الفكر العربي: من ’المركزية‘ إلى ’التشظي‘

“حنا العرب

يا مدعين العروبة

وحنا هل التوحيد

وانتم له اجناب”

خالد الفيصل

كيف اعترفت الدول العربية باستقلال الكويت ؟

هذا السؤال، ليس سؤالا سياسيا يتناول جانبا من التاريخ القومي الخاص بالكويت، بل هذا السؤال يتضمن إبراز حقيقة “المركزيّة” العربيّة ، التي سنتناولها عما قريب.

وإجابةً على السؤال المطروح، تقول مريم جويس أنه في سبيل تحقيق الكويت لاعتراف الدول العربيّة باستقلالها عرضت “على بغداد قرضا فوريا مقداره مليونا دولار … بعد ذلك وافق الجانبان على تبادل الوفود للتفاوض حول قرض مقداره عشرون مليون دينار …كما تم التوصل لاتفاق آخر تقدم فيه وزارة المالية الكويتية قرضا إضافيا مقداره عشرون مليون دينار”(1). أما سوريا فقد “أعلنت … اعترافها باستقلال الكويت مرفقا بقرض من الإمارة بمناسبة الاتفاقية”(2).

هذا التعامل التي تعاملت به دول عربيّة “قوميّة” مع استقلال دولة عربيّة ساهمت معهم في المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل ، وأسست صندوق الكويت للانماء الاقتصادي العربي، وشاركت الامة “العربية” في أفراحها وأتراحها؛ أقول : هذا التعامل الابتزازي – الذي لا يمر عليه ثلاثون عاما إلا وتقتحم الجيوش العراقية أراضي الكويت والسعودية- لا يمكن تفسيره إلا بطرح السؤال التالي : ما المقصود بكلمة “عرب” في الأدبيات المصرية والشامية والعراقي ؟ هل الفكر “العربي” كان فعلا تعبيرا عن العرب من “المحيط إلى الخليج” أم كان فقط تعبيرا عن عرب الهلال الخصيب ومصر ؟

هذه الأسئلة كلها ستصب في إجابة واحدة ، وهو أن الفكر العربي كان منحازا بشكل صارخ لعرب دون عرب. وهذا الانحياز والتمركز، يشابه المركزيّة الأوروبية التي تمارسها على الفكر العالمي ، فهي ليست دعوى أيديولوجية يتم التنظير لها بشكل واع، بقدر ما هي بطانة إيبستمولوجية تمارس سلطتها على كل التفكير في “الفكر العربي”.

سنضرب عدّة أمثلة على هذه المركزية ، وهذه الأمثلة بالغة الدلالة على هذه المركزيّة إذ أنها مؤلفات لمفكرين ينتمون جغرافيا لخارج منطقة المركزيّة ، أقصد مفكرين من المغرب العربي والخليج. نبدأ بمحمد جابر الأنصاري ، ففي كتابه “الفكر العربي وصراع الأضداد” نجد أن الفكر العربي ليس شيئا سوى مسارات الفكر في مصر والشام ولبنان والعراق، وفي حالة خروجه عن هذه المسارات ، فإن المفكرين الآخرين الذين يستشهد بهم هم مفكرين اندمجوا في الإشكاليات المصرية والخصيبية ، كعبد الله القصيمي ، فهو ،وعلى الرغم من كونه سعوديا ، إلا أنه ومنذ “هذه هي الاغلال” اندمج في الاشكاليات الفكرية لبلاد المركز. وكذلك نجد إقبالا عربيا على روايات عبد الرحمن منيف، وما هذا إلا لأنه تخلى تماما عن اشكالياته المحلية لينخرط تماما في اشكالية المركز. وحتى “مدن الملح” التي أُريد لها أن تكون ملحمة الجزيرة العربية والنفط، تحولت – كما يقول القصيبي- إلى كاريكاتير سياسي. ونضيف نحن أن الشخصيات الجوهرية والتي تتصف بالوعي في الرواية كانت شخصيات من المركز، أما غيرها فلم تكن سوى شخصيات بدوية ساذجة !

بل حتى تأريخ الفكر العربي، نجده ينحاز تماما لتلك المنطقة ، فهو يُقَسَّم عادة من حملة نابليون إلى عهود الاستقلال، ومن عهود الاستقلال إلى نكبة 1967م. وهذا التأريخ في حال تطبيقه على السعودية نجده تأريخ مقلوب لا يعكس أي معطيات واقعية ، فدعوة محمد عبد الوهاب، هي التي أثرت في الجزيرة ، لا حملة نابليون، و”توحيد الملكة” على يد الملك عبد العزيز هو الحدث التأسيسي في تأريخ الجزيرة، لا “عصور الاستقلال” .. و”عصر الطفرة” هو الذي أثر على التركيبة الديموغرافية للسعوديين أكثر من تأثير كل حروب عرب المركز مع اليهود.

بل حتى في التحليلات الاجتماعية نجد انحيازا واضحا لتلك المنطقة ، فيتم بحث تأثير “الاستعمار” على الفكر العربي، وبحث انتقال العرب من الأرياف إلى المدن، وتأثير مؤسسات الدولة العثمانية التقليدية في بناء الدولة العربية الحديثة، واتفاقية سايكس بيكو …إلخ. وهذه الاحداث لا تطرح على انها قضايا تتعلق بجزء من أرض العرب، بل تطرح على أنها قضايا العرب، ويتم تعميم نتائجها على باقي العرب.

نجد كتابا لعبد الله العروي ، وهو مغربي ، عنوانه “الأيديولوجيا العربية المعاصرة” ، دافع الكتابة لهذا البحث هو ما لاحظه “من تعثر واضح ، على المستويين السياسي والثقافي، في مسيرة المغرب بعد عشر سنوات من استقلاله” و لكنه عند دراسته للمغرب يوضح أنه لم يستطع “الوقوف عند حدود الوطن المغربي. لم تلبث الدراسة أن شملت مجموع الشعوب الناطقة بالعربية.” ويبرر ذلك بأن المغاربة يلجأون ” إلى اشكالية سبق أن لجأ إليها مفكرون من بلدان عربيّة أخرى. فلا يمكن الحكم على البعض دون الحكم على الجميع”(3). وهنا ، من عدم إمكانية الحكم على البعض دون الجميع، تتبدّى كل المشكلة؛ فـ”الجميع” هنا لا تحيل دلاليا إلا لعرب مصر والشام والعراق ، وهذا ما سيتبين من الفصل الأول ، فهو يقول ” يمكن أن نميز ضمن الايديولوجيا العربية المعاصرة ثلاثة تيارات أساسية. يفترض التيار الاول أن أم المشكلات في المجتمع العربي الحديث تتعلق بالعقيدة الدينية ، والثاني بالتنظيم السياسي ، والثالث بالنشاط العلمي والصناعي”(4). وهذا التعميم الذي يطلقه العروي ، لا يجد نموذجه إلا في مصر ، فالشيخ الممثل للتيار الأول لن يكون سوى محمد عبده، ورجل السياسة الممثل للتيار الثاني سيتجسد في كل من الكواكبي وخالد محمد خالد وطه حسين وعلي عبد الرزاق، أما داعية التقنية الممثل للتيار الثالث فلن يكون سوى سلامة موسى. واخيرا يتدارك العروي، فينفي محاولة اتهامه بأي انتقائية مؤكدا ان هذه الشخصيات الثلاث “لحظات ثلاث يمر بها تباعا وعي العرب، وهو يحاول ، منذ نهاية القرن الماضي ، إدراك هويته وهوية الغرب”(5). هكذا ، وبجرّة قلم، يشطب تاريخ غالبية الدول العربية ويستبعد افكارها استبعادا تاما – بما فيها بلاد المغرب – لصالح دول المركز!

هذه المركزية ، نستطيع تسويد الصحف في إثباتها ، فنجد مثلا في كتاب يحمل عنوان “الخطاب العربي المعاصر”، نجد الجابري يحلل خطاب العرب ، وقائمة مراجعه لا تخرج أبدا عن حدود مصر والشام والعراق، وإن خرجت فهي لصالح مثقفين انحازوا لاشكاليات دول المركز. وفي كتاب ضخم أصدره مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان “الفلسفة في الوطن العربي في مائة عام” شارك فيها حوالي أربعين مشاركا ، ليس من بينهم خليجي واحد، والموضوعات كانت كالتالي : “الإشكاليات العامة”، ” الفلسفة في مصر” ، “الفلسفة في المغرب العربي”، “الفلسفة في الشام والعراق”. ولا نجد شيئا آخر غير ذلك ! قد يُقال : “أنه لا وجود للفلسفة والفكر في الخليج”، وهذه الدعوى هي صدى للفكر المركزي العربي، فبعد ان تم تقنين مفهومي “الثقافة” و”الفلسفة” بالشكل الذي يتلائم واحتياجات المركز، المنحاز هو الآخر إلى المركزية الأوروبية، بعد عملية التقنين هذه يتم استبعاد كل لون من ألوان التعبير الفكري، على اعتبار أنه لا يتطابق مع النماذج المنحوتة من قبل دول المركز. بل إن حضور دول الخليج لم يجد له مكانا إلا في جزء من العرض البانوراميّ الذي قدمه حسن حنفي، ولكن هذا الحضور كان لمن تخلوا عن إشكاليتهم الداخلية لحساب اشكاليات العرب الأخرى ، والمصيبة كل المصيبة ، أن هذا الانتقال من اشكاليات منطقة عربية لمنطقة عربية اخرى يسمى انتقالا من “الهم القطري” إلى “الهم العربي”!

نجد هذه المركزيّة أيضا في كتابة التاريخ ، فثورة الشريف حسين على سبيل المثال تسمى “ثورة عربيّة”، بينما توحيد الجزيرة العربية يظل عملا قطريا خاصا ، والثورة الجزائرية التي تكبدت خسارة مليون عربي لا تعدو عن أن تكون ثورة “جزائرية”. بل إن العروي والجابري عندما ينظرون للتجربة المغربية التاريخية ، يتناولونها كاستثناء ، كتميّز، وهذا يتضمن إقرارا غير شعوري بحتميّة التماثل والتطابق !

وأنا أرى أن هذه المركزيّة تعود لعدة عوامل اهمها : انتقال مركز الخلافة من الجزيرة إلى دمشق فالعراق فمصر فتركيا، الطبيعة الصحراوية للجزيرة العربية ، حدود الدولة العثمانية وانتشار الاستعمار الاوروبي على حدود خطوط التجارة العالمية، انشقاق المغرب المبكر منذ دولة الادارسة . هذه العوامل أثرت على مناظر الإدراك، فأصبح الاستشراق الغربي التقليدي ينظر للإسلام ، الذي هو دين يمتد لمساحات واسعة من الكرة الارضية، والعروبة، من خلال احكامه المتعلقة بإسلام وعروبة الجانب الآخر من الحوض المتوسط.

هذا بما يتعلق بالطبيعة المركزيّة للفكر العربي، فمؤدى هذه الطبيعة هي أن هذا الفكر لا يعبر عن إشكاليات العرب الأطراف ، ولا يطرح حلولا لها.

أيضا، هناك طبيعة أخرى لهذا الفكر هي الطبيعة “الاستلابية”، فهو قائم على استقدام إشكاليّات لا تستجيب لواقعه والغرق الإغراق الجدلي حولها ، كاستقدام إشكالية أوروبا مع السلطة الكنسية الدينية ، وعملية الاستقدام هذه تمارس تشويش للنظر أكثر من أنها تصححه، فلاجل ان تستفيد من الحل الغربي لهذه الإشكالية، فهي تسعى لصنع هذه المشكلة، وذلك عبر تطويع الإسلام وتصويره كمؤسسة دينية ذا سلطة كهنوتية، وبالتالي تصبح المطالبة باستقلال السلطة الدنيوية عن الدينية مبررة. وكذلك، استقدام سيد قطب لإشكالية الحركات الاسلامية في الهند مع القومية. فالمودودي عندما هاجم دعاوى القومية ، كان ذلك من منطلق ان المسلمين أقليّة في الهند ، والانخراط القومي سيؤول لاستبداد الاغلبية على الاكثرية ، لهذا طالب باستقلال يمنع الاستبداد، لكنه مشروط بارتباط يحافظ على المصالح المشتركة بين الهنود. فالمودودي كان يتفاعل مع اشكالية تواجهه فعلا ، ويحاول حلها، لكن سيد قطب وغيره ، قاموا بنقل هذه الاشكالية في مواجهة القومية العربية، التي لا تتصادم مع وجود المسلمين واستعبادهم ، بل على العكس من ذلك تماما ! وكعادة أي استقدام للأفكار يتم قبل إيراد الحلّ المستقدم زرع المشكلة، فتم التنكر لكل الميراث الفكري باعتباره سلسلة من محاولات نصارى الشام لتمرير القومية بغية هدم الإسلام.

الطبيعة الثالثة لهذا الفكر، هي الإنحياز الآيديولوجي لتيارات بعينها ضد اخرى. فعند حديثه عن الإسلام ، ينطلق من مسلمات انحيازية ، فتتم مصادرة الشيعة – الذين يتم تحويلهم من كتلة فكرية لها وزنها في التاريخ الإسلامي، إلى مجرد فرقة مذهبية قديمة و”إثنية” تقاس بعدد الأفراد- والسلفية ، والدروز ، والإباضية وغيرهم، لحساب الإسلام الأشعري الصوفي الشافعي. وكذلك عند الحديث عن الحضارة الإسلامية يتم دمغها باسم “الحضارة العربيّة” في انحياز قومي صرف ضد كل الإثنيات والشعوب والأعراق التي شاركت في بناء تلك الحضارة . فلا أعلم حقيقة كيف نستطيع ان نسمي انتشار الإسلام في الهند والحضارة التي قامت هناك بانها حضارة “عربية” ؟ لذلك نقول أن هذه التسمية تحمل معها انحيازاتها لأنها لا تشير إلا إلى الرقعة العربية من الحضارة الإسلامية. وهل دولة “المماليك” و “الدولة العثمانية” التي هي أجزاء من الحضارة الإسلامية ، يصح أن نطلق عليها حضارة عربي ؟ بل على العكس من ذلك يتم تصوير هذه الدول بأنها كانت تمارس نوعا من الاحتلال للعرب في عمليّة إسقاط تاريخي لا تبالي أبدا بتحري الدقة العلمية للتاريخ.

وعبر إعادة الاعتبار لهذه الطبائع ، نستطيع ان نعيد تحليل هذا الفكر، بالتأريخ له بأحد أمرين: إما بانتقال المركز من مناطقه الجغرافية القديمة إلى مناطق جديدة كالمغرب والخليج، أو عن طريق تشظي هذا المركز بعد الهزيمة الشاملة التي تعرض لها عام 67، وانسحابه تماما بعد كامب ديفيد، وتحول التركيز في المنطقة من ناحية سياسية واعلامية لمنطقة الخليج ابتداء من الحرب الايرانية العراقية . والتأريخ الأول لا أميل إليه لانه لا يملك مادة ضخمة يرتكز عليها تثبت هذا الانتقال المركزي. والذي أميل إليه هو ان المركز تفجّر وانتزعت عنه كل مقومات مركزيته ، واستعادت كل الاراضي الاخرى وعيها بذاتها.

ومن خلال هذا التشظي ، نستطيع أن نتلمس ملامح فكر سعودي جديد متوثب يعاني من مخاطر الوقوع في ذات المزالق التي وقع فيها الفكر العربي المركزيّ، وبهذا السياق نستطيع الإجابة عن أسئلة السكران حول ظهور هذا اللون الجديد من الفكر في السعودية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الكويت : 1945-1996 ، مريم جويس ، دار أمواج ، ترجمة مفيد عبدوني : ص 172-173.

(2) نفس المصدر : ص174.

(3) الأيديولوجيا العربية المعاصرة ، عبد الله العروي، المركز الثقافي العربي : ص 23.

(4) نفس المصدر : ص 39.

(5) نفس المصدر: ص 48.

اترك تعليقاً