سذاجة الموقف السكراني أمام الحضارة!

يعيب السكران على من يسميهم “غلاة المدنية” دعوتهم الشغوفة للإقبال على الغرب واحتضانه بكامل صوره، في الوقت الذي يوحي نصه بالفخر مما لدى الموقف الإسلامي من “تمييز” و”اختبار وفحص”.
وهذه القضيّة، أي قضية “الموقف من الحضارة الغربية ومنتجاتها”، تعتبر أحد القضايا المركزية في بنية الفكر العربي، وتزداد إلحاحا مع زيادة الفجوة الحضارية بين العرب والحضارة الغربية والامم التي استطاعت اللحاق بها.
وهذه الإشكالية، وإن كانت تجد ما يبررها في بدايات ظهورها، أيام ما كان التمايز بين أوروبا والمشرق العربي تمايزا حضاريا، أي بين رقعتين جغرافيتيين تنتميان لتراث وأنماط سلوك وانتاج وأديان وعلاقات اجتماعية مختلفة، مما يسمح بالحديث عن موقف من آخر متعين خارج الأنا. ولكن، وبعد مرور قرن ونصف من طرح هذه الإشكالية، حدث تغير أساسي فيها، وهو تلاشي كافة مبررات وجود الانا. فنحن هذه الأيام نعيش في بيوت ومدن ودول تم تصميمها وإنجازها وفق الثقافة والحضارة الغربية، وتم إلغاء وتجاوز كافة الأنماط والمؤسسات المنتمية للتراث والحضارة الاسلامية، بمعنى آخر: أن الاشكالية المطروحة فقدت معناها، إذ أننا اليوم نعيش في “حضارة الغرب”: شئنا ذلك أم أبينا!
ولهذا نستطيع القول أن أطياف كبيرة من الفكر العربي ما زالت تتعامل مع الغرب وفق الصور والرؤى التي صيغت في ظروف بدايات نهضة هذا الفكر، مع إغفال تام لكافة التحولات والتبدلات العاصفة سواء في مستوى الغرب نفسه أو على مستوى العلاقات معه. وهذه السلفية في النظر للغرب، تكون مع السكران “سلفية مضاعفة” إذ أنها لا تجد كبير فرق بين الغرب اليوم وبين الإغريق، ولهذا لا تتحرج أبدا من اقتباس أحكام ابن تيمية!
وهذه النقطة الأخيرة تحتاج لتوضيح أكثر: فالحضارة الإسلامية عندما كانت تتعامل مع المنتجات الحضارية للأمم التي سبقتها كالفارسية واليونانية، فإنها تتعامل مع منتجات “ميتة”، أي أنها تنتمي لحضارات غير قائمة فلا تضيف إليها أو تعدلها أو تتخلى عنها. وبالتالي فعلاقة الحضارة الإسلامية معها علاقة غير تفاعلية، بل هي علاقة ذات اتجاه واحد متعلقة بالطرف الحي فقط. وهذا النوع من العلاقة غير متوفر بالنسبة للمنتجات الغربية التي هي منتجات حية سريعة التغير والتبدل والتطور. فالنظر إلى الغرب بعيون ابن تيمية، فيه- اضافة لإهمال التغيرات الهائلة في هذا الغرب نفسه- إهمال لطبيعة العلاقة معه!
وقبل أن نخرج كليا من نقد الإشكالية نفسها، نذكر إلى ما سبق أن قلناه أن التحولات التي أصابت الفكر العربي بعد مرحلة “المركزية” المتصفة بالطروحات الايديولوجية، تشكلت أطروحات معرفية تتجاوز هذه الإشكالية سواء في فهمها للغرب أو لطبيعة العلاقة معه أو لـ”تاريخية” هذه العلاقة.
وهذا التحول في الأطروحات المعرفية لا يستثني الخطاب الإسلامي، فهذا الخطاب – وكما يذكر عبد الوهاب المسيري في ورقته “معالم الخطاب الإسلامي الجديد” (1)، والذي انطلق من تحقيبه من معيار الموقف من الغرب- يقدم رؤية جديدة، عميقة ومعرفية سواء في تعامله مع الحداثة الغربية أو التراث الإسلامي.
وباعطاء الاعتبار لهذا الخطاب الجديد، نتساءل هذا السؤال: عندما يقول السكران “على أية حال.. الخطوط العامة لموقف الإسلاميين من الحضارة والمثاقفة عموماً والحضارة الغربية على وجه الخصوص واضحة ليست بالأغاليط”، عندما يقول هذا ما الذي يسكت عنه؟
إنه يسكت عن أمر مهم جدا وهو أن هذه الخطوط العريضة بقدر ما توضح موقف الإسلاميين، فهي تعتبر “حدودا نهائية” تميّز الإسلاميين عن غيرهم، وبالتالي تتضمن نوعا من المفاصلة عبارته: من لم يتبن هذه الخطوط العريضة فهو ليس بإسلامي!
والآن لننتقل إلى مضمون الموقف الذي قسمه إلى ثلاثة ركائز: تعتبر الأولى لا معنى لها، لم يذكرها من بين كافة الإسلاميين إلا السكران تماشيا مع منطق بحثه ودعواه الغير مثبتة من أن ما يسميه “الخطاب المدني” يتغيّا الحضارة لذاتها، وهذا الموضوع سبق أن طرحناه بتوسع.
أما الركيزة الثالثة فهي موقف “نفسي” أكثر من كونه معرفي، فتحديد الفاصل بين الانبهار والانتفاع أمر متعسر، فضلا عن كونه نسبي. كما أن اعتبار هذا الأمر “ميزة” للإسلاميين فيه من التبسيط والاختزال الأمر الكثير… فمن يطالع الكتابات اليسارية والقومية والليبرالية الوطنية لا يجد فيها ذلك الانبهار الذي يميّز السكران به الاسلاميين عن غيرهم. بل على العكس من ذلك، نجد أن بعض الكتابات الإسلامية، ككتابات محمد قطب وبعض السلفيين، تنطلق في تفسيراتها للتاريخ والعالم بأنه يدار من قبل حفنة من الصهاينة أو الغربيين، يصنعون كل الأحداث ويتلاعبون بالعالم الإسلامي وكانه مجموعة من الدمى، فيما يسمى بنظرية المؤامرة. وحتى هذه “النظرية” على ما تتضمنه من تقديس للغرب ورفعه للخانة الإلهية في سيطرتها على الأحداث الكونية؛ على الرغم من ذلك إلا أنها أيضا نظرية مستوردة من الغرب نفسه، في كتب متنوعة كـ “أحجار على رقعة الشطرنج” و “بروتوكولات حكماء صهيون”… وغيرها.
أما الركيزة الثانية وهي التي حظيت بالجزء الأعظم من فقرة السكران فلنا عليها العديد من الملاحظات، إذ أن السكران الذي يتغنى بما لدى الاسلاميين من اختبار وتمييز ومحاكمة، لم يزد في هذه الفقرة إلا أن أثبت بساطة وسذاجة معرفته بالحضارة الغربية:
أولا، الاعتقاد بإمكانية الفصل بين الوجوه السياسية والعلمية والفلسفية والأدبية والفنية للغرب، إنما هو من قبيل الوهم. بل هو إثبات على مدى السطحية في التعامل مع “المنتج البشري”.
فالانسان كائن معقد شديد التعقيد، وتتحكم في سلوكه الكثير من المعطيات والسلطات، وبالتالي يضحي قراره السياسي أو إبداعه الفني أو اختراعه العلمي مشدودا تماما إلى الوسط العام بما يمثله من ثقافة وفلسفة وتصور للكون والوجود ومؤسسات وظروف اجتماعية واقتصادية. وبالتالي يكون إسقاط التمييز النظري بين هذه الوجوه على الواقع، وتصوره “تمايزا” ملموسا، إنما هو تخريف لا معنى له.
ثانيا، اعتبار المنتجات العلمية عبارة عن “وسائل محضة” يمكن توجيهها بحسب الثقافة، هو اعتبار ساذج، يصدر عن إعلاء تام للعلم الطبيعي باعتباره علما محايدا.
وهذا التصور للعلم تم التنظير له أول مرة على يد “جيمس بيكون” الذي أسس للمنهج التجريبي كمنهج بديل عن المنطق الأرسطي. فالمشكلة التي سعى بيكون لحلها هي أننا نتأثر بانحيازتنا النظرية عندما نتطلع إلى الطبيعة، التي ستتمنع بدورها ما لم نراها متجردين تماما عن كل انحياز. وهذا التجرد التام عن كل انحياز، سيكون كفيلا بأن تمتلئ أذهاننا بكافة الحقائق الطبيعية. وطالما أن هذه الحقائق ما هي إلى نسخ أمين لما هو موجود في الطبيعة فهي “حظ مشترك لا تتفاوت كثيرا بسبب الخلفيات الدينية” كما يحدثنا السكران.
وهنا نجد أزمة السكران كأشد ما تكون، فالداعية الذي لا يكف عن التفاخر بعدم انبهاره بالغرب وباستقلاله النقدي والذهني عنه، ينكسر تماما عندما يصطدم بعلم الغرب… هذا العلم الذي ارتكزت أيديولوجيته كمسلمة أساسية في كافة الطروحات العربية. وتغلغلت صدقية العلم وحقائقه في الطرح الإسلامي إلى أن تحول إلى معيار يتم بالعودة إليه إثبات صدقية القرآن والإسلام!
والسكران هنا يقع فيما وقع فيه علماء الإسلام الأوائل الذين استسلموا للادوات المعرفية اليونانية… باعتبارها أدوات محايدة. وإن استطاع بعض العلماء كالاسفراييني وابن تيمية وابن خلدون والشاطبي وغيرهم، التعرف على مدى انحياز “المنطق” للتراث الاغريفي، إلا أنهم لم يستطيعوا أبدا التحرر من التصور الفلكي البطليميسي والمفاهيم الارسطية للزمان والمكان والعناصر الأربعة المكونة للكون التي يعتمد عليها الطب الأبقراطي الجالينوسي اعتمادا تاما في تفسيره للأمراض البشرية. وآثار هذه المنتجات الحضارية على الحضارة الاسلامية كان أشد من المنتجات الحضارية الواضحة الانحياز كالميتافيزيقا والاوثان وغيرها. ولتوضيح ذلك لنطرح هذا التساؤل: أيهم كان أعظم أثرا على النسيج الاجتماعي والسياسي للدولة الإسلامية: فلسفة أرسطو أم نقل منشأة “القصر الامبراطوري”؟
تخبرنا المدونات التاريخية أن معاوية بن أبي سفيان هو أول من اتخذ قصرا في الإسلام. ومنشأة “القصر” منتج حضاري غير عربي، فمكة والمدينة والقبائل العربية لم تعرف مثل هذه المنشأة. فاقتباس هذه المنشأة حمل معه مجموعة من القيم وأثر تأثيرا كبيرا على الثقافة الإسلامية أكثر من تأثير أرسطو وفلسفته. فالقصر يعني أولا “تمييزا” بين الحاكم والمحكوم، وهذا الذي لم يكن موجودا في عهد الرسول والخلفاء من بعده. هذا التمييز ليس تمييزا أفقيا، أي أنه مجرد اختلاف، بل هو تمييز عمودي بمعنى أنه تمييز “طبقي”، فالقصر أفخم وأكبر من باقي بيوت الناس، بالتالي من يسكنه هو “أرقى” من باقي الناس. وكانت الحضارات السابقة تصرح بأن ساكني القصور من الأكاسرة والقياصرة والأباطرة يختلفون “نوعيا” عن باقي البشر، إذ أن عروقهم لم تحوي إلا دماء إلهية. ليس هذا فقط، بل طبيعة القصر تقتضي وجود حامية، وهذا يعني “انفصال” الحاكم عن المحكوم، فإذا أراد أفراد الشعب الوصول الحاكم عليهم أولا تجاوز الحارس، ومن ثم الحاجب فالوزير… وهكذا إلى أن ننتهي بالخليفة، فهو انتقال من أسفل إلى أعلى. وإضافة إلى هذا وذاك يكرس “القصر” تشكلا مركزيا للمدينة، بحيث يكون هو مركز المدينة محاطا ببيوت الفئة الغنية .. وكلما ابتعدنا عن المركز، كلما وصلنا للطبقات الفقيرة… في حين أن المدن العربية والتجمعات القبلية لم تتوزع حسب المعيارالسلطوي المادي بقدر ما توزعت بحسب الانتماء القبائل، هكذا كان في شعاب مكة وفي خيام القبائل الرعوية.
ونستطيع بسهولة الربط بين منشأة “القصر” وبين بعض المظاهر التي برزت في الثقافة والحضارة الإسلامية، كالاستبداد السياسي والجبرية واتخاذ الاولياء وسائط بين الناس والله، قياسا على وجود وسائط بين الناس والخلفاء… وغيرها.
بل لنتجاوز العهد القديم، ولننظر للمنشأة التقنية الغربية الأحدث: المصنع، ولنتأمل الحمولة القيمية التي تحملها معها… فهذه المنشأة تكاد تكون من أكثر المنشآت تعبيرا عن القيم الحضارية للغرب. فالمصنع يعني أولا تقسيم المدينة إلى مكان عمل، ومكان حياة اجتماعية. ويعني كذلك، وجود نظام تعليمي يفرز مخرجات مؤهلة للعمل في المصنع من مهندسين وفنيين وإداريين… فتشكل المدارس والجامعات من أجل هذه الغاية. وطبيعة العمل في المصنع تختلف عن طبيعة الأعمال السابقة، فعمل العامل مفصول تماما عن حياته الاجتماعية. فقديما كان المزارع يسكن في مزرعته، ويتعاون مع أفراد عائلته في العمل، فيتداخل العمل بالحياة الاسرية بشكل لا يمكن تمييز هذا عن ذاك. في حين أن المصنع يجعل عمل الفرد مفصول عن نسيجه الاجتماعي. ليس هذا فقط، بل مفصول عن منظومته القيمية، فخطوط الانتاج تقوم على تقسيم المنتج إلى اجزاء، تتكفل كل وحدة من وحدات خطوط الانتاج بتصنيع هذا الجزء. فيتم تشكيل المنتج، بغض النظر عن قيم الافراد العاملين فيه…فقد يكون هذا المنتج أسلحة أو صواريخ جرثومية، قد تستخدم في تقتيل الكثير من البشر! والمصنع لا يأبه كذلك بجنس العامل، سواء كان ذكرا أم أنثى. وهو، لأنه يحتجز الآباء لفترة تصل لربع اليوم، يؤسس لإنشاء دور حضانة لرعاية أبناء العاملين، فتنقطع بذلك اللحمة الأسرية ويقع الابناء في إشكالية التربية النمطية…
من هذا كله يتبين فساد تصوير العلم والتقنية ومنتجاتها على أنها وسيلة محايدة غير مرتبطة أبدا بالفلسفة والتصورات الكونية لمنتجيها الأوائل!
ثالثا، يتصور السكران “الغرب” تصورا ثابتا جامدا، ويقصره كله على البعد الجغرافي. فالـ “غرب” هو البلدان التي تقطن في الجهة الغربية في أوروبا وأمريكا. وكنتيجة لهذا التصور لا يتحرج السكران من القول: ” بل إن المجتمع الغربي اليوم لم ينفرد بها (= الجدارة التقنية) فهناك أمم أخرى تشارك في هذا الانتاج التقني ان لم تكن أكثر تفوقاً, وعلى وجه الخصوص اليابان والصين والهند, وتعتبر ظاهرة التلزيم (outsourcing) من أهم الظواهر التي كشفت تحولات التركز في الخبرة التقنية العالمية, بحيث صارت تعهدات التصنيع الخارجي في مناطق العمالة الرخيصة تخلق أقطاب خبرة تكنولوجية جديدة ليست في العواصم الغربية.”.
وهنا يبدو جليّا أن السكران يعتبر التمايز بين الغرب واليابان والصين والهند تمايزا حضاريا، فهذه البلدان لا تندرج تحت مفهوم الغرب. وما هذا إلا للتصور الجغرافي الجامد الذي ينطلق منه في تصويره للغرب. وفي الحقيقة أنه لا يوجد أي فارق من حيث تركيبة المدن والعلاقات الاجتماعية وأنماط الإنتاج والنظم المعمول بها بين هذه الدول وباقي الدول الأوروبية والأمريكية، لا يوجد فارق جوهري أساسي يصل لحد التمايز الحضاري، بل إن الفروق ما بينها أقل بكثير من الفروق بين هذه الدول والاتحاد السوفييتي السابق، الذي لا يمكن أن نصوره كأمة مستقلة عن الغرب.
وانتقال التقنية من أوروبا الغربية وأمريكا إلى الشرق الآسيوي، لا يعني انتهاء الحضارة الغربية.. بقدر ما يعني تسلم إحدى دول هذه الحضارة صدارتها.
رابعا، لا يثبت السكران عند حديثه عن الوجه الفلسفي للحضارة الغربية، إلا المدى الذي يفضح ضعف التدقيق والتبسيط لديه. فهو في حديثه عن هذا الوجه قام بالتالي:
1- لم يميز بين الفلسفة الغربية والفلسفة اليونانية، ولا أدل على عدم التمييز هذا في أنه يستسهل نقل أحكام ابن تيمية على الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الغربية!
2- الاعتقاد بأن التفوق الصناعي والتقني مستقل تماما عن التصورات والرؤى الفلسفية، وما هذه إلا “تفسير لاحق” للثورات الصناعية والتقنية.
أما بالنسبة للنقطة الأولى، فلن نخوض بتفاصيل كثيرة في تاريخ الفلسفة ولكن سنكتفي بالإجمال التالي: عدم التمييز بين الفلسفة الغربية واليونانية، يتضمن – بالاضافة إلى تأثره بالأطروحات الاستشراقية حول المركزية الاوروبية للفلسفة- إغفالا أساسيا للفلسفات التي قامت بينهما من فلسفة إسلامية وفلسفة لاتينية مسيحية وفلسفة أرمنية وفارسية، وهذه الفلسفات وإن كانت قد تفاعلت مع الفلسفة اليونانية فهي لم تبق داخل اشكالياتها، بل استثمرت ادواتها المعرفية لمعالجة إشكالياتها الخاصة. فالجدال الفلسفي بين “تهافت الفلاسفة” و”تهافت التهافت” و”درء التعارض”، هو جدال فلسفي يدور حول إشكالية محددة “علافة النقل بالعقل”… انطلاقا من نقل إسلامي خاص، وعقل قد دخل في تشكله الكثير من التراث اليوناني. (2)
والفلسفة الحديثة، لا تثبت فرادتها إلا بقدر تمايزها عن الفلسفة المسيحية اللاتينية ذات الجذور الإسلامية واليونانية، وهذه الفرادة والتميز: ليست قيمية. ولكنها كافية لكي نعتبر نقل الأحكام التي أطلقتها الفلسفة الإسلامية على الفلسفة اليونانية وتوجيهها للفلسفة الغربية الحديثة، بأنه نقل جاهل وغير واع بالتموضعات الخاصة لفلسفة كل حضارة، وينطلق من تصور أفلاطوني للفلسفة باعتبارها مثال مفارق لا يتأثر بالأحداث والوقائع التي تتشكل في أحضانها.
ولكي نستطيع استيعاب هذه الفرادة، علينا أن نمر سريعا على الصورة التي كانت السكولائية اللاتينية المسيحية تنظر من خلالها إلى العالم، لتبني على هذه النظرة حججها الأساسية للعقيدة المسيحية. فالعالم بالنسبة لها مقسوم إلى قسمين: ما فوق مدار القمر حول الأرض، وما تحته. والقسم الأول الذي يبدأ من مدار القمر كان ينتهي بكرة النجوم التي لا يوجد شيء بعدها، ولا حتى الفضاء، إذ – حسب أرسطو- لا وجود لفضاء لا يملؤه شيء. وهذه المنطقة الفوق قمرية مكونة من “الأثير”، وهو مادة غير قابلة للتبدل، تكفل لحركات الكواكب النجوم الانتظام التام على شكل دوائر حول المركز الذي هو الأرض. أما المنطقة الـ “تحت-قمرية” فهي لا تتصف بالانتظام وعدم التبدل الذي يميز صاحبتها، فسميت بعالم “الفساد” لما فيها من تبدل وحركات غير منتظمة. ولتفسير هذا الفساد تم إرجاع مكونات هذه العالم السفلي إلى أربعة عناصر: هواء، ماء، تراب، ونار. وبحسب نسبة هذه العناصر في أجسام العالم السفلي تتحدد خصائصه وشكله. ويتركز التراب في مركز الأرض، بينما الماء يوجد على سطح الأرض، في حين أن الهواء يجد نفسه فوق الأرض، وتأتي النار على الحد الفاصل بين عالم الفساد والانتظام. وبسبب هذا التقسيم يمكن تفسير كون الحجر يتجه للأسفل في حين أن اللهب يميل للتوجه إلى اعلى، وهكذا أشياء العالم السفلي تتحرك في اتجاهات مستقيمة نحو مكانها الطبيعي في عالم الفساد.
وباعطاء الاعتبار لهذا التصور، الذي بناء عليه يتم إثبات صحة العقيدة المسيحية، نفهم هذا الرفض الذي قوبل به “كوبرنيسكو” عندما قال بدوران الأرض حول الشمس. فالرفض لم يكن رفضا من علماء دين متزمتين، بقدر ما هو رفض من قبل كبار عقلاء تلك الفترة الذين نظروا للعالم من خلال هذا التصور العام للعالم. وبنوا حججهم في نقض مقولة كوبرينسكو، الذي كان يشترك معهم في هذا الاطار المعرفي العام، على هذا التصور، وكانت حججهم شديدة الإقناع في مقابل الردود الغير مقنعة التي أدلى بها كوبرينسكو وأنصاره.(3)
وكان على الجميع انتظار جاليليو، الذي لن يدافع فقط عن فكرة دوران الأرض، بقدر ما سيهاجم التصور الأرسطي للعالم، مقدما حجج كثيرة على بطلانه، أحدها انه يرى القمر بمنظاره مكونا من الحجارة، الأمر الذي يعتبر مستحيلا من وجهة النظر الأرسطية، وسيقوم بتدشين قوانين للحركة تختلف في منطلقاتها الفلسفية من كل التصور الأرسطي. ومن هذه اللحظة التي بدأت المدرسة السكولائية فيها بالتصدع: تشكل تيارين أساسين، تيار حاول بناء نظام فلسفي جديد للدفاع عن القضايا الأرسطية والمسيحية، وهو التيار التأملي الذي دشنه ديكارت وتابعه مالبرانش… ليستمر حتى كانت وهيجل. وتيار آخر أعمل معوله في كافة التصور الأرسطي وشيد نظاما جديدا للعالم مستفيدا من فتوحات جاليليو ونيوتن، وصولا إلى فرنسيس بيكون الذي ألغى المنطق ارسطو مؤسسا المنطق الجديد في كتابه الذي يوحي بالأمر نفسه “الأورغانون الجديد”.(4)
وبعيدا عن هذا المدخل العلمي، نستطيع تقديم مدخلا آخرا للمفارقة التي تتوفر عليها الفلسفة الغربية عن الفلسفة السكولائية السابقة عليها. فالإشكالية الأساسية التي بالقطع معها تشكلت الفلسفة الحديثة هي إشكالية المطابقة. فبعد توما الأكويني، تم صياغة بناء فلسفي ينتهي بالقول بتطابق العقل والطبيعة، ليصبح هذا التطابق نفسه هو تعريف الحقيقة. والفلسفة الحديثة لم تبدا إلا بعد أن ألغت هذا التطابق، إما عن طريق الشك الديكارتي أو عن طريق التجريب البيكوني.
ولا تتوقف الفلسفة الحديثة عند حدود القطع مع هذه الاشكالية، فهي ومع مطلع القرن الحديث، وتحديدا بعد نشوء الفيزياء الكمومية والنسبية، تتجاوز كليا هذه الاشكالية. يقول ميشيل فوكو، أحد ممثلي هذا التجاوز: “إن عصرنا هذا كله، سواء من خلال المنطلق، أو من خلال الابستمولوجيا، أو من خلال نيتشة عصر يحاول أن يفلت من هيجل”. وهيجل يظهر كرمز وصنم على الفلسفة الحديثة في افلاتها من اشكالية الفلسفة السكولائية.
ومن هذا الإسهاب والعرض المطول- الذي حاولنا إجماله قدر الإمكان- لأطوار الفلسفة الحديثة ومدى مفارقتها للفلسفة اليونانية ومدى التحامها بالعلم، ينسف كلا الأمرين الذين حاول السكران توضيحهما: تصوير الفلسفة بالصورة نفسها التي كانت عليها أيام ابن تيمية، فلا يتحرج من نقل انتقادات “شيخ الإسلام” إلى الفلسفة التي نعيشها اليوم؛ وكذلك تصوير الفلسفة باعتبارها لا تلعب أي دور في التطور الحاصل لدى الغرب، وقد أوضحنا جانب الارتباط بينها وبين العلم عند حديثنا عن الإنجاز الجاليلي.
أخيرا، وقبل أن نغلق هذا القسم كليا، لا بد من الإشارة إلى أمر مهم: أن هذا الموقف الذي عرضه السكران يعود لإسلاميي عصر ما قبل المركزية ونكبة 67، وهو امتداد للأفكار التي طرحها الإسلاميين المهجرين للخليج من أمثال محمد قطب وسرور وغيرهم. وهذا الموقف الإسلامي ليس هو الموقف الوحيد، بقدر ما هناك موقف عميق حديث بدأ بالتشكل كامتداد لمدرسة مالك بن نبي، موقف قام المسيري بالتعرض لأبرز ملامحه في البحث المشار إليه سابقا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2) للاستزادة حول العلاقة بين فلسفات الحضارة المختلفة ينظر فصل (التوظيف المركزي الإثني للعقل)، جورج طرابيشي، نظرية العقل، دار الساقي: ص 25-115.

(3) للاستزادة في قراءة الحجج المتبادلة بين السكولائيين والكوبرنيسكيين يرجع إلى ” ما هو العلم” ، آلان شالمرز، ترجمة لطيفة ديب عرنوق، إصدار مطابع وزارة الثقافة السورية، ص: 99-110.

(4) للتعرف على أطروحات فرنسيس بيكون، يرجع لـ إميل برهييه ، تاريخ الفلسفة، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة.

2 Responses

  1. ههههه كم هو مضحك مقالكم !! تتحدثون بلغة تكاد تكون علمية إلا أنها جاهلية بإمتياز يكفي لمعرفة ذلك ،معرفة بعض الحقائق العلمية والفلسفية وحتى الدينية . فمثلا قبل أن تناقش مفهوما يجب أن تقدم تعريف أو تعريفاته مثال ذلك الحضارة .. إنتبه لكثرت الأخطأ العلماء المسلمون الشاطبي وإبن خلدون وغيرهم لم يتأثرو بالعقل الارسطي بقدر تبنيهم لما يعلم بالضرورة العقلية أنه صواب .لذلك بإنعدام الدليل على صحة إدعائك تنعدم الدعوى.

اترك تعليقاً