السلام الضائع: الجذور التاريخية للصراعات الإقليمية في الخليج العربي

هناك ثلاثة حقائق بنيوية تواجه كل من يحاول فهم الأحداث في منطقة الخليج العربي. تتمثّل الأولى في أنه منذ حرب أكتوبر عام 1973 – آخر الحروب النظامية بين الكيان الصهيوني والدول العربيّة – تركزّت كل الحروب في العالم العربي في منطقة الخليج. فالحروب في الخليج لم تتوقف منذ الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، مروراً بالغزو العراقي للكويت (1990) والاحتلال الأميركي للعراق (2003) وصولا للحرب (أو الحروب) الحالية الدائرة اليوم في العراق والشام (ولو أضفنا الحروب الأهلية والثورات لطالت القائمة). أما الحقيقة الثانية، فهي أن هذه المنطقة (التي تضم دول مجلس التعاون الخليجي والعراق وإيران) هي أكبر منطقة في العالم من حيث توفرها على الموارد النفطية، والتي تعتبر السلعة الأهم للقوى العظمى والنظام الإقتصادي في عالم اليوم. أما الحقيقة الثالثة فهي أن دول هذه المنطقة تتداخل فيها الهويات القومية (عربيّة كرديّة وفارسيّة)، والهويات الطائفية (سنيّة وشيعيّة)، وأن هذه الهويّات عابرة لهذه الدول، ومتداخلة فيما بينها، ومسيّسة بشكل كبير، خصوصا في الدول الثلاث الكبرى (السعوديّة، إيران، والعراق).

قد تغري هذه الحقائق البعض باستنتاج علاقات سببية مبسّطة لتفسير طبيعة محددات العلاقات بين هذه الدول، أي بإرجاع كثرة الحروب لوجود النفط، أو إلى حروب أبديّة بين الهويّات الدينيّة (التي يتم تصورها جوهرانياً باعتبارها متناحرة)، أو لجعل الآيديولوجيا الإسلامية الطائفية لهذه الدولة أو تلك المعيار المحدد لسياستها الخارجية، أو تصوّر الصراع باعتباره صراعا بين دول متحالفة مع القوى العظمى ودول إقليمية مناهضة لها. إلا أن وجهات النظر هذه، بسبب تبسيطها، لا تستطيع إبراز السبب وراء وقوع الأحداث في وقتها وشكلها المحدد. لهذا السبب، ستحاول هذه الورقة تقديم استعراضا شاملاً لأهم التفاصيل والأحداث الرئيسية وتتبع تطوراتها وتعرجاتها، وذلك حتى يتحرر القارئ من التفسيرات الجاهزة والنمطية، ويدرك تعقيد هذه الأحداث وطبيعتها العصية على الفهم البسيط.

في هذه الورقة سأجادل بأن فراغ القوّة الذي أحدثه الانسحاب البريطاني من الخليج أطلق تنافساً محموماً بين دوله، وكانت الدول المتنافسة على الهيمنة على الخليج قد وظفت الحقائق الثلاثة السابقة بأشكال مختلفة، فتارة تستغل أطماع القوى العظمى في الثروة النفطية من أجل بسط الهيمنة تحت مظلتها، وتارة يتم توظيف الهويات الإثنية والطائفية من أجل إضعاف والضغط على الأنظمة الأخرى. من جهة أخرى، ستوضح هذه الورقة كيف قادت حمى التنافس والصراع علي الهيمنة على الخليج إلى توسع أفق هذا الصراع ومشاركة العديد من الفاعلين فيه، بل وتحوّل أحد أهم الفاعلين فيه (العراق) إلى ساحة تنافس بين القوى الأخرى. إن تقديم السياق التاريخي للصراع على المنطقة، وآفاق التعاون والصدام لهو أمر مهم لصنّاع القرار من أجل الوصول إلى حالة من الاستقرار العادل. أمران رئيسيان سيبدوان جليّان من هذا الاستعراض التفصيلي لأربعة عقود من العلاقات المعقدة بين دول الخليج العربي. الأمر الأوّل هو أن سعي الدول الإقليمية لحماية أنظمتها قد اتسم دائماً بتفكير قصير الأمد وبناء تحالفات واستغلال لهويّات ومظالم معيّنة تنتهي دوما إلى نتائج عكسية (إيواء نظام البعث في العراق للخميني واستخدامه في صراع العراق ضد الشاه في السبعينات هو المثال الأشهر). أما الأمر الثاني فهو الدور التخريبي الذي لعبته وتلعبه الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة. فرغم أن التكلفة السنوية لتواجدها في المنطقة منذ الثمانينات (بدون تكاليف غزو العراق الأخيرة) تعادل إنفاقها السنوي للحرب الباردة ضد الإتحاد السوفييتي[1]، إلا أن هذا الإنفاق جاء وفق قرارات ارتجالية وسياسات متخبطة قادت في مجملها إلى جعل تحقيق السلام في المنطقة أمراً شديد الصعوبة.

عقد السبعينات: انسحاب بريطانيا وثورة النفط

كانت منطقة الخليج حتى بداية السبعينيات الميلادية منطقة خاضعة للسيطرة البريطانية. إلا أن بداية هذا العقد شهدت حدثين رئيسيين حوّلا طبيعة العلاقات في هذه المنطقة بشكل جذري. ففي يناير من عام 1968، ونتيجة ضغوط داخل البرلمان بخصوص الميزانية،[2]أعلن حزب العمل الحاكم في بريطانيا عن عزمه الانسحاب من كل من البحرين وقطر والإمارات العربية المتحدة وعمان وسنغافورة وماليزيا خلال جدول زمني مدته خمس سنوات. وفعلا تم الإنسحاب في عام 1972، وهو الأمر الذي خلف فراغ قوّة في منطقة تحتوي على ثروة نفطية مهمة للنظام العالمي المحكوم بمنطق الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد السوفيتي آنذاك.

وبدلاً من التدخل المباشر في المنطقة من أجل ملء فراغ القوّة هذا، اكتفت القوتان العظميتان في العالم بكسب النفوذ عبر التحالف مع القوى الإقليمية في المنطقة. ففي أمريكا، قامت إدارة الرئيس نيكسون، التي كانت مثقلة بأعباء حرب ڤيتنام، باتباع استراتيجية، عرفت فيما بعد بمبدأ نيكسون، مؤداها توفير الدعم العسكري واللوجستي للدولتين الحليفتين في المنطقة (إيران، والسعوديّة) والاعتماد عليهما لمنع الخليج من السقوط في يد الإتحاد السوفييتي. فعلى سبيل المثال، ارتفع حجم الإمدادات العسكريّة لإيران من 103.6 مليون دولار عام 1970 إلى 552.7 مليون دولار في عام 1972، وللسعودية من 15.8 مليون دولار في عام 1970 إلى 312 مليون دولار عام 1972.[3]

اتبع الاتحاد السوفييتي سياسة تطويقية من أجل إنهاء وتقليل نفوذ الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، تمثلت بزيادة الارتباط والدعم للدول ذات التوجهات القومية واليساريّة. فبعد استقلال اليمن الجنوبي عام 1967، تشكلت حكومة ماركسية مرتبطة بعلاقات اقتصادية وعسكرية وثيقة بالاتحاد السوفييتي وكوبا وألمانيا الشرقية. وفي التاسع من أبريل عام 1972، وقع الاتحاد السوفييتي معاهدة الصداقة والتعاون مع العراق المحكوم من قبل حزب البعث. بالإضافة لدعم هاتين الدولتين، وفّر الاتحاد السوفييتي بعض الدعم للـ”جبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل” في ظفار في عمان، والتي كانت تتمتع بدعم من قبل اليمن الجنوبي أيضاً.[4]

ولإن كان قرار الإنسحاب البريطاني تسبب بخلق حالة فراغ قوّة في هذه المنطقة، فإن قراراً آخر اتخذه معمّر القذّافي في ليبيا عام 1970 لعب دوراً كبيراً في تغير شكل منطقة الخليج اقتصادياً. فبعد انقلابه على الملكية في ليبيا، طلب القذافي من إحدى شركات النفط العاملة في بلده برفع حصّة الحكومة من النفط من 50٪ إلى 55٪ وزيادة سعر البرميل من 2 دولار إلى 2.3 دولار، وبعد عدة مناورات رضخت الشركة، فتبعتها الشركات الأخرى في ليبيا. مثلت هذه الحادثة نموذجاً احتذت به حكومات الخليج. ففي نهاية عام 1970، قامت إيران بالمطالبة برفع حصتها من النفط، وبعد عدة أشهر، أي في مطلع عام 1971، اجتمعت الشركات النفطية بممثلي حكومات الخليج (الذين ما كان لهم أن يستطيعوا تنسيق عملهم الجماعي لولا منظمة أوبك التي أسسها قبل عقد من الزمان وزير النفط السعودي عبدالله الطريقي بالتشارك مع وزير النفط الڤنزويلي) لتوافق على رفع حصة المشاركة إلى 55٪ وزيادة الأسعار 35٪. تبع ذلك مسلسل من زيادة الأسعار أدى إلى مضاعفة مداخيل دول الخليج من النفط إلى ضعفين أو ثلاثة. وبهذه الطريقة انتقلت قوّة تحديد الأسعار من يد الشركات الغربية إلى يد الحكومات المصدرة للنفط ممثلة بمنظمة أوبيك. وفي عام 1972، أمم حزب البعث في العراق النفط، لتتبعه إيران بعد ذلك، أما بقية دول الخليج فقد اتفقت مع الشركات على امتلاك حصة معينة من الأسهم (السعودية امتلكت 25 %) مع وعد بزيادة ملكيتها في الأعوام القادمة (في عام 1974 زادت السعودية نسبة تملكها إلى 60%، وفي عام 1980 امتلكت آرامكو بالكامل).

في عام 1973، وبعد يومين من الهجوم المباغت الذي شنته كل من مصر وسوريا ضد الكيان الصهيوني، اجتمعت دول منظمة أوبيك بشركات النفط مطالبة إياها بزيادة سعر النفط بـ 100%، لكن المفاوضات لم تنجح. فاجتمعت دول الخليج في الكويت لتعلن رفع أسعار النفط 70%. ومع ارتفاع وتيرة الدعم الأميركي للصهاينة، بدأت المفاوضات حول استخدام النفط كسلاح في الصراع العربي الإسرائيلي، الأمر الذي انتهى بإعلان كل من السعودية والكويت والإمارات حظر تصدير النفط للولايات المتحدة الأميركية.

شكّلت هذه الأحداث في مجموعها ثورة نفطيّة هزت سوق النفط العالمي، وأدى ارتباطها الوثيق بالصراع العربي-الإسرائيلي إلى أن تبدأ الولايات المتحدة الأميركية بصياغة سياساتها في المنطقة بطريقة تربط منع حدوث حروب جديدة بين إسرائيل والعرب مع ضمان منع استخدام النفط كسلاح سياسي ضدها مرة أخرى، كما أدت هذه الثورة إلى تدفق المداخيل النفطية الهائلة لدول الخليج مما زاد من قوّة الأنظمة الحاكمة مقابل المجتمعات والحركات الاجتماعية.

على المستوى الإقليمي، شكّل كل من فراغ القوّة الذي خلفه البريطانيون والمداخيل النفطية الهائلة للدول الإقليمية نافذة قامت كل دولة بمحاولة استغلالها لصالحها قدر الإمكان. ففي 30 نوفمبر عام 1970، أرسل شاه إيران قواته للسيطرة على الجزر الإماراتية الثلاث القريبة من مضيق هرمز. كما أنه طالب بضم البحرين إلى إيران، إلا أنه فيما بعد – وحتى يستطيع كسب السعودية إلي جانبه في رفض استمرار بقاء القوات البريطانية في المنطقة – وافق على أن يقرر البحرينيون مصيرهم عبر مهمة استقصاء من الأمم المتحدة. كما أنه قام بإرسال قواته إلى عمان من أجل القضاء على ثورة ظفار. أما بخصوص العراق، فبعد أن قام الشاه بإلغاء اتفاقية 1937 المتعلقة بحدود شط العرب  من طرف واحد في عام 1969، قام بتقديم الدعم للأكراد في شمال العراق وذلك من أجل إسقاط الحكومة العراقية المنافسة له وحليفة الإتحاد السوفييتي.

أما فيما يتعلق بالعراق، فقد أدت وفاة عبدالناصر في عام 1970، إلى سعي العراق لتزعم العالم العربي بتأكيد المواقف الصارمة تجاه اسرائيل والقضايا العربيّة. فقد قام العراق بقطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران بعد أن قامت الأخيرة بالاستيلاء على الجزر الإماراتية الثلاثة، كما قام بدعم ثورة ظفار في عمان، وإرسال القوات العراقية للمشاركة في مساعدة الدول العربية في حربهم ضد اسرائيل في عام 1973. وبسبب هذه السياسات، بالإضافة للتحالف مع الاتحاد السوفييتي وقرار تأميم النفط عام 1971، قامت كل من إيران والولايات المتحدة واسرائيل بتقديم الدعم للحزب الكردي الديمقراطي بقيادة مصطفى برزاني في انتفاضته ضد الحكومة العراقية. وردت العراق بتوفير الدعم لعرب الأحواز ولرجل دين إيراني اسمه روح الله الخميني. في مطلع الستينات، تبنى الشاه سياسات تنموية تفرض من أعلى أطلق عليها اسم “الثورة البيضاء”، كما قام في عام 1963 بمنح الجنود الأمريكيين حصانة دبلوماسية. أعلن الخميني معارضته لهذه السياسات، مما أدى لسجنه مرتين، ثم نفيه إلى تركيا. بعدها سمح له بالدخول إلى النجف في العراق، وهناك أمضى قرابة 14 سنة.

هذا الصراع الإيراني-العراقي تم حلّه في عام 1975 عندما وقع البلدان اتفاق الجزائر الذي نصّ على أن تقر العراق بسيادة إيران على نصف شط العرب وإيقاف الدعم لعرب الأحواز وطرد الخميني من أراضيه، مقابل أن تعيد إيران للعراق قطعة أرض حدودية متنازع عليها وتوقف دعمها للأكراد المنتفضين.

بالنسبة للسعودية، فقد كانت في البدء معارضة للانسحاب البريطاني، لكن بعد أن أعلن شاه إيران قبوله لنتائج استقصاء تقرير مصير البحرين واحتواء ثورة ظفار (حيث تخوفت السعودية من تمدد تأثيرها في أنحاء الجزيرة العربية)، شاركت السعودية شاه إيران رغبته في انسحاب بريطانيا، حيث منحها هذا فرصة لفرض هيمنتها على الإمارات الصغيرة الجديدة، كما فتح الباب أمامها لحل نزاعاتها الحدودية حول واحات البريمي مع إمارة أبو ظبي وعمان.[5]وحتى عام 1975، كانت السعودية تتعاون مع إيران لموازنة التهديد الذي كان يمثله نظام البعث العراقي. لكن بعد إتفاق الجزائر، بدأ العراق بتحسين علاقاته مع السعودية حيث تعهّد بوقف دعايته المناوئة للسعودية، كما تم الاتفاق بين البلدين على العمل بتقسيم المنطقة المحايدة بينهما مناصفة بخط مستقيم، حيث أنجز  هذا التقسيم في عام 1981.[6]

بالنسبة لبقيّة بلدان الخليج (ما عدا الكويت التي نالت استقلالها عام 1961)، فقد مثل الانسحاب البريطاني لحظة ميلاد بالنسبة لها، حيث وجدت نفسها بكثافتها السكانية المتواضعة وثروتها النفطية الهائلة بين ثلاثة دول إقليمية طموحة ومتصارعة. اتحدت سبع إمارات فيما بينها مشكلة الإمارات العربيّة المتحدة التي بدأت حياتها باحتلال شاه إيران للجزر الثلاثة، في حين استقلت كل من قطر والبحرين كدولتين مستقلتين. أما عمان، فقد دبّر البريطانيين انقلاباً على السلطان سعيد عام 1970، ليحل محله ابنه السلطان قابوس، والذي سيلجأ لمساعدة الشاه، حيث سيرسل الأخير فرقاً من الجيش الإيراني لإنهاء ثورة ظفار، كما أنه سيلجأ لمساعدة الطيارات الأردنية في مواجهة هذه الثورة. بعد عام 1975، أنهى العراق دعمه لثورة ظفار، وفي عام 1977، اتفق العراق مع الكويت على تسوية خلافاتهما.

ورغم أن بداية عقد السبعينات كانت صاخبة، إلا أن دول المنطقة أبدت كفاءة عالية في حلّ الخلافات فيما بينها بطريقة كانت تبشّر باستقرارها على المدى الطويل. إلا أن الثورة الإيرانية جاءت لتفجّر المنطقة من جديد لتجعل من فترة السبعينات فترة ذهبية مقارنة بما سيحدث بعدها. كما نلاحظ أن الصراعات في هذه الفترة لم تكن مؤطرة باعتبارها صراعات طائفية، أو صراعات عرقية، فكما يقول ديفيد لونج: ”كانت المواجهات الرئيسية في الخليج قبل الثورة الإيرانية لا تصاغ باعتبارها مواجهات سنيّة-شيعية، أو عربيّة-فارسيّة، بل باعتبارها صراعات بين قوى محافظة وقوى راديكالية“[7].

عقد الثمانينات الساخن

لإن كان مطلع السبعينات حافلاً بالتغيرات الإقليمية اللافتة، فإن العام 1979 شكل لحظة مفصلية في تاريخ الخليج العربي والمنطقة برمتها. ذلك أن هذا العام شهد العديد من الأحداث. الأول، هو نجاح الثورة الإيرانية في إسقاط نظام الشاه وتأسيس الجمهورية الإسلامية. أما الثاني، فهو اقتحام الإتحاد السوفيتي لأفغانستان. والثالث تمثل بتوقيع كل من مصر واسرائيل لمعاهدة السلام المسماة اتفاقية كامب ديفيد. والرابع هو في إطاحة صدام حسين لأحمد حسن البكر وتسلمه رئاسة الجمهورية العراقية. والخامس، نشوب حرب بين اليمنين الشمالي والجنوبي. والسادس، قيام مجموعة من المسلحين بزعامة جهيمان العتيبي بالاستيلاء على الحرم المكيّ.

تعتبر الثورة الإيرانية حدثا ضخما ذا آثار متعددة، لكن إذا أردنا حصر آثارها على النظام الإقليمي الخليجي، فيمكن القول بأنها أنهت التحالف الأميركي-الإيراني (مبدأ نكسون)، وتسببت بتضاعف أسعار النفط مرتين، وقادت بشكل مباشر نحو حرب طويلة ومدمرة بين العراق وإيران دامت ثمان سنوات (1980-1988). كما أنها حوّلت التحالفات الموجودة في المنطقة، إذ لا يمكن فهم تأسيس مجلس التعاون الخليجي عام 1981 إلا بوصفه ردة فعل الدول الخليجية تجاه هذا التهديد الذي مثلته إيران ذات البرنامج الثوري في المنطقة.

 انتقلت إيران بعد الثورة من السعي نحو الهيمنة على المنطقة ضمن المظلة الأميركية، إلى الهيمنة على المنطقة عبر الإطاحة بالهيمنة الأميركية. أي أن سياسة الخميني الخارجية كانت امتداداً لسياسة الشاه فيما يتعلق بالسعي نحو الهيمنة، لكنها كانت قطيعة معها فيما يتعلق بأهداف وأسس واتجاه هذه الهيمنة. وهذا التوجه السياسي يمكن ملاحظته في شعارات مثل “لا شرقية ولا غربية”، و”تصدير الثورة”، و”الجمهورية الإسلامية”، إذ أنها كلها تشير إلى تحد مباشر للنظام العالمي الثنائي القطب، وللأنظمة الملكية، وللسعي نحو زعامة المنطقة، وهو تحدّ يتبنى نوع من التثوير الإسلامي والذي يكتسي عادة صورة طائفية.

فعلى أرض الواقع، انتقلت السعودية ودول الخليج من خانة الأصدقاء إلى خانة الأعداء، حيث سعت إيران بشكل مباشر لتغيير الأنظمة الحاكمة في تلك البلدان، وكذلك التأثير والدعم لبعض الحركات السياسية الإسلامية الشيعية في هذه البلدان، كما سعت نحو احتكار تمثيل الشيعة والتدخل في البلدان ذات التواجد الشيعي بدعوى حمايتهم.[8]ويمكن القول أن تأثير الثورة الإيرانية على الجماعات السياسية الشيعية في دول الخليج العربية انقسم ما بين التأثير غير المباشر الذي ينتجه أي حدث ثوري ضخم، وما بين الدعم المباشر. وكلا العاملين لعبا دوراً مهماً في الانتفاضة التي قادها الشيرازيين – من أمثال حسن الصفار وتوفيق السيف – في السعودية عام 1980 والتي تطورت إلى تأسيس “منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية“ في إيران، وكذلك محاولة الانقلاب التي أعلن أن منظمة شيرازية اسمها “الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين”  كانت تسعى للقيام بها في البحرين عام 1981، وكذلك الهجمات وأعمال العنف التي استهدفت الكويت ومصالحها، بما في ذلك محاولة اغتيال أميرها في منتصف عام 1985. كما رفض الخميني طلب حاكم رأس الخيمة بإعادة الجزر الثلاثة، وطالبت أصوات داخل النظام الإيراني الجديد بإعادة المطالبة بالبحرين،[9]وصاحبت هذه المطالبات إدانة جذرية للدول الخليجية باعتبارها تابعة للغرب وأن هذه التبعية تتناقض مع دعوى تمثيل الإسلام الصحيح. أما تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي، فقد سعى النظام الإيراني الجديد لفرض هيمنته في مواجهة الهيمنة الأمريكية عبر إنهاء علاقاته مع الكيان الصهيوني، وتوفير الدعم للفلسطينيين واللبنانيين في حربهم ضد الصهاينة، والذي توّج بتأسيس حزب الله اللبناني والتحالف الوثيق بحركة الجهاد الإسلامي وحماس في فلسطين. ومما يزيد التأكيد على البعد الجيوستراتيجي لهذه السياسات علاقة نظام الثورة الإسلامية بالنظام السوري، إذ أن التحالف معه رغم علمانيته وبعثيته مثلت ضرورة في مواجهة حزب البعث العلماني في العراق، حيث عملت سورية كحليف مهم لموازنة الخطر العراقي بالنسبة لإيران، كما أن السكوت عن الانتفاضة الإسلامية في سورية عام 1982 كشف حدود “تصدير الثورة الإسلامية” في خطاب النظام الجديد.

إلا أن الصراع الأهم الذي أنتجته الثورة الإيرانية فقد تمثّل بالحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988). فقد شكلت الثورة الإيرانية بالنسبة للنظام العراقي تهديداً وفرصة في نفس الوقت. إذ كانت تهديداً برفعها لشعار إسقاط النظام العلماني، وتصدير الثورة، ودعمها للحركات الشيعية العراقية العاملة ضد النظام العراقي. وكانت فرصة لأن النظام العراقي اعتبر عام 1979 عام سعد بالنسبة له، ونافذة لبسط هيمنته على الخليج والمنطقة. فالثورة قد أضعفت من قوّة الدولة الإيرانية، مما جعلته يعتقد أن موازين القوى في الخليج باتت في صالحه، خصوصاً وأن التهديد الذي مثلته الثورة على بقيّة دول الخليج جعلتها أكثر قربا للنظام العراقي. كما أن اتفاقية كامب-ديفيد التي وقعتها مصر مع الكيان الصهيوني، ساهمت في إخراج مصر من الجامعة العربية وعزلها، وهو الأمر الذي زاد من تقارب الدول العربية مع العراق وجعله متسيداً. هذا كله دفعه للاعتقاد أن بإمكانه بسط هيمنته على الخليج والمنطقة برمتها. وفيما يتعلق بإيران فقد مثلت هذه الظروف فرصة للنظام العراقي لإعادة السيطرة على شط العرب الذي تنازل عن نصفه في اتفاقية الجزائر عام 1975.
بالنسبة للمملكة العربية السعودية، مثلت الثورة الإيرانية واتفاقية كامب ديفيد والغزو السوفييتي لأفغانستان تهديدات خارجية ترافقت مع تهديدات داخلية تمثلت باحتلال الحرم التي قادها جهيمان العتيبي، والانتفاضة في القطيف. فهذه الأحداث عنت فقدان السعودية لحليفها المصري ونظام غير عدائي في إيران، وعنت كذلك ريبة تجاه الراعي الأمريكي الذي لم يستطع الدفاع عن حليفه الإيراني، وعنت كذلك تهديدا للشرعية الإسلامية واقتراباً للأطماع السوفيتية من النفط الخليجي. هذا الوضع الجديد واجهته السعودية بعدة إجراءات: أولاً، تأسيس مجلس التعاون الخليجي، ليعمل بمثابة إطار تنسيقي بين دول الخليج العربية لمواجهة الخطر الإيراني وتفادي آثار الحرب العراقية-الإيرانية وصيغة وحيدة للدفاع في ظل وجود بيئة رافضة ومتشككة من جدوى الحماية الغربية بعد سقوط نظام الشاه. وفي ضمن هذا السياق تشكّلت قوات درع الجزيرة باعتبارها ترتيباً عسكرياً لحماية الخليج. إلا أنه من الأيام الأولى كانت هناك رؤى مختلفة بين الدول الأعضاء حول تكوين المجلس وغاياته. فعمان مثلاً كانت حريصة من اليوم الأول على ألا يظهر المجلس ككيان معادي لإيران، وعلى ألا يستخدم كذريعة لانتقاص السيادة الوطنية للدول الأعضاء. هذه التخوفات العمانية تشير إلى أمرين: إدراك لأهمية المجلس ولكن في نفس الوقت وجود تخوّف من هيمنة السعودية عليه وتحويله إلى امتداد لنفوذها على حساب الدول الصغرى. وبسبب هذه التخوفات نجد أن المجلس يجد صعوبة في أن يعبّر عن سياسة خارجية موحدة للدول الأعضاء التي ستحاول شق سياساتها الخارجية بطريقة منفصلة وبعض الأحيان في مواجهة للدول الأخرى.

بالإضافة لتأسيس المجلس، ضاعفت السعودية من تأكيدها على شرعيتها الإسلامية، وذلك بزيادة تحالفها مع الحركات الإسلامية في الخارج، ودعم المقاومة الأفغانية الإسلامية ضد الغزو السوفييتي، وكذلك بالسماح للجماعات الإسلامية في الداخل بالانتشار في المجالات التعليمية والدعوية والاجتماعية فيما يعرف عادة بظاهرة الصحوة، ولعل أهم إشارات هذا التحوّل هو تغيير المسمى الملكي إلى ”خادم الحرمين الشريفين“ عوضاً عن جلالة الملك. أما بخصوص العلاقة مع الولايات المتحدة، فبعد برود في العلاقات بسبب رفض السعودية تأييد اتفاق كامب-ديفيد مما دفع أمريكا لتجميد صفقة مكونة من 50 طائرة،[10]أدى التهديد الذي باتت تمثله الثورة الإيرانية وصعود صدام حسين والغزو السوفييتي إلى مزيد من التقارب بين البلدين. إذ أعلن الرئيس كارتر عن مبدأه الخاص حيث هدد أي قوة خارجية تهدد أمن الخليج بأنها ستواجه بكل طريقة ممكنة بما في ذلك استخدام القوة، كما أمر بتشكيل قوات الإنزال السريع المشتركة والتي ستكون مهمتها التدخل السريع في الخليج في حال تم تهديد المصالح أو الحلفاء. في عام 1981، جاء ريجان للسلطة مؤكداً لمواقف كارتر، كما أنه رقّى قوات الإنزال السريع المشتركة ليجعلها قيادة مركزية أمريكية مسؤولة عن منطقة الخليج والشرق الأوسط وجنوب آسيا. وفي عام 1987 عندما بدأت القوات الإيرانية بالاعتداء على ناقلات النفط الكويتية، أمر ريجان البحرية الأمريكية بحماية ناقلاتها. أما فيما يتعلق بأفغانستان فقد تعاونت السعودية وأمريكا في ما يعرف بـ “عملية الزوبعة”، حيث تم تمويل وتسليح وتدريب القوات الأفغانية المقاومة للغزو السوفييتي. وأدت هذه السياسات الأمريكية-السعودية إلى نتيجة غير مخطط لها، ألا وهو بزوغ ظاهرة الأفغان العرب، والتي قام مجموعة منهم، في عام 1988، بتشكيل تنظيم القاعدة لكن بلا أهداف أو استراتيجيات واضحة.[11]

       انتهت الحرب العراقية-الإيرانية في عام 1988، وتوفي الخميني عام 1989، وهي السنة التي انسحب فيها الاتحاد السوفييتي من أفغانستان، وبدأت علامات تفككه تؤذن بانتهاء الحرب الباردة. خرج العراق من الحرب قويّاً عسكرياً، لكن منهكاً اقتصادياً. صدّام أراد حصد ثمار ”انتصاره“ عبر تأكيد زعامته للعالم العربي، حيث قام في عام 1989 بتأسيس مجلس التعاون العربي بعضوية مصر والأردن واليمن الشمالي، إلا أن المجلس لم يعمل كما شاء. انتهى هذا العقد بسنوات هادئة أكثر بكثير من البداية الصاخبة، لكنه كان هدوء من ذلك النوع الذي يسبق العاصفة، فما أن يبدأ عقد التسعينات إلا ويقوم صدّام بغزو الكويت.

عقد التسعينات … تحييد العراق

مثّل عقد التسعينات انتقال منطقة الخليج العربي من عصر القطبين في الحرب الباردة، إلى عصر القطب الأميركي الواحد، ومن عصر النظام الإقليمي الثلاثي (إيران-العراق-السعودية)، إلى النظام الإقليمي الثنائي (إيران -السعودية) وذلك بعد أن تم تحييد وعزل العراق بعد فشل مغامرته لغزو الكويت.

مثّل غزو العراق للكويت أوّل امتحان حقيقي لقدرة مجلس التعاون الخليجي على حماية أعضائه، وأدى فشله في هذا الامتحان إلى أن يقوم أعضاؤه بالبحث عن طرق بديلة لحماية أنفسهم. تزامنت هذه اللحظة مع نهاية الحرب الباردة ورغبة الولايات المتحدة زيادة نفوذها في منطقة الخليج وحماية مصالحها من تهديد كل من العراق وإيران. أدى اجتماع هذين العاملين بالدول الخليجية لأن تختار التحالف مع أمريكا ودول غربية أخرى، خصوصا بعد أن أثبتت هذه التزامها بأمن حلفاؤها عندما قامت بطرد القوات العراقية عن الكويت واستعادة الأخيرة لاستقلالها. فالغزو العراقي للكويت ساهم في التهوين من شأن المحظور العربي المتعلق بالاستعانة بالقوى الأجنبية. وهكذا، سمحت الكويت بتواجد قوات أميركية على أراضيها تمثلت بما لا يقل عن خمسة آلاف جندي، وطائرات، ومعدات وتجهيزات عسكرية. أما البحرين فقد أصبحت في عام 1995 مرفأ الفيلق الأميركي الخامس. بالنسبة لقطر، فقد خصصت منطقة العديد لبناء قاعدة جويّة أميركية عليها، بالإضافة لتواجد عسكري في كل من الإمارات وعمان. كانت السعودية هي الدولة الخليجية الوحيدة التي لم توقع على اتفاقية دفاع رسمية، ولكنها عقدت العديد من صفقات الأسلحة مع الولايات المتحدة الأميركية، وسمحت لها باستخدام قواعدها العسكرية لفرض حظر الطيران في المناطق الجنوبية من العراق. وعلى الرغم من أن هذا التواجد العسكري وفّر للولايات المتحدة نفوذا متعاظما في المنطقة، إلا أنه جاء بأربعة نتائج رئيسية ستلعب دورا مهما في المنطقة.

أولاً، أرادت الولايات المتحدة الأميركية من هذا التواجد العسكري المتزايد احتواء العراق وإيران، في سياسة عرفت باسم “الإحتواء المزدوج” التي اتبعها كلينتون. بالنسبة للعراق فقد تمثلت هذه السياسة بفرض منطقتي حظر طيران شمال وجنوب العراق، وكذلك – تحت مظلة الأمم المتحدة بقرار رقم 687- فرض قائمة عقوبات اقتصادية قاسية جداً تضمنت حضراً كلياً على مبيعات النفط العراقي لن ترفع إلا إذا استجاب النظام العراقي لقائمة شروط مطولة. كان الهدف من هذه العقوبات هو زيادة الضغوط الداخلية عليه من أجل إضعافه. في عام 1998، تركزت سياسة أمريكا اتجاه العراق في هدف واحد: إسقاط النظام، حيث مرر الكونجرس قراراً يقضي بتمويل المعارضة العراقية من أجل إنهاء حكم صدام، وهذا القرار هو الذي سيتطور لاحقا ليصبح الأساس الذي سينطلق منه جورج بوش لاحتلال العراق عام 2003. ونتيجة لانعدام الثقة المتبادلة، استمر الحصار الاقتصادي الذي أثر بشكل كبير على المستوى الاقتصادي والخدماتي والحكومي العراقي، وأدى إلى عزل المجتمع العراقي عن محيطه العربي، وتقلّص نفوذ الدولة مفسحاً المجال للهويات الطائفية والعشائرية بالتشكل ولعب دور رئيسي في تدبير شؤون الناس ومعاشهم، وهذه الآثار الإجتماعية ستلعب دورا رئيسيا بعد عام 2003 عندما تغزو أمريكا العراق وتسقط حكومته.[12]

ثانياً، على الرغم من أن دول الخليج استطاعت تجاوز محظور الاستعانة بالقوات الأجنبية، إلا أن الرأي العام في هذه الدول كان معارضاً لهذا التطور. يمكن ملاحظة هذه المعارضة لدى قطاعات من حركة الصحوة في السعودية التي قامت بشن حملة شعبية ضد الوجود الأمريكي في المنطقة، وسعت للضغط من أجل التخلص منه. واجهت الحكومة السعودية هذه الحملة بسجن قياداتها والشباب الناشطين فيها.[13]وفي هذه الأثناء التي فشلت فيها الأساليب غير العنفية التي اتبعتها الصحوة للضغط من أجل إنهاء الوجود العسكري الأمريكي، كان أسامة بن لادن في السودان يعيد ترميم تنظيم القاعدة برؤية أكثر وضوحاً هذه المرة، حيث مثّل زيادة التواجد العسكري الأمريكي في الخليج والتدخل العسكري الأمريكي في الصومال مبرراً كافيا لفكرة أن استخدام العنف هو الوسيلة الأجدى لمواجهة هذا التواجد الأميركي المتعاظم. ففي عام 1996، سيعلن أسامة بن لادن “الجهاد على الأمريكان المحتلين لبلاد الحرمين”، ومن هذه اللحظة، ستبدأ القاعدة بشن هجماتها على المصالح الأمريكية داخل السعودية وخارجها بشكل تصاعدي حتى الوصول إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001.[14]وفي عام 1999، أعلن ملك الأردن الجديد العفو عن ثلاثة آلاف سجين سياسي، كان من بينهم شخص اسمه فاضل نزال الخلايلة، والذي سيعرف لاحقا باسم (أبو مصعب الزرقاوي). بعد الإفراج عنه، سينتقل الزرقاوي إلى أفغانستان، سيلتقي ببن لادن لكن الأخير لم يتفق معه ولم يقبله في التنظيم مما سيدفعه إلى إنشاء معسكره التدريبي الخاص باسم (جند الشام)، والذي سيكون بذرة ما سيصبح فيما بعد تنظيم الدولة الإسلامية[15].

ثالثاً، منح التواجد العسكري الأمريكي في الخليج الدول الخليجية الصغرى هامش حركة أكبر من السابق. فهذا الهامش، إضافة إلى بدء استغلال مخزون الغاز الطبيعي الهائل في دولة قطر في وقت كانت فيه أسعار النفط متدنية بشكل كبير، وفّر شروطاً أساسية لدفع القيادة الجديدة في قطر (بعد التغيير في الحكم عام 1995) نحو السعي لللعب دور رئيسي في المنطقة، وذلك باستغلال القنوات الفضائية والحركات الاجتماعية واستقطاب النخب الثقافية وتأسيس قناة الجزيرة التي لعبت دوراً مهماً في إعادة صياغة السردية العربية وتوحيدها، والتي سيتزايد دورها بشكل أكبر في عقد الألفية وفي تغطيتها للأحداث من الغزو الأمريكي للعراق إلى الربيع العربي. 

أخيراً، صعّب التواجد العسكري الأمريكي في الخليج من إمكانية تحقيق تسوية وتحسين العلاقات بين إيران ودول الخليج، رغم ما مثله غزو العراق للكويت من فرصة لتحسين هذه العلاقات. فبينما رأت دول الخليج في زيادة الاعتماد على الحماية الأمريكية صمام أمان لها من تكرار حادثة الغزو العراقي، رأت إيران في زيادة التواجد هذا تهديداً مباشراً لأمنها، أما الأجنحة الثورية فيها فقد رأت فيه دليلاً صارخاً على “عمالة” الأنظمة الخليجية. ورغم هذا، مثّل تحجيم دور العراق مكسباً كبيراً لإيران، حيث جعل ذلك منها القوّة الأكبر في الخليج، إلا أن الآثار الاقتصادية للحرب الإيرانية-العراقية ولتدني أسعار النفط، والآثار السياسية لوفاة الخميني، والتحوّل العالمي بعد الحرب الباردة الذي كثّف من التواجد الأميركي في المنطقة، دفعها تحت إدارة رفسنجاني لاتخاذ سياسة حذرة ومسالمة في المنطقة، جعلت من الإصلاح الاقتصادي والتصالح السياسي أولويات لها.

أدت الحرب إلى انخفاض معدل دخل الفرد الإيراني عام 1988 لما يعادل 45%، وإلى زيادة التضخّم بما يعادل 29%، وقدرت الخسائر المباشرة وغير المباشرة للحرب بما يقارب التريليون دولار. كما زاد معدل سعر الاستهلاك بما يعادل 600% في حين أن الأجور لم ترتفع إلا بما يعادل 120%. نزح الكثير من الإيرانيين جراء الحرب، ودمرت الموانئ والمنشآت النفطية، حيث نصت التقديرات على أن 45% من القدرة الانتاجية فقط كانت فعّالة بعد الحرب. كان رد فعل رفسنجاني – الذي انتخب رئيساً عام 1989 – هو تبني استراتيجية لإنعاش الإقتصاد قائمة على الخصخصة وفتح الباب للاستثمار الأجنبي. إلا أن هذه الخطة واجهت معارضة من قبل اليسار الإسلامي – الأكثرية في البرلمان – الذي اعتبر مثل هذه الخطة عودة لخضوع إيران للتبعية والديون الأجنبية، وتخلياً عن النهج الثوري للخميني. جاء رد رفسنجاني على اليسار بأن شكّل حكومته من شخصيات تكنوقراطية غير محسوبة على اليسار، مثل وزير الإقتصاد محسن نوربخش الحاصل على الدكتوراة في الإقتصاد من جامعة كاليفورنيا، و محافظ البنك المركزي محمد حسين عادلي الحاصل على الدكتوراة في الاقتصاد وإدارة الأعمال من جامعة بيركلي. ورغم معارضة اليسار، إلا أن رفسنجاني استطاع الانطلاق بخطة الإنعاش عبر خصخصة  400 مؤسسة حكومية من أصل ثلاث آلاف، لتصل قيمة ما باعته الحكومة في نهاية عام 1994 لما يقارب 1.7 تريليون ريال. مع نهاية فترة رفسنجاني في عام 1997، حققت مشاريع الخصخصة ما قيمته 1.8 تريليون ريال إضافية. ورغم المؤشرات الإيجابية التي أظهرها الاقتصاد الإيراني في مطلع التسعينات (غالباً بسبب زيادة أسعار النفط بعد غزو العراق للكويت)، انتهت خطة الإنعاش هذه بأزمة اقتصادية: حيث تفشى الفساد، ودفعت أزمة الديون المستثمرين الأجانب لسحب استثماراتهم، وازداد التضخم، وغيرها من المشاكل.[16]

يمكن فهم السياسة الخارجية الإيرانية المسالمة والحذرة في ظل هذا السعي الداخلي نحو الإصلاح الاقتصادي، وكذلك في ظل تشكل نظام الحماية الأمريكية لدول الخليج. هذان العاملان يفسران الانفتاح السياسي في العلاقات بين إيران والسعودية وبقية دول الخليج. فقد مثّل موقف الحياد الذي اتخذته إيران من تحرير الكويت فرصة لتحسين العلاقات بينها وبين دول الخليج الذي بدأ على الصعيد الاقتصادي، إذ أسفرت محادثات بين الرئيس رفسنجاني والسعودية على موافقة السعودية على تخفيض إنتاجها من النفط مقابل أن تزيد إيران انتاجها من أجل تحسين أوضاعها الاقتصادية، كما أنه لاحت بوادر إشارات على قبول الإيرانيين بالتفاوض حول حل لأزمة الجزر الإماراتية. استأنفت العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران في عام 1990 بعد انقطاعها على إثر حادثة الحجاج الإيرانيين عام 1987. وفي نفس السنة، سمحت السعودية للإيرانيين بالحج، حيث حثهم رفسنجاني على القيام بالفريضة دون استفزاز الدولة المضيفة. فقد سمحت السعودية للحجاج الإيرانيين بالتظاهر ضد الولايات المتحدة واسرائيل، لكن دون رفع شعارات ضد السعودية.[17]صحيح أن بناء العلاقات تأثر بلجوء دول الخليج للحماية الأمنية الأمريكية، إلا أنها استمرت في النمو والتطور بحيث تم توقيع العديد من الاتفاقيات على مستوى الطيران والتجارة والاقتصاد والتعاون الأمني والعسكري. توج هذا التحسن في العلاقات إلى تبادل الزيارات على كافة المستويات، منها زيارة رفسنجاني للسعودية، ثم زيارة خاتمي، ثم زيارة وزير الداخلية السعودي الأمير نايف لإيران. واستمر هذا الهدوء في العلاقات حتى عام 2005، ولم يعكّر صفوه إلا أحداث تفجيرات الخبر عام 1996 التي اتهم حزب الله الحجاز بتنفيذها.[18]

الألفية: تعاظم الصراعات

على الرغم من الهدوء الذي أعقب حرب الخليج، إلا أن التواجد العسكري الأمريكي الذي أعقبه في التسعينات، أدى إلى إشعال المنطقة في العقد الأول من الألفية. في الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001 شنّ تنظيم القاعدة هجماته الشهيرة في نيويورك وواشنطن. إلا أن النتيجة التي كانت تتأملها القاعدة من الهجمات لم تتحقق، بل تحقق عكسها: زيادة النفوذ الأمريكي في المنطقة واحتلال بلدين. لن نتحدث هنا عن احتلال أفغانستان، بل سنبدأ بالحديث عن احتلال العراق، حيث مثّلت هذه الحادثة نقطة تحوّل اقليمية رئيسية في ميزان القوى في المنطقة، حيث منه نشأت ثلاث تطورات رئيسية. التطوّر الأول هو أن احتلال العراق دمّر الدولة العراقية، ممل جعلها تتحوّل إقليميا من لاعب رئيسي في الخليج إلى ميدان تتنافس عليه القوى الإقليمية، وأدى بالهوية الوطنية محليّا للتآكل والاضمحلال لصالح تسييس الهويّات الطائفية.

أما التطوّر الثاني فهو أن الاحتلال قاد لوصول الحركات الطائفية الشيعية إلى السلطة في العراق، التي انتهى تنافسها على السلطة بدفع الأمريكان لنوري المالكي إلى الواجهة ليكون الشخص الأقوى في العراق. تبنت هذه السلطة عدة سياسات قادت لإضعاف الحركات العربية السنية: الأولى توظيف سياسة “اجتثاث البعث” من أجل إقصاء الساسة العراقيين والمهددين للسلطة الحاكمة. والثانية، توظيف سياسة “الحرب على الإرهاب” لسجن واعتقال الكثير من الشباب. هذه السياسات سيكون لها أكبر الأثر في نشوب المظاهرات في المحافظات ذات الأغلبية السنية بعد الربيع العربي، ثم تحوّلها للعمل المسلح بعد قمعها، مما مكّن لتنظيم الدولة الإسلامية من ركوب الموجة والسيطرة على مساحات كبيرة من العراق أهمها مدينة الموصل. بالإضافة للسياسات الطائفية لهذه السلطة، فإنها كانت متسامحة مع الميليشيات العراقية الشيعية التي إما كانت موجودة في إيران ثم عادت بعد الاحتلال (كفيلق بدر) أو تشكلت كحركات مقاومة ضد الاحتلال أو منخرطة في الحرب الأهلية ضد الميليشيات السنية عام 2006 (كعصائب أهل الحق، وجيش المهدي). هذه الميليشيات ستلعب دوراً مهماً بعد الربيع العربي في دعم نظام بشار الأسد والقتال في سوريا، كما أنها ستكون النواة التي سيتشكل منها الحشد الشعبي الذي سيقاتل تنظيم الدولة بعد استيلاء الأخير على الموصل. بالإضافة لهذه السياسات المحلية ذات الآثار المهمة، فإن هذه السلطة خضعت بشكل كبير لسيطرة كل من الأمريكيين والإيرانيين. وهذا الخضوع للإيرانيين تحديداً، سيساهم في دمج العراق تدريجياً في التحالف السوري الإيراني بعد الربيع العربي، بعد أن كان المالكي على خلاف مع نظام الأسد بسبب اتهام الأول للأخير بدعم القاعدة.

أما التطوّر الثالث، فهو تشكّل تنظيم الدولة الإسلامية. حيث أن بقايا تنظيم دولة العراق الإسلامية، والذي أسسه أبو مصعب الزرقاوي، سيستغلون الانسحاب الأمريكي من العراق، وتعاظم المعارضة السنية داخل العراق للمالكي، والثورة السورية، ليعيدوا تنظيم أنفسهم مجدداً تحت اسم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، ثم تنظيم الدولة الإسلامية.[19]

إن كان العراق أكبر المتضررين من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فإن إيران هي أكثر المستفيدين منه. فاحتلال أمريكا لأفغانستان والعراق أسقطا نظامي طالبان وصدام المعاديين لها، وسمح لها بأن تمد نفوذها في هذين البلدين. إلا أن النظام الإيراني بعد الحادي عشر من سبتمبر، لم يكن على علم بهذه الغنائم، ولهذا مرّ بمرحلتين: اتسمت المرحلة الأولى بالتعاون والسعي لتحقيق صفقة مع الأمريكيين يقدم خلالها النظام تنازلات مقابل ضمان بقائه، لكنه بعد ذلك، وتحديداً مع تولي أحمدي نجاد للحكم وانكشاف الغنائم التي خلفتها السياسات الأمريكية المتخبطة، تبنت سياسة صدامية استطاعت من خلالها بسط نفوذها على مساحات كبيرة في المنطقة.

لنبدأ بالمرحلة الأولى، حيث تبنى خاتمي سياسة مهادنة للولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تجلت في التعاون معها في احتلالها لأفغانستان، ودفع الميليشيات الشيعية المتحالفة معها هناك للتعاون مع المحتل الأمريكي، كما كانت إيران طرفاً مهماً في محادثات بون التي نشأت منها حكومة حامد كرزاي. وفي تلك المحادثات، بدأت تتشكل قناة للتواصل بين أمريكا وإيران ممثلة بسفيرها في الأمم المتحدة آنذاك جواد ظريف، واستمرت هذه القناة فعالة حتى ما بعد سقوط بغداد. لكن هذه المحادثات توقفت بعد رفض إيران تسليم قيادات القاعدة الموجودين لديها، وخصوصاً بعد أن شاع أن هؤلاء القادة كانوا وراء العمليات التي نفذتها القاعدة في السعودية عام 2003 (كانت إيران تطلب تسليم أمريكا لمجموعة من قيادات مجاهدي خلق مقابل تسليمهم).[20]بعد سقوط أفغانستان والعراق، وتصنيف بوش لإيران ضمن ”محور الشر“، قادت مخاوف إيران من مصير مشابه للعراق وأفغانستان لإرسال رسالة عن طريق السفارة السويسرية في أمريكا تتقدم فيها بمقترح مناقشة شاملة يطرح كل القضايا على الطاولة (الاعتراف باسرائيل، ايقاف الدعم عن حركات المقاومة الفلسطينية، والتعاون في البرنامج النووي)، إلا أن امريكا رفضته ظنا منها أن النظام الإيراني قريب من حافة الانهيار، خصوصا أنها موجودة في أفغانستان والعراق، واستطاعت استغلال اغتيال الحريري للضغط على الجيش السوري للخروج من لبنان، الأمر الذي تم في بداية عام 2005 والذي يعني تقلص النفوذ الإيراني في المنطقة.[21]

مع انتهاء عصر خاتمي، ووصول أحمدي نجاد للسلطة، وانكشاف الفرص الجديدة التي خلفها الاحتلال الأمريكي في العراق، بدأت السياسة الإيرانية تتجه اتجاهاً مختلفاً. تبنى نجاد سياسة صدامية مع أمريكا، شملت تقديم الدعم للحركات المقاومة في العراق، والتنصل عن الالتزامات التي التزم بها خاتمي بخصوص المشروع النووي، وأخيراً دعم الحركات اللبنانية والفلسطينية ضد إسرائيل. ففي عام 2006 عندما شنت اسرائيل حربها ضد لبنان، استطاع حزب الله الصمود أمامها. انتهت الحرب وأصبح حزب الله لاعباً رئيسياً في لبنان، ليقوم بعد ذلك بتوظيف الرصيد الرمزي الذي حصل عليه من أجل تثبيت نفوذه حتى استطاع عام 2008 أن يفرض على الحكومة اللبنانية الحصول على حق الثلث المعطّل، أو حق النقض. أما حماس فتمكنت عام 2006 من الفوز في الانتخابات الفلسطينية، والسيطرة على قطاع غزة – الذي انسحبت منه اسرائيل بعد سنوات من الانتفاضة – بعد احتراب بين حماس وفتح عام 2007. وإذا أضفنا ارتفاع أسعار النفط في تلك الفترة، فإن الأمور تبدو وكأنها تسير لصالح إيران في كل مكان.

هذا الصعود للمحور الإيراني في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين كان النتيجة الغير متوقعة لسياسات جورج بوش المتخبطة في المنطقة، ومن هنا سيتم تسييس موضوع البرنامج النووي ليكون الوسيلة للسيطرة على سلوك إيران. في عام 2002 أذاعت منظمة مجاهدي خلق المعارضة لإيران تفاصيل المشروع الإيراني الذي دافعت عنه إيران بأنه مشروع سلمي، إلا أن سريّته، دفعت ببريطانيا وألمانيا وفرنسا للدخول في مباحثات مع إيران للوصول لصفقة محددة عام 2003. بعد التوصل للاتفاقية، رفض البرلمان الإيراني المصادقة عليها، كما تدخل المرشد الإيراني في رفض الاتفاق. تبنى نجاد بعد انتخابه سياسة صدامية فيما يتعلق بالبرنامج النووي، حيث عادت إيران لتخصيب اليورانيوم في عام 2006. قامت الولايات المتحدة بمحاولة إقناع دول كثيرة حول العالم من أجل فرض نظام عقوبات على إيران. في شهر مارس 2006 طلب مجلس الأمن من إيران التوقف عن تخصيب اليورانيوم، إلا أن رد نجاد كان بأن إيران زادت من أجهزة الطرد المركزية. في نهاية شهر يوليو من نفس العام، تبنى مجلس الأمن قرار 1696 الذي يمهل إيران حتى نهاية شهر أغسطس أو مواجهة العقوبات. وبعد رفض إيران، تبنى مجلس الأمن قرار 1737 الذي يفرض العقوبات الاقتصادية على إيران. وبعد عدة أشهر، صدر قرار جديد يمنع بيع الأسلحة لإيران. لعبت هذه العقوبات، بالإضافة للتوسع الإيراني في المنطقة ولعب دور مهيمن في العراق، دوراً في دفع كل من حكومة نجاد وإدارة بوش في 2007 للدخول في مفاوضات مباشرة حول العراق وفي شرم الشيخ حول الإتفاق النووي. بعد وصول أوباما للحكم، حاول أن يأخذ مساراً أقل صدامية مع إيران، وحل موضوع البرنامج النووي بالمفاوضات، إلا أن المظاهرات الإيرانية بعد الانتخابات والاعتقالات الأمنية التي واجهتها بهم الحكومة، دفعت أوباما لزيادة العقوبات على إيران مرتين في عام 2008 ومرة في عام 2010. في مطلع عام 2013، ونتيجة للعقوبات، وتراجع هيمنة إيران في الهلال الخصيب نتيجة الثورة السورية التي حولت حليفتها القوية سورية إلى ساحة حرب، وأضعفت من هيمنتها على العراق مع ظهور الدولة الإسلامية الذي استغلت أمريكا تهديده من أجل إخراج المالكي وإحلال حيدر العبادي، توصلت أمريكا وإيران لاتفاق بعد محادثات سرية في سلطنة عمان، وهو الإتفاق الذي تم توقيعه بشكل نهائي في عام 2015.

بالنسبة للسعودية، فقد كانت قبل الحادي عشر من سبتمبر رافضة لسياسة التجاهل الذي تبناها جورج بوش عند تسلمه للسلطة تجاه القضية الفلسطينية، وازداد هذا الرفض مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والقمع الصهيوني لها. قبل الهجمات بشهر، في أغسطس 2001، وجّه ولي العهد السعودي عبدالله – الذي تم تفويضه  بتسلم صلاحيات الحكم بسبب اعتلال صحّة الملك فهد – رسالة شديدة اللهجة إلى بوش قال فيها بأن الاختلافات بين بلديهما باتت كبيرة جدا لدرجة أنه ”منذ الآن، أنت لك مصالحك ونحن لنا مصالحنا، وأنت لك طريقك ونحن لدينا طريقنا“[22]. إلا أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر، والحملة الإعلامية الشرسة التي شنتها وسائل الإعلام الأمريكية ضد السعودية، وتغيّر نظرة بوش لدور أمريكا في المنطقة، غيّرت من شكل العلاقة بين البلدين. رغم أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر كانت حدثاً كبيراً في أمريكا، إلا أن ولي العهد السعودي وجورج بوش استطاعا تجاوز هذه الأزمة والحفاظ على العلاقات بين الجانبين. لكن هذا النجاح لم يترجم إلى تعاون كامل بين البلدين في باقي القضايا. فالانتفاضة الفلسطينية كانت تضغط على الرأي العام العربي، والتي كان أحد مظاهرها التظاهرات التي دعا لها الشيخ عبدالحميد آل المبارك على خلفية مذبحة جنين وقادها مهنا الحبيل من الأحساء أمام القنصلية الأمريكية في الظهران. في عام 2002، تقدّمت السعودية بمقترح مبادرة السلام العربيّة التي تبنتها الجامعة العربيّة. وهي المبادرة التي أعادت التأكيد عليها في عام 2007، و وبعد انتخاب حماس لم تقاطعها السعودية كما فعلت الولايات المتحدة، بل سعت للإصلاح بينها وبين فتح.

فيما يتعلق بالعراق، كانت السعودية رافضة لإسقاط النظام. ذلك أن نظام صدام الضعيف والمحاصر والمعادي لإيران كان بالنسبة للسعودية أفضل من نظام جديد موالي لإيران، أو حتى نظام نفطي وديمقراطي يمكن أن يهدد العلاقات الاستراتيجية السعودية-الأمريكية. ترجم هذا الرفض بامتناع السعودية من المشاركة المباشرة في التحالف الأمريكي المحتل للعراق. أما بخصوص استخدام الأمريكيين للقواعد العسكرية السعودية، فالحرب بدأت في تاريخ 20 مارس 2003، وكان الجيش الأمريكي يستخدم قاعدة الأمير سلطان لقيادة عملياته،[23]ولكن بعد شهر تقريباً، في 29 أبريل 2003، أعلن رامسفيلد من الرياض عن نية أمريكا سحب كل جنودها من السعودية، وبالفعل تم سحب الجنود والانتقال إلى قاعدة العديد في قطر.

عندما قررت الولايات المتحدة خوض الحرب، لم يكن لدى السعودية سياسة واضحة لما بعد سقوط صدام، وكانت معتمدة بشكل مباشر على الولايات المتحدة في ضمان أن النظام الذي سيخلف النظام العراقي لن يكون تابعاً لإيران. لكن ابتداء من منتصف عام 2006 – بعد ما اتضح أن الأمريكيين فشلوا في إدارة عراق ما بعد صدام حيث أصبح نوري المالكي عضو حزب الدعوة الموالي لإيران رئيسا للوزراء، واشتعل الإقتتال الطائفي هناك، وظهرت علامات على أن الولايات المتحدة ستسحب جنودها من العراق، وتوسع النفوذ الإيراني لأعلى مستوياته في المنطقة – بدأت السعودية في تبني سياسة مستقلة في العراق لحماية مصالحها. بدأ الأمر من القمّة العربية في عام 2007 حيث أعلن الملك عبدالله أن ”الإحتلال الأجنبي“ للعراق ”غير شرعي“.[24]وساهمت مع الولايات المتحدة في تشجيع العشائر السنية العراقية على تأسيس حركة الصحوات والتي كانت مناوئة للقاعدة ومناوئة لإيران، والتي استطاعت إضعاف وهزيمة القاعدة في العراق. بالتوازي مع هذه السياسة، قدمت السعودية الدعم لإياد علاوي وقائمته العراقية التي بدأت بالتشكل منذ عام 2009 للمشاركة في الانتخابات. وكخطوة استباقية ضد هذه القائمة، قامت هيئة المساءلة والعدالة (المسؤولة عن اجتثاث البعث، والتي يرأسها أحمد الجلبي وعضو حزب الله العراقي علي اللامي) بإصدار قائمة من 500 اسم ممنوعين من الدخول بالانتخابات منهم 72 من العراقية، بالإضافة للعديد من المرشحين الوطنيين والمناوئين للحركات الاسلامية الشيعية. رغم هذه الخطوة، حصدت العراقية أغلبية الأصوات، وبالتالي بات لها الحق دستورياً في أن تشكل الحكومة، لكن نوري المالكي بواسطة المحكمة الدستورية استطاع إعادة تفسير الدستور بطريقة تسمح له بتشكيل كتلة جديدة تتيح له تشكيل الحكومة، ليقوم بعد 2011 باستهداف قيادات القائمة العراقية وملاحقتهم قضائياً وهو الأمر الذي أدى بالمحافظات التي منحت أصواتها للقائمة – بالتجاوب مع الربيع العربي – أن تتظاهر اعتراضاً على هذه السياسات، الأمر الذي قاد نحو المواجهة المسلحة.

لإن حاولت السعودية منذ 2006 تبني سياسات متنوعة لمواجهة التوسع الإيراني، إلا أن العلاقة بين البلدين بقيت هادئة حتى عام 2008، إذ بدأت نبرة السعودية اتجاه إيران تزداد حدّة، خصوصا بعد اقتراب قطر وحركات الإخوان الإسلامية وتركيا من المحور الإيراني-السوري، هذا التقارب الذي برز بشكل قوي عندما شنت اسرائيل أول حروبها ضد الفلسطينيين في غزة، حيث دعت قطر لعقد قمة عربية طارئة، لكن بسبب رفض السعودية ومصر والإمارات والبحرين والأردن واليمن، تحولت لقمّة عربية-إسلامية شاركت فيها إيران بالاضافة لـ17 دولة عربية والفصائل الفلسطينية المسلحة. عكست هذه القمّة حجم نفوذ التحالف الإيراني-السوري-القطري-التركي  بحلفائهم المتعددين وشعبيتهم الكبيرة.

خاتمة: الربيع العربي… الفرصة الضائعة

مثّل الربيع العربي لحظة مهمّة في المنطقة فتحت النافذة أمام كافة الفرق المتصارعة لبداية جديدة، لكن الصراعات المترسخة والمتعاظمة بين جميع الأطراف حولت هذه النافذة إلى أزمة كبيرة. ولأن هذه الورقة أرادت التركيز على جذور الأزمات الحالية، فإننا سنكتفي بذكر نقاط عامة عن ما أضافه الربيع العربي على المنطقة. يمكن القول أن هناك أربعة تأثيرات رئيسية للربيع العربي على المنطقة: الأول، أن الصراع السعودي-الإيراني امتد ليشمل مناطق إضافية بعد تحوّل سوريا وليبيا واليمن إلى مساحات جديدة للصراع. الثاني، أن الربيع العربي مثّل في بدايته تعاظماً للدور القطري-التركي، حيث استطاع حلفاء قطر من الإسلاميين من الوصول إلى السلطة في كل من مصر وليبيا وتونس، إلا أن الإمارات العربية المتحدة انضمت للسعودية في لعب دور مضاد للدور القطري، مما أدى بعكس هذه الانتصارات، وذلك بدعم تغيير الحكم في مصر من مرسي إلى السيسي، وتحويل ليبيا إلى ساحة تنافس. إلا أن هذا الصراع السعودي-القطري أخذ في الهدوء بعد أن تم إضعاف الإخوان المسلمين وتحالف المتصارعين ضد إيران. ثالثاً، مثّل الربيع العربي ضربة قوية ضد المحور الإيراني-السوري. فمن جهة، تحولت سوريا من فاعل إقليمي إلى ساحة تنافس. ومن جهة ثانية، فقد هذا التحالف قسماً كبيراً من شرعيته بسبب الخسائر المتعاظمة في الأرواح في سوريا. بالإضافة لذلك، فقد هذا التحالف عدداً من حلفاؤه الرئيسيين (قطر، تركيا، السودان، حماس). أخيراً، فتح الربيع العربي الباب أمام الحركات الجهادية للإقتراب أكثر من أي وقت مضى لتكوين كيان سياسي والسيطرة على الأرض ولعب دور إقليمي مؤثر في المنطقة، مما دفع بكافة المتصارعين للعمل سوية (وإن لم يكن معاً) ضد هذا التهديد ومحاولة إنهائه.

بعد هذا الاستعراض الطويل لجذور الأزمة التي تعيش فيها المنطقة، أصبح من اللازم على الناشطين والمفكرين وصناع السياسات أن يفكروا جيدا بطريقة لإيجاد سلام عادل ودائم بين دول الخليج العربي. وأن مفاتيح الوصول لمثل هذا السلام مرهون بتخلي الدول الرئيسية في هذه المناطق عن التفكير بمصالح النظام قصيرة المدى على حساب الشعوب والدول والمنطقة، بل التفكير بشكل بناء نحو بناء علاقات تعاونية مدعّمة بإقحام الشعوب بالمشاركة في اتخاد القرار ومؤسسة على شبكة علاقات اقتصادية تجعل من الممكن تحقيق سلام دائم يساهم في حفظ مصالح شعوب المنطقة ورفاههم.[25]كما أن من بين هذه المفاتيح ضرورة تخلي تلك النخب عن التفسيرات النمطية السائدة التي تختزل تعقيد المنطقة وديناميّة تفاعلاتها الذي حاولت هذه الورقة توضيحه بشكل تفصيلي.


[1]Roger J. Stern, “United States cost of military force projection in the Persian Gulf, 1976–2007,” Energy Policy 38, no. 6 (2010): 2816-2825.[2]F. Gregory Gause III, “British and American Policies in the Persian Gulf, 1968–1973,” Review of International Studies 11, no. 4 (1985): 247-273.[3]F. Gregory Gause III, The International  Relations of the Persian Gulf (Cambridge: Cambridge University Press, 2009), 21.[4]George Lenczowski, “The Soviet Union and the Persian Gulf: An Encircling Strategy,” International Journal 37, no. 2 (1982): 307-327.[5]للمزيد عن الخلافات الحدودية بين السعودية وجاراتها، انظر: مشاري النعيم، الحدود السياسية السعودية: البحث عن الاستقرار، (بيروت: دار الساقي، 1999).[6]  المرجع السابق. ايضاً انظر:
F. Gregory Gause III, The International  Relations of the Persian Gulf (Cambridge: Cambridge University Press, 2009).[7]Long, David E. “The Impact of the Iranian Revolution on the Arabian Peninsula and the Gulf States.” The Iranian Revolution: Its Global Impact (1990): 100-15.[8]Shirin Hunter, “Gulf Security: An Iranian Perspective,” in Gulf and International Security: the 1980s and Beyond (London:  Palgrave Macmillan, 1989), 32-68.
وانظر:محمد السعيد إدريس، النظام الإقليمي للخليج العربي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)، 2000.[9]Shahram Chubin and Charles Tripp, Iran-Saudi Arabia Relations and Regional Order (New York: Routledge, 2014).[10]محمد السعيد إدريس، النظام الإقليمي الخليجي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية: 2000.)[11]للمزيد عن ذلك، انظر المصادر التالية:Ahmed Rashid, Taliban: Militant Islam, Oil and Fundamentalism in Central Asia (London: Yale University Press, 2010).
Steve Coll, Ghost Wars: The Secret History of the CIA, Afghanistan and Bin Laden, from the Soviet Invasion to September 10th, 2001 (New York: Penguin Books, 2004).
Thomas Hegghammer,  Jihad in Saudi Arabia: Violence and Pan-Islamism Since 1979 (Cambridge: Cambridge University Press, 2010.)[12]للمزيد من التفاصيل على الآثار التي خلفها الحصار الإقتصادي على الهويات الطائفية والعشائرية في العراق انظر:Falih Abd al-Jabbar and Hosham Dawod, Tribes and Power: Nationalism and Ethnicity in the Middle East (London: Saqi Books, 2002).
Fanar Haddad, Sectarianism in Iraq: Antagonistic Visions of Unity (Oxford: Oxford University Press, 2011)[13]لتفصيل أكثر عن حركة الصحوة وكيف نشأت في الثمانينات ثم تسيست في التسعينات وحملتها الاحتجاجية على الوجود العسكري الأمريكي، انظر:
ستيفن لاكروا، زمن الصحوة: الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية (بيروت: الشبكة العربية للدراسات والنشر، 2012).[14]لتفصيل أكثر حول تشكّل القاعدة وآثار التواجد العسكري الأمريكي في الخليج على خياراتها السياسية، انظر:
توماس هيغهامر، الجهاد في السعودية: قصة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب (بيروت: الشبكة العربية للدراسات والنشر، 2010).[15]Michael Weiss and Hassan Hassan. ISIS: Inside the army of terror(New York: Simon and Schuster, 2015.)[16]Suzanne Maloney, Iran’s Political Economy since the Revolution. Cambridge: Cambridge University Press, 2015.[17]Abir Mordechai, “Saudi Arabia: government, society and the gulf crisis.” (1993).[18]Abdollah Amiri, “Iran’s foreign policy towards Saudi Arabia, 1989-1997.” (2014).[19]لمزيد من المراجع عن تنظيم الدولة الإسلامية:Michael Weiss and Hassan Hassan. ISISالسلام الضائع: الجذور التاريخية للصراعات الإقليمية في الخليج العربي: Inside the Army of Terror (New York: Simon and Schuster, 2015).
William McCants, The ISIS Apocalypse: The History, Strategy, and Doomsday Vision of the Islamic State (London: Macmillan, 2015).محمد أبو رمان وحسن أبو هنية، تنظيم الدولة الإسلامية: الأزمة السنية والصراع على الجهادية العالمية (عمّان: مؤسسة فريدرش إيبرت، 2015).
عبدالباري عطوان، الدولة الإسلامية الجذور التوحش المستقبل (بيروت: دار الساقي. 2015).[20]Michael R. Gordon, “U.S. Conferred With Iran Before Iraq Invasion, Book Says,” The New York Times, 6 March 2016 http://www.nytimes.com/2016/03/07/world/middleeast/us-conferred-with-iran-before-iraq-invasion-book-says.html[21]Glenn Kessler, “In 2003, U.S. Spurned Iran’s Offer of Dialogue,” The Washington Post, 18 June 2006 http://www.washingtonpost.com/wp-dyn/content/article/2006/06/17/AR2006061700727.html[22]F. Gregory Gause III, The International  Relations of the Persian Gulf (Cambridge: Cambridge University Press, 2009).[23]F. Gregory Gause III, The International Relations of the Persian Gulf, 151.[24]”العاهل السعودي: احتلال العراق غير مشروع“، صحيفة الإتحاد، 29 مارس 2007 http://www.alittihad.ae/details.php?id=105791&y=2007&article=full[25]حوالي 5٪ من واردات وصادرات دول الخليج العربي هي من علاقاتها البينية مع دول المنطقة. قرابة النصف هذه التجارة البينية هي بين دبي وإيران.Nader Habibi, “The impact of sanctions on Iran-GCC Economic Relations,” Middle East Brief, Brandeis University, 45 (2010): 1-12.