم: (أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة يأكل منها) وبعد هذه الآية مباشرة يعقب سبحانه وتعالى علي هذا الاحتجاج المادي الرخيص بكونه لا يعجزه سبحانه ذلك ولكنه أراد امتحانهم واختبارهم فقال سبحانه وتعالى: (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا) “ أ.هـ
هنا تحديدا، يستطيع أي منا العودة إلى آيات سورة الفرقان الأصلية، لينكشف له بسهولة حجم (التزييف) المكثف الموجود في هذا الاستدلال. يقول الله تعالى: (وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنّة يأكل منها، وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا). الآن بعد استعادة السياق كاملا: هل يمكن فهم احتجاجات قريش بأنها احتجاجات على كون الرسول لا يملك (ثروة مادية)؟ الجواب طبعا لا. فأي قارئ للعربية يستطيع استنباط أن منشأ الاعتراضات هنا هو أن الرسول بشر عادي (يأكل الطعام ويمشي في الأسواق)، فأي شيء يميزه حتى يكون نبيا؟ فلو كان معه ملك أو نزل عليه كنز أو كانت له جنة لأمكن حينها تصديق ادعاؤه النبوة، هذا هو جوهر احتجاج كفار قريش ومصدر مطالباتهم المتنوعة للرسول: تارة كنز وتارة جنة وتارة أن يصعد للسماء وأن ينزل منها بكتاب وتارة وأن يفجر من الأرض ينبوعا وتارة أن يأتيهم بالملائكة… وغيرها من المطالبات التي من خلالها أراد كفار قريش تأكيد مسألة واحدة، وهي (عجز) الرسول عن أن يكون أكثر من بشر عادي، وبالتالي يخلصون إلى نتيجة مفادها أنه ليس إلا (رجل مسحور). هكذا هو السياق الذي وردت فيه هذه الاحتجاجات والتي هي أبعد ما يكون عن الاعتراض على عدم امتلاك الرسول للثروة المادية لأن الرسول أصلا كان غنيا (ووجدك عائلا فأغنى)، أو على الأقل لم يكن فقيرا حتى وفاة زوجته خديجة رضي الله عنها.
من مثل هذا النوع من (الاستدلالات المزيفة) المبثوثة في أرجاء (مآلات الخطاب المدني)، ابتدأ السكران طريقه نحو تشكيل منهجه التزييفي الذي عبر تغليفه بمسميات (العلمية) و(الموضوعية) راح يؤلف كتاباته ومقالاته المتنوعة، والتي بقليل من الرؤية النقدية يمكن تكشف ملامح هذا المنهج التزييفي، وهي الملامح التي سنجمل تناولها في الفقرة القادمة.

اترك تعليقاً