عرّاد

(١)

الكلّ يعتبره أسطورة، اخترعتها مخيّلة مساجين ’الحائر‘..
وعلى الرغم من عدم تصديقهم به، إلا أن حكاياته وقصصه هي الوحيدة التي يتم تناقلها عبر اجيال المساجين منذ أكثر من أربعين عاما!
القليل فقط من كبار المساجين، يؤكّدون على صحّة ما يروى عنه، وأنهم رأوه وجالسوه، بل يروون أنهم تناولوا عشائهم معه، ولكنهم لا يجرؤون على البوح بأي كلمة تتعلق بسيرته. كل الذي يؤكده بعضهم أنه توفي قبل 4 سنوات، ولا يقولون شيئا آخر غير ذلك. يعللون هذا الصمت المطبق بأنه “اللي يبي ينقطع لسانه، يهرج عن عرّاد” و”وش طيّر راس الدغيماني إلا سواليفه عن عرّاد”.عرّاد، أو ’أمير الرجال‘ أو ’مذبّح التسلاب‘، كما يفضّل مساجين الحائر تسميته، ورغماً عن كل الأكاذيب التي تحيط بسيرته إلا أنه شخصيّة حقيقيّة غريبة الأطوار. وبالإمكان تتبع حكايته الحقيقية عبر عدد الروايات اللامتناهي التي تروي سيرته الغريبة.
تبدأ القصّة من مطار جنيف، عندما أمسك عرّاد الجرائد السعودية التي تُوّجت بعناوين متشابهة: “المخترع السعودي الحائز على جائزة نوبل يصل اليوم إلى الرياض” ، “سيّد الروائح ’عرّاد‘ يستقل طائرته عائدا إلى الرياض” ، ” مدشّن ثورة الإتصالات الجديدة ينطلق اليوم من جنيف”…كلّ الجرائد لا تردد سوى هذا الخبر، وابتسامة على محيّا عرّاد لا تنفكّ تتسّع كلما قرأ عبارات التمجيد والفخر. ألقى بالجرائد جانبا واستوى على مقعده، شادا حزام الأمان، وراح يتذكّر تلك الثواني السريعة عندما تقدّم إلى المنصّة لإستلام الجائزة، كانت تلك اللحظات كالحلم تماما، مشوّشة وسريعة وغير واضحة وتتابع بلا انتظام، ولكنها لذيذة، تزداد لذتها كلما تشوّهت أكثر في الذاكرة.
انقلبت حياة عرّاد رأسا على عقب. فحياته ، قبل الجائزة، كانت رتيبة جدّا لا معنى للإثارة والتغيير فيها. من بيته في السكن الجامعي إلى معهد البحوث في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن. يمضي في المعمل من 8 إلى 10 ساعات يوميّا. لا يكترث كثيرا بأحداث يومه، لا يطالع الأخبار أبدا، ولا يقرأ الجرائد نهائيا. وعندما صُدم العالم بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، كان في المعهد يجري بحثا على أنوف مجموعة من الفئران. بل حتى عندما أُخبر بهذا الخبر، لم يستوعب مدى أهميته وأثره في نفس اللحظة. ولكن عندما اُضطّرّ إلى أن يبتاع بعض الأجهزة من الولايات المتحدة الأمريكية ولاحظ فارق التعقيدات في امداده بما يريد من الأدوات، تمكن هنا من استيعاب الفارق الذي أحدثه 11 سبتمبر.
عرّاد لم يتزوّج، وعلاقته بالنساء شبه محدودة، لا يتذكر منهنّ سوى والدته التي توفيت بعد انتهاءه من دراسته الثانويّة، وفتاة صغيرة تعرّف عليها أيّام الروضة. بل حتى إن مهاراته الاجتماعيّة في التواصل مع الآخرين ذبلت وتلاشت وأصبح يبدو لمن يراه أوّل مرّة كالمخبول أو غريب الأطوار، وهذا الأمر دعى رئيس قسم الهندسة الكيميائية في الجامعة لإعفاءه من تدريس الطلاب وتفريغه تماما للبحث العلمي.
كل هذا قبل أن يخترع اختراعه، ولكن بعد انتشار خبر اختراعه، تسارع إيقاع حياته بشكل جنونيّ: المقابلات الصحفيّة، الندوات، اللقاءات المتتالية، المحاولات الكثيرة لاستغلال اسمه دينيّا وسياسيّا وترويجها إعلاميّا. كل هذا قبل أن يتم ترشيحه لجائزة نوبل، ومّا أن تمّت دعوته إلى جنيف، وكانت هذه المرّة الأولى التي يسافر فيها خارج البلاد، حتى ضجّت وسائل الإعلام المحليّة بهذا الخبر، وبدأ بعض الكتّاب المغمورين بعقد مقارنات بين الإنجاز الذي حققه عرّاد ومطبعة غوتنبرغ، أو المحرك البخاري ، أو التلغراف ، بل بالغ أحدهم بمقارنة اختراعه باختراع العجلة !
ما إن عاد من جنيف، حتى استقبله أمير الرياض وبعض الوزراء، ويقال أنه تمّت دعوته لقصر الملك، الذي كرّمه وخلع عليه لقب “صاحب السمو” كأول حادثة من نوعها في البلاد، ووعده الملك أمام الملأ بأن يحوّل هيئة الاتصالات إلى وزارة ويجعله أول وزير عليها. ومع كل هذه الضجّة الإعلاميّة التي طار عرّاد بها فرحا في بداية الأمر، إلا أنه أحسّ بالضجر والسأم من كل هذه المظاهر والتضخيم، هذا غير إحساس بالتهميش بدأ يتشكّل في وعيه، فكل هذه الضجّة لم ترتبط به هو كمخترع، وإنما ارتبطت باختراعه، وتكريمه والاحتفاء به إنما حدث فقط لأنه صادف وأن كان هو المخترع.
كل مساجد البلاد، يوم الجمعة، تحدثت عن عرّاد واختراعه، وخصص خطيب الحرم المكي خطبته حول عظمة الإسلام الذي لم يعادِ العلم وأمر أتباعه بالنظر والتعلّم. وبعد الصلاة، كان الناس كلهم على موعد مع اللقاء التلفازي الأول بعرّاد بعد حصوله على جائزة نوبل. يحكي أحد الشيوخ الذين ما زالوا على قيد الحياة: كانت الشوارع شبه خالية، وجميع البلاد متسمرّة أمام التلفاز، يقول “الخبز .. الخبز ما تقدر تشريه، كلٍ يناظر التلفزيون .. حتى المطاوعة!”
بدأ اللقاء بأسئلة تقليدية عن مشاعره بعد فوزه بهذه الجائزة، وبعدها استفسر المذيع قائلا:
-هلّا تحدثت بشكل مفصّل عن هذا الاختراع ؟
-حسناً ، هذا سؤال جيّد، فكلّ الذين عقدوا مقابلات معي لم يسألوني أبداً مثل هذا السؤال. فكرة هذه التقنيّة بسيطة، تدور حول نقل الروائح من مكان لآخر، أو تخزينها واستعادتها من جديد. فكما أننا هنا في هذا الاستوديو، نستطيع نقل أصواتنا وصورنا لكل المشاهدين، فإن التقنيّة التي قمتُ باختراعها تستطيع نقل روائحنا كذلك بدقّة تصل إلى 96 بالمائة…
-سيّد عرّاد، عفواً، ما أعرفه أنا هو أن الروائح عبارة عن مواد متطايرة، أي أنها ليست عبارة عن موجات كالصوت مثلاً، فكيف استطعت التخلص من هذه المشكلة ؟
-في الحقيقة أن هناك مشكلتين اثنتين كانت تواجهنا مع الروائح: الأولى أنها ليست كالألوان يمكن أن نرجعها إلى ثلاث ألوان رئيسية ، ونستطيع من هذه الألوان الثلاثة أن ننتج جميع الألوان التي نراها. لا توجد روائح أساسيّة، وهذه كانت المشكلة الرئيسيّة، وقد قضيت قرابة العشرة سنين في البحث عن هذه الروائح الأساسية.. حتى خلُصت إلا أنها غير موجودة.
المشكلة الأخرى كانت تتمثّل في البحث عن مجسّات تستطيع ان تحوّل الروائح من مواد وعناصر وجزيئات إلى أي خاصيّة كهرومغناطيسيّة.
-وكيف استطعت حلّ هاتين المشكلتين ؟
-صراحةً، المشكلة الاولى، لم أحلّها، وإنما قمت بالتعامل مع كل رائحة على حدة، تخزينا وانتاجا ونقلا. بالنسبة للمشكلة الثانية، فالذي قمت به هو أنني استطعت تمييز المركبات التي تتكوّن منها الرائحة، واستطعت التحكّم في إعادة انتاجها عن طريق توزيع نسب معيّنة للمجالين الكهربائي والمغناطيسي.
امتدّ الحوار، حتى أكمل الساعة. وبعد انتهاءه مضى عرّاد لمنزله، ومنذ هذه اللحظة تفترق الروايات، منها ما يقول أن عرّاد كان يخفي شخصيته الحقيقية خلف الشخصيّة اللامبالية التي كان يبدو عليها لتحقيق أهدافه التي تمثلت في أحداث 13 يوليو، ومنها ما يقول ، خصوصا ما ردده “سرهد الدغيماني”- زميله في الزنزانة، أنه تم استغلاله، المؤكّد أنه ما أن فتح باب منزله حتى أحسّ بشيء ثقيل يسقط على رأسه فوقع على إثره أرضا مغشيّا عليه!

(٢)

كانت الرمال الذهبيّة أوّل ما رأته عيناه، وكان الألم في رأسه أوّل ما شعر به. وبالتدريج، بدأ باستعادة وعيه، فعرف أنه في مكان ناءٍ في جوف الصحراء، وأنه مشدود الوثاق، ولا يرى خلفه سوى خيمة صغيرة.مرّت فترة قصيرة، فإذا بثلاثة رجال ملثمين يتقدمون إليه، امتلأ عرّاد منهم رعبا .. وبدأت قدمه اليسرى ترتجف، لاحظ أحد الثلاثة هذا الاضطراب، فطمئنه قائلا بصوت هادئ:
-لا تخف، لن نؤذيك ..
-ما .. ماذا تريدون مني؟
أدخل أحدهم يده في جيبه بهدوء وهو ينظر إليه، فأخرج سواكا، فكّ لثامه وبدأ بالتسوّك أمامه. طالع عرّاد، في عينيه تماما، ثم قال:
-هل تعرف شيئا عن الفايروسات يا عرّاد ؟
-نعم ، أعرف معلومات عامة.
-طبعا تعرف أنها كائنات نصف جامدة ونصف حيّة ؟
-نعم ، أعلم ذلك.
-جميل جدّا
طالع صاحبيه، وأومأ لأحدهما برأسه، فهبّ ذاك من مكانه واختفى لفترة ثم عاد، يحمل محلولا صغيرا وصورة كبيرة، مدّها لصاحبه الذي أمسك الصورة، ووضعها أمام عينيّ عرّاد، وقال:
-هذه صورة أحد الفايروسات ، التي نريد منك أن تساعدنا على نقلها ..
-نقلها ؟!
-نعم، انت ذكرت في مقابلتك انك تستطيع نقل الجزيئات، نحن نريد منك أن تنقل هذا الفايروس من مكان لآخر عبر الجوّال، مثل الروائح تماما. ألست أنت الذي مكننا من تبادل روائحنا ؟ مالذي يمنعك من نقل الفايروسات أيضا عبر الجوّال ؟
هنا لمعت عينا عرّاد ، وامتلأ رأسه بالأفكار ، وتمتم بصوت مسموع:
-جميل جميل جميل ، فكرة رائعة ..
ألقى ذاك الصورة من يده وقام إلى عرّاد ، وأمسك يديه، وقال له بعد أن أقترب من عينيه:
-سنعيدك الآن لمعملك، وسيكون أمامك سنة واحد فقط، إن لم تستطع إنجاز هذا العمل فسأحرمك الحياة !
ردّة فعل عرّاد كانت لا مباليّة نوعا ما ، أجاب :
-لا عليك ، لن اكمل السنة، ولكن ربما ساحتاج بعض المعدات والأدوات.
-أطلب ما تشاء وسامدّك به، لكن هناك أمران اثنان إذا خرقتهما فثمنهما روحك السَنة ، وأن تخبرَ أحداً بالذي جرى بيننا.
هنا صرخ عرّاد بحنق:
-طبعا لن أخبر أحد ، أتريدهم أن يسرقوا فكرتي ؟
رفع ذلك الرجل السواك إلى فمه وقام بالتسوّك والابتسامة تعيد تشكيل لحيته الكثّة ..
عاد عرّاد إلى الظهران، ولم يخبر أحدا بأي شيء. هذه الفترة من حياة عرّاد متضاربة، فالتاريخ يقول أن الملك وعده بالوزارة، ولكن روايات المساجين تقول أنه عاد إلى معمله ليزاول نشاطه من جديد، المُرجّح، حسب سجلات معهد البحوث، أنه عاد للمعمل متابعا نشاطه.
بعد ثمانيّة أشهر ، وتحديدا في شهر يوليو، حيث تتحوّل الظهران إلى حمام سونا كبير، تعالت صرخة داخل إحدى معامل معهد البحوث في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن … كانت الصرخة منبعثة من معمل عرّاد الذي أخذ يجوب الممرات وهو يهتف:
-فعلتها … فعلتها…
مسؤول المعامل الباكستاني لم يشاهد عرّاد يقوم بهذه الأفعال الجنونيّة إلا مرة واحدة فقط، كان ذلك في اليوم الذي أنجز فيه تقنيّة نقل الروائح. “ماذا الآن؟” تسائل الباكستاني بينه وبين نفسه.
عرّاد ، بالمقابل، توجّه لجوّاله، وتحدّث لصاحبه، وأخذ يحدثه بحماسة شديدة : “لن أقول لك شيئا على الجوّال، عليك أن تأتي لتشاهد بأم عينك”. بعد ساعتين، شاهد الباكستاني رجلا مهيبا يمشي بهدوء إلى حيث معمل عرّاد.
تسلل الباكستاني، وأخذ يطلّ من زجاج باب المعمل. شاهد عرّاد وهو يشرح لذلك الرجل، كان يحرك يديه في كل الاتجاهات ويشد شعره ويدور حول نفسه كل هذا وذاك الرجل واقف وقفة واحدة هادئة. بعد قليل أمسك عرّاد بجهاز لاسلكيّ وهو يشير بيده إلى صندوق زجاجي يحجز جرذ صغير. قام بالضغط على بعض الأزرار، وما هي إلا لحظات حتى سقط ذلك الجرذ صريعا.
هال هذا المشهد، العامل الباكستاني، فانسحب بهدوء إلى مكتبه. يُقال أن هذا الباكستاني هو الذي وشى بعرّاد فيما بعد، ويقال أن الإنتربول هو الذي اكتشف ضلوعه في حادثة 13 يوليو.بعد دقائق من هذه التجربة، خرج ذلك الرجل ومعه شنطة صغيرة، وهو يداعب أسنانه بسواكه العريض.
بعد سنة من هذه الحادثة، حدثت أحداث 13 يوليو، كان عرّاد غارق في إحدى تجاربه، حتى دخّل عليه العامل الباكستاني فجأة وصاح به:
-مات كلّ الأمريكان !
كان عرّاد يأخذ بعض القراءات، وكأنه لم يسمع شيئا، بعد أن أتمّ أخذ القراءات التفت على العامل الباكستاني الذي اختفى لون وجهه:
-ما الأمر؟
-ماذا ! أقول لك أن الأمريكان ماتوا ! كلهم!
ضرب عرّاد كفّا بكفّ، وقال:
-يااه، سنجد صعوبةً في استجلاب المعدّات إذن!
نظر إليه الباكستاني بإحباط ثمّ خرج من الغرفة…
نهاية عرّاد : أسطورة أكثر منها تاريخ، لا نعلم على وجه الحقيقة كيف كانت نهايته، بل لا نعلم هل مات فعلا أم لا؟ سرهد الدغيماني، الذي حكى أغلب هذه الحكاية، يزعم أنه قد صاحبه في زنزانته، وأن عرّاد سُجن بسبب ضلوعه في أحداث ’فناء الأمريكان‘ التي حدثت في 13 يوليو، ويقال أنه أبقي عليه في مكان بعيد وواصل مزاولة عمله في معامل الدولة، وهناك من ينكر وجود مثل هذه الشخصيّة كليّا…

سلّال بن عاطش بن سرهد الدغيماني
٥ سبتمبر ٢٠٦٤م
انتهت

2 Responses

  1. القصة اعجبت
    ني ف اسقاطاتها الرمزية، واعجبتني مقدرتك انك تشكل الشخصية من اراء الشخصيات الاخرى .. كل شخصة تدلي برأيها والقاريء يقرر من هو عراد .. going to read the other stuff in this section..good luck

اترك تعليقاً