من الطرح الأيديولوجي إلى الطرح المعرفي:

“رأيتُ العروبةَ معروضةً في مزادِ الأثاث القديمْ…ولكنني…ما رأيتُ العَرَبْ!!… “

نزار قباني

يتساءل السكران : ’مالفرق بين مدرسة صادق جلال العظم وزكي نجيب محمود … وبين مدرسة الجابري وأركون وحسن حنفي ونظرائهم؟
بمعنى ما سر الجاذبية في دراسات العلمانية العربية الحديثة التي خلبت أذهان الشباب الإسلامي وجعلته يقبل بنهم هذا اللون من الدراسات والابحاث‘(ص 10). يجيب على هذا السؤال قائلا: ’الفرق الأساسي هو التحول من “الاستهداف المباشر للشريعة” إلى “إعادة تفسير التراث”‘ (ص11).
قد وضحنا فساد المسلمات التي انبنى عليها كلا السؤال والجواب :
فأولا ، هذه الدراسات لا يمكن ضمها كلها تحت مسمى “الدراسات العلمانية العربيّة الحديثة”.
وثانيا ، أن “إعادة تفسير التراث” ليس فعلا جديداً ، بل هو موجود منذ بزوغ عصر النهضة المصريّة.
هل هذا يعني أن السؤال باطل ؟ الجواب : لا . فالجزء الوحيد الذي نتفق فيه مع السؤال هو الجزء الأول : ” مالفرق بين مدرسة صادق جلال العظم وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا …. وبين مدرسة الجابري ووأركون وحسن حنفي ونظائرهم؟” لكن هذا الجزء ناقص ، وصياغته السليمة تكون بهذا الشكل : ” مالفرق بين دراسات العرب في طور المركزيّة – الليبرالية (طه حسين ، سلامة موسى …إلخ) واليسارية (ميشال كامل، ياسين الحافظ … ) والقومية (عفلق ، والارسوزي .. ) والاسلامية (قطب ، الغزالي ، … ) – وبين دراساتهم بعد التشظي – وهنا تندرج دراسات كل من الجابري والعروي واركون وحنفي وغيرهم ؟ “.
هذا السؤال بهذه الصيغة يبتعد تماما عن المسلمات التآمرية التي انبنى عليها سؤال السكران، هو سؤال يربط ما بين الواقع والفكر، والتأثر فيما بينهما. نقول : أن الجواب يتمثل بالتركيز على التفكير النقدي. التفكير النقدي ، هذا المُؤجّل دائما ، المنسي أبدا في دراسات عرب المركز، تلك الدراسات التي لا تتجاوز كونها دراسات أيديولوجية، غير نقدية، لا ترى الواقع إلا من خلال حُلم.
سنضرب عدة أمثلة توضح هذا الفارق. المثال الأول هو “في سبيل البعث” لـ ميشيل عفلق . سنذكر عناوين بعض الفصول : ” عهد البطولة”، “ثروة الحياة”، “البعث العربي حركة تاريخية”، “البعث العربي هو الانقلاب”، “حول الرسالة (=العربية) الخالدة” ، “معنى الرسالة الخالدة” ، “القومية حب قبل كل شيء” … وهكذا تمتد العناوين. أعلم أن العنوان ليس كافيا للحكم على المضمون، لكن اختيار الكاتب للعنوان، هو عمل تسويقي، يسعى من خلاله إلى جذب قراءه، بناء على ما ترسب في لاوعيه عن “حاجات قرائه” … أتساءل الآن : هل هذه العناوين تمارس أي جاذبية للقارئ الحالي ؟ لا أعلم ، ولكن – عن نفسي – فهي لا تدفعني إلا إلى الهرب من قراءتها.
سنعرض رأي عفلق في مسألة واحدة : “الموقف من الدين”. يبدأ عفلق بالتاكيد على أن الدين “شيء اساسي في حياة البشر”، وانه لابد من التفريق بين حقيقة الدين وظاهر الدين، الذَين قد يختلفان فيما بينهما حدّ التناقض. بعد ذلك يلفت النظر إلى ظاهرة تستحق التأمل وهي ظاهرة بزوغ الإسلام، الذي كانت تمثّل حركة ثورية على عصره. وبالتالي لن يفهم الإسلام سوى الثوريون، لأن الثورة حالة واحدة … خالدة ، لايمكن أن تتجزأ. ولهذا، من الغريب ان يتنكر للإسلام الجيل الثائر، بينما يتمسك به أعداء الثورة الذين لم يفهموا الإسلام على حقيقته. فالإسلام الذي ابتدأ بفئة ضعيفة مضطهدة ، لا يمكن ان يتحدث باسمه من لم يعرف الضعف والاضطهاد. ولو تخيلنا أن أفراد الإسلام الاوائل قد جاؤوا لهذا العصر ، فطبيعي أنهم سينحازون مع الثوريين. فالدين الحقيقي مع المظلومين لكنه تم تشويهه من قبل أصحاب المصالح. لذلك علينا أن ننقذ الدين، حتى لا تسري فينا موجة الإلحاد التي سرت في الغرب، ويجب ألا نعمم فساد ظاهر الدين على جوهره ، فهذا تعميم سطحي. يجب أن نكمل حربنا على ظاهر الدين، ولكن ليس بغية إلغاءه ، وإنما لإحياء جوهره. فالدين “قادر على أن يعود إلى حقيقته إذا وجد افرادا مؤمنين متجردين يعيدون إلى الدين صفاءه الأول”(1).
“يعيدون إلى الدين صفاءه الأول” ، نظرة ستتكرر،لكن ليس من قبل قومي آخر، ولكن من قبل ألدّ اعداء القوميّة، أعني محمد قطب في “واقعنا المعاصر”. هذا الكتاب الذي عرضناه سابقا ، سنعيد النظر إليه من زاوية اخرى ، فهو يبدا بـ”نظرة إلى الجيل الفريد”: “الجيل الذي تم فيه اللقاء بين المثال والواقع”. ونحن نريد التعرف على ذاك الجيل الفريد “لنعرف مكان الأسوة لنا فيه في واقعنا المعاصر، ولنقيس على ضوئه مدى قربنا وبعدنا عن حقيقة الإسلام”. بعد ذلك يناقش مسألة كون جيل الصحابة جيل متفرد وغير متكرر، فاي معنى للنظر فيه طالما أنه لن يتكرر؟ يؤكد قطب أنها فقط تلك “الدرجة الفذّة في تحقيق الخصائص الرئيسية للوجود الإسلامي المستمدة كلها من الكتاب والسنة … هي التي لم تتكرر في التاريخ”. هذه الدرجة التي لا يمكن الوصول إليها ، ستصبح هي النموذج التي يسعى المسلمون للوصول إليه. ثم يبدأ الحديث عن “حركة البعث الإسلامي المعاصرة” بانها هي الأقرب بأن تتمثل خصائص ذلك الجيل الفريد. وهذه الخصائص هي صدق الايمان وجدية الاخذ بالكتاب والسنة وصدق الجهاد في سبيل الله وتحقيق معنى الامة في صورتها الحقيقية وتحقيق العدل الرباني على الأرض وأخلاقيات لا إله إلا الله والوفاء بالمواثيق (2).
على الرغم من الاختلاف الصارخ – الذي يصل حدّ العداء وتبادل الاحكام القيمية فالقومي هو العلماني الكافر بالنسبة للإسلامي والإسلامي هو الرجعي المتخلف بالنسبة للقومي ؛ أقول: على الرغم من هذا الاختلاف بين الاختيار الايديولوجي بين الإثنين؛ إلا أن نوعية “الخطاب” واحدة، فهذا الخطاب: خطاب أيديولوجي صرف، لا يهتم أبدا بتحري الحقيقة، بقدر ما ينصرف جهده دائما لتأكيد موقفه واختياره، فالقومي يرجع لعهد الصحابة ليؤكّد على قوميته، والإسلامي يرجع إلى نفس العهد مؤكدا النقيض. فنحن هنا امام “استناد” أيديولوجي، كل خطاب يستند إلى التراث ليدعم موقفه ، ولسنا امام طرح معرفي ، يهدف إلى “الفهم” … بمعنى آخر : لسنا أمام طرح نقدي.
في الحقيقة أن هزيمة 67م وموت عبد الناصر والحرب اللبنانية واتفاقية كامب دايفيد التي بددت انتصار حرب رمضان. كل هذه الأحداث المتوالية أدّت إلى انهيار المركز الذي كانت الاطراف الصاعدة (الملك فيصل ، النفط ، دعم الولايات المتحدة الأمريكية للقوى المنحازة للكتلة الغربية في الحرب الباردة، انحيازات شمال افريقيا لفرنسا) مهيأة لتسلم مكانه .. هذا التغير على أرض الواقع ، صاحبه تغيّر على صعيد الفكر. توزع هذا التغيّر على عدة ألوان : هناك الجوّ المُحبَط الذي تجسده تماما – كما يصف لنا الأنصاري – قصيدة نزار “متى يعلنون موت العرب؟”. وهناك المراجعات الفكريّة ككتاب نصر حامد أبو زيد “قرن الهزائم العربية” و الجلسات النفسية التي عقدها طرابيشي في “التحليل النفسي للعصاب الجماعي” للفكر العربي ، ومحاولات كشف تناقضات خطاب هذا الفكر التي قادها محمد عابد الجابري في “الخطاب العربي المعاصر” . هذه المراجعات – كما يقول الانصاري دائما – أكدت على أن المشكلة الأساسية في الفكر العربي كانت “التضخم الأيديولوجي على حساب تقلص البعد المعرفي”. ومن هنا ابتدأت هذه الدراسات “المعرفيّة” ، فأصدر حافظ الجمالي كتابه “العرب والمستقبل” عام 1976م ، وفي الكويت صدرت مجلة العلوم الاجتماعية عام 73م ، وفي المغرب دعا عبد الكريم الخطيب إلى تأسيس علم اجتماع عربي. وفي عام 84م أصدر في مصر كتابا عن “اشكالية العلوم الاجتماعية في الوطن العربي”. ومن هنا ابتدأ الفكر الإسلامي بطرح دراسات معرفية كـ “اشكالية التحيز” التي اشرف عليها المسيري، وهنا صدرت سلسلة “مفاهيم” العروي – وهو المثقف المخضرم الذي تحول من الايديولوجيا إلى “مفهوم الايديولوجيا” و “مفهوم الدولة” و”مفهوم التاريخ” .. وغيرها– وسلسلة نقد العقل العربي ، وكتب حسن حنفي وغيرهم . أخيرا ، ومن الخليج هذه المرّة، تأتي “العصفورية” لغازي القصيبي بكل سخريتها وعمقها لترسم صورة كاريكاتوريّة للحال العربية لقرنٍ مضى.(3)
وسنضرب مثالين على هذه الدراسات الحديثة : “مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة” و “الخطاب العربي المعاصر” . يبدأ طرابيشي بالحديث عن الجرح النرجسي الذي أصيب به العرب وبقية الشعوب غير الغربية نتيجة التقدم الغربي، وهو جرح مضاعف بالنسبة للحالة العربية نتيجة الهزيمة من قبل الصهاينة. هذا الجرح الذي أدى ، في طور الاستقلال، لتضخم الايديولوجيات الحارقة للمراحل، هو نفسه الذي يؤدي ، بعد ان كشفت الهزيمة مأزق الأيديولوجيات، إلى “نقل الصراع الأيديولوجي إلى ساحة التراث”. ويؤكد طرابيشي على أنه مهما يكن من أمر فإن “اللحظة الغائبة أو الواهنة الحضور هي اللحظة المعرفية، بأداتها التي هي التحليل العلمي الموضوعي، وبغايتها التي هي الحقيقة التاريخية”. بعد هذا يقوم بمناقشة نماذج لتلك الدراسات التي نقلت صراعاتها الايديولوجية للتراث.(4)
الجابري، الذي أزعم أن كل الوجاهة التي يكتسيها لم تتاتَ له من خلال مشروع نقد العقل العربي، بل من خلال تحليلاته ونقده للاتجاهات المعاصرة في “الخطاب العربي المعاصر” ومقدّمات كتبه التي تتناول التراث. يبدأ كتابه بالتساؤل ” هل تمكّن العرب فعلا من تحقيق نهضتهم ؟ هل يعيشون اليوم في الواقع ما عاشوه منذ مائة عام في “الحلم”؟” بعد ذلك يتساءل ما هو الشيء الذي لم تتوجه له المراجعة والمساءلة ؟ فيجيب : ” هو تلك القوة أو الملكة أو الاداة التي بها “يقرا” العربي و”يرى” و “يحلم” و”يفكر” و”يحاكم” ..إنه (العقل العربي ذاته) “. ومن هنا يشرع في نقد هذا العقل كما يتبدى في خطابه. على ضوء هذه المقدمة ينتقل الجابري لمراجعة الخطاب النهضوي فالسياسي فالقومي فالفلسفي ، وفحصه من كافة وجوهه.(5)
والآن ، يحق لنا أن نتسائل : أين “الفكر السعودي” من هذا كله ؟ بل لنقل : “هل هناك فكر سعودي أصلاً؟” … هذا ما سأجيب عنه في المداخلة القادمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في سبيل البعث ، ميشيل عفلق، الكتابات السياسية الكاملة (طبعة إلكترونية): ص 116-121.
(2) واقعنا المعاصر ، محمد قطب ، مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر ، ص: 15-33.
(3) مساءلة الهزيمة ، محمد جابر الأنصاري، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص :95-127.
(4) مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة، جورج طرابيشي ، دار الساقي : ص 5-10.
(5) الخطاب العربي المعاصر، محمد عابد الجابري ، مركز دراسات الوحدة العربية : ص 7-10.

اترك تعليقاً