كان قرار نقل كافة الوزارات إلى مدينة الرياض عام 1958، بداية عهد المركزية في إدارة الدولة. فقبل ذلك، كانت الدولة منذ التأسيس وحتى هذا التاريخ، لا مركزية في إدارتها. فكانت المجالس الأهلية والبلدية المنتخبة المنتشرة في الحجاز، وكان نظام “الأمراء والمجالس الإدارية”، الصادر عام 1939 تأكيدا لهذه اللامركزية، فهو يعطي للأمير المعين والمجلس الإداري المنتخب صلاحيات واسعة في منطقته. وكان فقر البلاد، وعدم وجود اتصالات ومواصلات، وعدم وجود حكومة مركزية… عوامل تقف خلف هذه السياسة اللامركزية، التي تترك أمر إدارة المنطقة لأمير يتم تعيينه من قبل الملك ومجلس ينتخب من قبل أهالي المنطقة. وكانت الوحدات الإدارية قبل 1958 متباينة في كل منطقة، فمجالس الحجاز ووحداته الإدارية تختلف عن الاحساء ونجد وعسير… مما يعني أن الملك لم يسع إلى التدخل في طرق إدارة الناس لبلادهم ولم يهتم بتوحيد أساليب هذه الإدارة.
لكن ما إن انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1948، وبدأت ترتفع مداخل النفط، حتى شرع الملك عبدالعزيز بتأسيس مجلس للوزراء واستحداث عدد من الوزارات والإدارات الحكومية، كانت كفيلة بالتحول إلى المركزية في إدارة الدولة مع نقل الوزارات إلى الرياض عام 1958 بأمر من الملك سعود. يمكن ملاحظة ارتباط المركزية بمدى الاعتماد على النفط… فبعد الاضطرابات التي مرت بالدولة في الفترة من 1960-1964، نجد أن نظاما أصدر لإعادة اللامركزية في الإدارة المحلية، وهو “نظام المقاطعات”، الذي يقسم البلاد إلى مقاطعات يتولى كل مقاطعة أمير ومجلس منتخب. لكن هذا النظام لم يطبق ولم تصدر لائحته التنفيذية، وظلت البلاد محكومة مركزيا من قبل مجلس الوزراء والخطط التنموية التي دُشنت في عام 1970م، وبدأت تتوالى.
قادت المركزية والانفراد بالسلطة إلى التنمية غير المتوازنة لمناطق المملكة، فنالت بعض المناطق من المشاريع والثروة أكثر مما نالته أخرى، مما أدى إلى هجرة أبناء المناطق المهمشة للمناطق الأخرى، التي تزايد أعداد سكانها بأعداد هائلة. كما أدت المركزية إلى تنفيذ المشاريع التنموية وترتيب أولوياتها في المنطقة دون الالتفات لمطالب الناس ورغباتهم… والاكتفاء بالجوانب الفنية والإدارية والمالية للمشروع دون الاهتمام بالآثار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على الناس. ونستطيع أن نجد انعكاسات هذه الآثار على ما حدث في جدة، فمشاريع الصرف الصحي لم تستطع مواكبة الهجرة المتزايدة إلى جدة نتيجة تركيز التنمية فيها، كما أدت الكثافة السكانية إلى إسكان الناس في بطون الأودية. كما أعاقت المركزية في اتخاذ القرار توفير المخصصات المالية اللازمة لإنشاء المشاريع التي تحتاجها المنطقة لحل مشاكلها، وظلت كل الحلول المقترحة تحت رحمة وزارة المالية التي تتركز فيها كل أموال الدولة.
إن التخطيط المركزي الخمسي الذي تبنته الدولة، قد أثبت فشله… وذلك للأسباب التالية: أولا، فهذا النوع من التخطيط لا يلتفت للمطالب الحقيقية لأهالي المناطق، وإنما يبني خطته على متطلبات منمطة يفترضها المركز. وثانيا، أن الدولة تعتمد في مشاريعها وإنفاقها على واردات النفط… مما يعني أن سعر النفط هو المتحكم الرئيسي في مشاريع التنمية لا الخطة الخمسية، وبدا هذا واضحا منذ الخطة الأولى التي أعدت عندما كانت البلاد في أوضاع سيئة بعد حرب 67 وانخفاض إنتاج النفط… فكانت تقشفية متحفظة، لكن الذي وقع فعلا في الفترة 1970-1975م، أنها كانت فترة تنموية هائلة، وذلك بسبب ارتفاع أسعار النفط عام 1973م. وكانت الخطة الأولى قد وعدت بإنهاء الاعتماد على النفط كمصدر أساس للثروة خلال عشر سنوات أو أكثر قليلا، وها نحن قد أكملنا 40 سنة وما زال النفط المتحكم الرئيس في اقتصادنا. ثالثا، إن التخطيط المركزي يجعل الدولة هي الأداة التنموية الرئيسة، مما يعني تضخم الدولة ومزاحمتها للقطاع الخاص، والحد من دوره، وعدم إعطائه الفرصة لتكوين لتشكل قطاع خاص منتج ومسؤول وقوي قادر على تحمل مسؤولياته وواجباته. رابعا، يتولد عن تضخم الدولة كل مشاكل وعيوب البيروقراطية من بطء إجراء المعاملات وتنفيذ المشاريع، وتحول أجهزة الدولة إلى بيئة خصبة للفساد الذي شرحناه سابقا.
إن المركزية في الإدارة قد تكون نافعة في البلدان ذات المساحة الجغرافية البسيطة، لكنها تتحول إلى أزمة إدارية في المساحات الهائلة، لأنه مهما كانت الثروات التي تملكها الدولة ومهما كانت الكفاءات التي تدير البلاد، فلن يمكن إدارة بلد كبير بحجم المملكة ـ تعادل مساحته ثلث أمريكا وثلثي أوروبا ـ مركزيا، إدارة توازن بين المناطق وتستجيب لمتطلبات الناس وحاجاتهم الحقيقية.
وتزداد المركزية سوءا وتأزما، عندما يكون الإعلام مكبلا، ولا يكون هناك أي مشاركة في اتخاذ القرار ولا مراقبة من قبل أصحاب الشأن. غياب المراقبة والمحاسبة والإعلام المفتوح والحر، يزيد من تهيئة البيئة المناسبة لانتشار الفساد وتضخمه، بالشكل الذي يجعل تكرار ما حدث لجدة أمرا واردا وغير مستغرب، إن لم تتم معالجة المسألة من جذورها.
امتدت سنوات المركزية منذ تأسيس مجلس الوزراء حتى 1992، عام إصدار نظام المناطق. نص هذا النظام على تقسيم البلاد إلى 13 منطقة، وجعل لكل منطقة أمير ومجلس منطقة معين. كان هذا النظام مترافق مع صدور النظام الأساس للحكم، ونظام مجلس الشورى. تعتبر هذه القوانين من حيث الشكل خطوة نحو اللامركزية والمشاركة في اتخاذ القرار بعد عقود من انفراد مجلس الوزراء بإدارة البلاد، لكنها عمليا لم تنجز شيئا. فما زالت الوزارات تقوم بأعمالها في جميع المناطق دون الالتفات لأمراء هذه المناطق ومجالسها. وما زال مجلس الوزراء يسن قوانينه وينفذها، دون أن يلتفت لمجلس الشورى، الذي تحولت عضويته إلى خاتمة تشريفية ونهاية حياة لعتاة البيروقراطية السعودية.
وما زالت البلديات والأمانات مرتبطة بوزارة الشؤون البلدية والقروية، التي حاولت الاستفادة من بيوت الخبرة العالمية، وطلبت مشورة مؤسسة ماكنزي، التي نصحتها بالاتجاه نحو اللامركزية في الإدارة، وذلك عبر إيجاد ست إدارات مختلفة في أرجاء المملكة. وهذا ما حدث فعلا، فقد تم إنشاء 6 مديريات للشؤون البلدية والقروية، لكنها لم تعط من الصلاحيات ما يحقق معنى اللامركزية، وظلت مرهونة في ميزانيتها ومشاريعها لما تمليه عليها الوزارة.
فحسب نظام المناطق، يقوم مجلس المنطقة الذي يرأسه الأمير وتتشكل عضويته من مدراء الإدارات الحكومية ومجموعة منتقاة من الأهالي، بترتيب احتياجات المنطقة ورفعها إلى الوزارات. لكن المشكلة تنبع من أنه لا يوجد في النظام ما يلزم الوزارات بالاستماع إلى مجالس المناطق.
أخيرا، وفي عهد الملك عبدالله، جرى اعتراف بالتقصير في حق المناطق الجنوبية، وتم فعلا اعتماد سياسة التوازن المناطقي في الخطة الثامنة، وتم إنشاء جامعات ومدن صناعية في مختلف مناطق المملكة، ولكن ما زالت المشاريع وتنفيذها وتمويلها رهن للوزارات المركزية في الرياض. وللتخلص من هذا الوضع، لا بد من إجراء تعديلات أساسية وجوهرية على نظام مجلس الشورى ونظام المناطق، بما يحقق إصلاحا حقيقيا في البلاد ومدخلا إلى حل المشاكل وهذا ما نتعرض له في الفقرة القادمة.
مقال رائع جدا أحب أشكرك عليه وبالصراحة لفت نظري إلى هذه النقطة الجوهرية فيما يخص تنمية البلد