عن “أشواق الحرية”

سأتحدث اليوم عن الديمقراطية. وحديثي عنها مناسب لأجواء الانتخابات التي تحيط بنا: في الكويت، ولبنان، وايران… وما تقرر عندنا من تأجيل لانتخابات البلدية لعامين إضافيين. حديثي عن الديمقراطية سيتمحور حول كتاب الصديق نواف القديمي: أشواق الحرية، والذي أستطيع اعتباره أحد أهم الكتب التي ألفت هذه السنة… سأكتفي في هذه المقالة بعرض أهم الأفكار التي طرحها، وسأحاول في الأيام القادمة مناقشتها.
جاء الكتاب كامتداد للنقاش الطويل الذي جرى نتيجة للمقالة التي كتبها محمد حامد الأحمري بعيد انتخاب اوباما رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، والذي شارك فيه بندر الشويقي وفؤاد الفرحان وناصر العمر ومنصور الهجلة وآخرين.
بعد مدخل حول مفهومي “السلفية” و”الديمقراطي”، قرر القديمي القضية التالية: أن الشريعة جاءت بتفضيل اختيار الحاكم على تغلبه، وأنه لا شيء فيها يمنع- هذا إن لم يكن يؤكد- مراقبة الحكام. وعلى من لا يتفق مع أفضلية الاختيار وشرعية الرقابة إيراد نصوصه، وطرح ولو رؤية عامة عن البديل الذي يكفل تحقيق العدالة. وفي حال تم الاتفاق على هاتين النقطتين، يقرر الكاتب أن الديمقراطية هي أكثر الوسائل المتاحة لتحقيق هذين المطلبين.
والديمقراطية- كما بين الكاتب- مجموعة وسائل ونظم ليست مبنية بالضرورة على مضمون أيديولوجي أو فلسفي ما. وهي تختلف عن الشورى من حيث كون الأخيرة مبدأ، في حين أن الأولى وسيلة أو طريقة تكفل عبر ركيزتيها الأساسيتين (النظام الانتخابي، وفصل السلطات) تحقيق تلك القيمة التي هي الشورى. وأشار الكاتب إلى الخلاف حول إلزامية الشورى من عدمها، لكنه انتهى إلى أنه مهما كان الموقف من هذا الخلاف فإنه لا أحد من المختلفين يحرم إلزاميتها. واعتبر رفض الديمقراطية انطلاقا من احتمالية أنها قد تأتي بغير الأكفاء ينطوي على إقرار بأن الواحد أكثر قدرة على الاختيار من المجموع. وعلى فرض حدوث ذلك، فعلى الأمة تحمل تبعات اختيارها، كما أن لديها فرصة تعديله متى شاءت، ويمكن أيضا وضع قيود موضوعية في الدستور للحيلولة دون وصول الأميين والجهال. والأولوية عموما لاستقلالية المنتخب التي تمنحها قدرة أكثر من كفاءات وشهادات المعين.
والديمقراطية ليست بلا حدود، إذ لا وجود لحرية مطلقة، بل هي مقيدة بالدستور. والدستور يضعه الشعب، ولهم أن يجعلوه مقيدا بالشريعة الاسلامية. كما أن الشعب هم من يغير الدستور ويعدله، وإن كان ذلك يتم عادة عبر سلسلة من الاجراءات الصعبة. ولو فرضنا اتفاق غالبية الشعب على رفض الشريعة – على الرغم من ان احتمالية حدوث مثل هذا في مجتمع مسلم بعيد جدا- فإن موقف المتمسكين بالشريعة من هذه الدولة كموقفهم من الحاكم المستبد إذا تبنى غير شريعة الإسلام، بل إن مساحة التحرك والقدرة على التغيير السلمي في النظام الديمقراطي أكثر منه في النظام الاستبدادي.
وبعد ذلك أكد الكاتب إلى أن سماح الديمقراطية بحق المعارضة يكفل سلمية تداول السلطة ويمنع استبداد تيار أو حزب بها. والتشريع الوضعي ليس مرتبطا بالضرورة بالديمقراطية، بل يمكن تحديدها بثوابت الشريعة وحصر الاختيار وسن النظم بالمساحة الهائلة التي تخليها الشريعة للمباح، هذه المساحة التي يحق للأمة أن تختار وتراقب من يستغلها لا أن تتنازل عنها لحاكم فرد. والخوض في احتماليات التشريع لما يصادم الشرع مماثل لاحتمالية حدوث ذلك في ظل الحاكم الفرد. أما مطالبات الاقليات فيمكن الحد منها بتضمين الدستور الخطوط الحمر الاساسية التي تمنع تشكل تيار من المضادين للشريعة، والتعامل مع الافراد كما تعامل الرسول مع المنافقين. وإن كانت الديمقراطية لا تضمن وصول أهل الحل والعقد للسلطة، فكذلك حكم الحاكم الفرد لا يضمن وصول هؤلاء… ويبقى أن احتمالية وصولهم عبر الديمقرا‍طية أكثر من وصولهم عبر تعيينات المستبد. كما أن الديمقراطية ليست الليبرالية وليست العلمانية، بل هي حصرا نظام سياسي انتخابي رقابي يعتمد فصل السلطات أساسا له.
والحديث عن الديمقراطية هو في النهاية حديث عن العدالة، التي انتشر ذكرها في كتاب الله، وغاب كثيرا عن خطاب السلفيين. وانتقد الكاتب كيفية تعرض الإسلاميين للديمقراطية خصوصا عندما يسعون لربطها بالعلمانية، أو يستدعون نماذج متطرفة لها، أو يجعلون تحليلاتهم العقلية حول عدم جدواها مرادفا لتقريرهم عدم شرعيتها، أو الهوس بالنموذج الامريكي باعتباره قمة الديمقراطية. وأخيرا عدم طرح بديل.
أما الذين يقفون بوجه الديمقراطية في العالم العربي فهم الممانعون الداخليين لأسباب دينية أو ثقافية والممانعون الليبراليين لعدم قبولهم بنموذج للديمقراطية أقل من “الديمقراطية الليبرلية”، وأخيرا الغرب لأنه يعلم حتمية فوز الاسلاميين، الذي يعني إعاقة كاملة لمصالحه.
ونقد الديمقراطية مباح، لكن المشكلة ان نقاده لا يطرحون بديلا من أجل تحقيق مطالب العدل والشورى، بل ولا حتى أفق بديل. وإن كان نقد الديمقراطية ينطلق من تفضيل الاستبداد عليها ففي الاستبداد الكثير من الاشكاليات. والمطالبة بالديمقراطية لا تعني اعتبارها حلا اوحدا، بل الباب مفتوح لتفحص كل جديد، لكن المرفوض هو توجيه النقد للنظام الديمقراطي، وهو وحده المتاح حاليا، دون طرح بديل، مما يؤدي لخدمة هذا النقد للنظام القائم: أي الاستبداد. والمطالبة بالديمقراطية، ليس انطلاقا من أن مجرد تحقيقها حل لجميع المشاكل وخلاص من كل المآزق، الديمقراطية ليست حلا سحريا، بل هي “أفق للحل”، وسير على الطريق الصحيح. وهذا لا يعني أن الديمقراطية لا تحتوي على مشاكلها الخاصة، ولا يعني أنها قد تواجه بعض المشاكل في بداياتها، لكن ما تحمله من آفاق للحل أكبر بكثير من غيرها. وختم القديمي كتابه بالإشارة إلى أن استشعار أهمية الحديث عن الديمقراطية ينطلق من ادراك لعمق المشكلة، ووعي بأزمتها.

اترك تعليقاً