هناك محاججة تتكرر بشكل مستمر بين الشوفينيين السعوديين تقول بأن طرد العمالة اللبنانية والسورية والفلسطينية والأردنية الوافدة (وإن كان أكثر التشديد هذه الأيام هو على اللبنانيين كما في هذه المقالة لأحمد العرفج) ستساهم في حلّ مشكلة البطالة. أغلب من يتحمس لهذا الطرح، يتحمس له بطريقة انفعالية، بحيث يجعل مشاعره وغضبه يسيطران على طريقة تفكيره، ولهذا غالبا يصبح الحوار مع هؤلاء صعبا. لهذا أنا أدعو هنا من يتبنى هذا الطرح لحوار هادئ، للتفكير بعيدا عن الطرح الانفعالي والمتشنج، أو الطرح الشعبوي الرخيص، والسعي لأن نحل مشاكلنا بشكل مسؤول نعكس فيه احترامنا لأنفسنا ولغيرنا. سأقدّم في هذه المقالة ثلاثة حجج ضد محاججة (اللبنانيين هم سبب البطالة)، تكشف سطحية وهشاشة وظلم مثل هذا الكلام.
أولا، المحسوبية مشكلة بنيوية، وليست مشكلة لبنانية
لنفرض أن كل التهم التي يسوقها الشوفينيون ضد العمالة اللبنانية صحيحة. لنفرض أنه صحيح أن اللبنانيين ينتفعون بغير وجه حق، وأنهم يحقدون على السعوديين، وأنهم يشكلون لوبيّات خاصة تتآمر ضد حصول السعودي على العمل، …إلخ هذه التهم. هذه التهم كلها يمكن تلخيصها بعبارة واحدة: أن اللبنانيين يقدمون المحسوبية على الكفاءة والجدارة، وأنهم ينالون ما لا يستحقون. السؤال: هل لو طردنا كلّ اللبنانيين، ووضعنا مكانهم هنودا أو فلبينيين، ألن يقوموا بنفس الدور؟
لو أجاب الشوفيني بنعم، فلماذا يهاجم اللبنانيين وحدهم؟ لماذا لا يهاجم المحسوبية نفسها وأسبابها؟ وإن أجاب بلا- وهذا هو المفترض إن كان متسقا مع نفسه- فهذا يعني أنه يعتقد أن الفلبيني إذا تسلّم منصبا عاليا لن يسعى لنفع الفلبيني، وأن الفلبيني لن يحاول منع السعودي من الوصول إلى مراتب عليا، بل أنه سيسعى بشكل صادق وأمين للسماح للسعودي بأن يأخذ مكانه، وأن الفلبيني سيقوم بكل ما يستطيعه من أجل تعليم السعودي ونقل كامل خبرته إليه لدرجة أنه لا يصبح هناك أي حاجة له. إن كان الشوفيني يعتقد بهذا كله، فهو بلا شك أحمق، وبالتالي لا معنى من النقاش معه.
إذن لا يبقى إلا أن يجيب بـ(نعم، لو وضعنا مكان اللبنانيين أناسا من أي جنسية، فسيقومون بنفس الدور). وبمصطلحاتنا نحن دارسي العلوم الإجتماعية، نقول أن المشكلة (بنيوية) وليست (هوياتية). أي أن بنية القطاع الخاص السعودي القانونية والتاريخية تعطي كل جماعة تسيطر على وظائف عليا في شركة ما أو قطاع ما القدرة والإستطاعة للاستمرار والاستحواذ عليها لفترة من الزمن، بغض النظر عن جنسيتها. وبالتالي من يريد محاربة هذه المشكلة، فعليه محاربة هذه البنية نفسها وليس هذه الجنسية أو تلك. وأن من يترك البنية نفسها ويذهب لمحاربة هذه الجنسية أو تلك (كما يفعل الشوفينيون) فهو يساهم في استمرار المشكلة وليس في حلها.
بل نستطيع أن نمضي بهذه الحجة لمنتهاها ونقول: حتى لو قررنا طرد كل الأجانب من السعودية، فإن هذه المشكلة لن تذهب. إذ سيأتي القصمان (أو أبناء منطقة أخرى، أو أبناء هذه القبيلة أو تلك، أو السنة أو الشيعة، أو الرجال أو النساء…إلخ) ليسيطروا على هذا القطاع أو ذاك ويمنعون غيرهم من الوصول إليه ويمارسون نفس السلوك الذي يمارسه . وهذه المشكلة لها حلول كثيرة، أهمها سنّ قوانين تصعّب المحسوبيات، وتسمح للعمال بحق التجمّع وتكوين لجان ومنظمات ونقابات تسمح لهم بتداول المعرفة وحماية حقوقهم والدفاع عن مصالحهم بشكل جماعي. هناك حلول كثيرة، لكن ما يقدمه الشوفينيون ليس حلا للمشكلة، بل استغلال لها من أجل بث كراهيتهم وأحقادهم وعداوتهم ضد هذه الجنسية أو تلك.
ثانيا، العامل الأجنبي ليس هو سبببطالة السعودي، بل السبب هو الشركات والتجار والقوانين المؤسسات الحكومية التي تنظّم القطاع الخاص.
لنلق نظرة على سوق العمل السعودية. فحسب تصريح وزير العمل السعودي، فإن معدل البطالة هو ١١.٥٪، وأن عدد العمالة الأجنبية الوافدة تقدر بتسعة ملايين عامل. ماذا تعني هذه الأرقام؟ إنها لا تعني أن السوق السعودي خالي من الفرص الوظيفية، بل تعني أن التجار والشركات السعودية في سوق العمل لايفضّلونتوظيف السعوديين. أي أن بطالة السعوديين ليست بسبب عدم توفر الفرص، بل بسبب رغبة الشركات والتجار السعوديين في القطاع الخاص توظيف الأجانب. فمن يختار التوظيف هو الشركة والتاجر السعودي وليس الأجنبي، ومن يسمح باستقدام الأجنبي ومنحه تأشيرة هي القوانين والأجهزة الحكومية وليس الأجنبي. تخيّل أبا يعطي أمواله أبناء الجيران ولا يعطيها لأبناءه. من يلام هنا؟ أبناء الجيران أم الأب؟ أي شخص عاقل سيقول الأب، إلا الشوفينيين السعوديين فهم سيقولون أن الملام هم أبناء الجيران!
لكن لماذا يفضّل التاجر السعودي توظيف الأجنبي على السعودي؟ هناك تبريران يرددهما التجار: التبرير الأول يتهّم ثقافة المجتمع السعودي بأنها ثقافة تعتبر العمل عيبا، ولهذا السبب يضطر التاجر للبحث عن عمال من الخارج. أما التبرير الثاني فيتهّم كفاءة العامل السعودي وكلفته، حيث يقول هذا التبرير أن السعودي أكثر كلفة من غيره وأقل كفاءة، وأن توظيفه يعني تكلفة إضافية على الإستثمار وإنتاجية أقل.
إلا أن أيّا من هذه التبريرات لا تعكس السبب الرئيسي الذي يدفع التاجر لتفضيل غير السعودي، وهذا السبب يتمثّل في أن النظام القانوني والبنية الهيكلية للسوق تتيح له التحكم بالعامل الأجنبي أكثر من السعودي. فحسب تقرير لجمعية حقوق الإنسان الوطنية، نجد أن ربّ العمل يستطيع تأخير دفع رواتب عامله، والتحكم في سفره، وتكليفه بأعمال غير المتعاقد عليها أو بعدد ساعات عمل إضافية بلا ضرورة، بل والتحكم بجوانب حياته الشخصية من زواج وزيارة أقارب وما إلى ذلك. فبالنسبة للشركة التي لا تهدف إلا لزيادة أرباحها، فإنه كلما قلّت الحماية والقوّة القانونية للعامل، كلما كان مغريا أكثر حتى لو كان راتبه أعلى. لتوضيح هذه النقطة الأخيرة، تخيّل أنك صاحب شركة وتقدم للعمل لديك موظفان: الأول سعودي وراتبه ٥ آلاف، والثاني أجنبي وراتبه ٨ آلاف. الثاني تستطيع أن تضمن أنه سيعمل لديك سنتين، وتستطيع تكليفه بأعمال خارج العقد، وتستطيع التحكم بحركته وسفره وتؤخر صرف رواتبه، في حين أن الأول لا تستطيع التحكم به ولا تستطيع أن تضمن عدم انتقاله لوظيفة أخرى أفضل بعد أشهر قليلة. من ستختار؟ غالبا إذا كنت تهتم بالربح ولا شيء غيره، فإنك ستختار الخيار الثاني. فكيف الحال وإذا بهذا الخيار الثاني أقل تكلفة أيضا؟
ماذا يعني هذا الكلام؟ إنه يعني أن البنية القانونية الهيكلية للقطاع الخاص تجعل الأجنبي (سواء جاء من لبنان أو من الهند) مفضّلا لدى ربّ العمل السعودي. ولهذا، فإنه حتى لو طردنا كل السوريين واللبنانيين والفلسطينيين والأردنيين من سوق العمل السعودي، فإن الشركات السعودية ستأتي بفلبينيين وهنود وباكستانيين وغيرهم من الجنسيات. وذلك لأن سبب تفضيل استقدام الاجنبي مرتبط بمشاكل داخل السوق نفسه (ما يسمى بنظام الكفيل)، وليس بجنسية الأجنبي. وبالتالي فإن استهداف جنسية بعينها (عربيّة أو غير عربيّة) وتحميلها مسؤولية بطالة السعوديين هو عنصرية، وفيه تبرئة للشركات التي تستقدم والأجهزة الحكومية التي تمنح التأشيرات وتسن القوانين الظالمة للأجنبي والتي تجعل من رب العمل يفضله على السعودي.
أخيرا، الخطاب الشوفيني يساهم في إدامة البطالة، وليس إلى حلها.
لأنه ببساطة يصرف الانتباه عن الأسباب المباشرة. إن الشوفينية هي (أفيون) العاطلين. تصنع لهم كبش فداء اسمه اللبنانيين (أو أي جنسية أخرى، عربية أو غير عربية)، ويطلب منهم تفريغ غضبهم وحقدهم عليه، دون أن يغيّر هذا شيئا من واقعهم. في كل حالة ظلم في التاريخ نجد نوعين من الخطابات ينتشران من أجل منع المظلوم عن أخذه بحقه. النوع الأول هو بإقناعه أنه هو سبب الحالة التي فيها، مثل التاجر الذي يقول أنت عاطل لأن ثقافتك تمنعك من أن تكون عاملا مناسبا، أو مثل المتصهين الذي يقول للفلسطيني أنت تعيش تحت الإحتلال لأنك بعت أرضك. أما النوع الثاني هو بتأكيد مظلوميته، وإيهامه بالدفاع عنه، لكن ليس ضد عدوه الحقيقي، بل ضد عدو مخترع لا علاقة له بظلمه، فيتحول المظلوم إلى ظالم، بدل أن يكون محاربا للظلم. والشوفيني يقوم بهذا الدور، يقول للعاطل: نعم، أنت مظلوم، وسبب حرمانك من الوظيفة هو هذا الأجنبي، فيبدأ بتغذية كراهيته ضده رغم أنه لا وجود لعلاقة سببية بينهما، تماما مثل عندما تقصف اسرائيل غزة، فيأتي المتصهين يبكي دموع التماسيح على الشعب الفلسطيني، ثم يهاجم المقاومة باعتبارها هي السبب الذي جعل اسرائيل تقصفهم.
هناك من يهوّن من البعد الأخلاقي للمسألة، ويعتبره (مثاليات)، لكن ما الفرق بين الحيوان والإنسان إذا لم يكن أن الإنسان هو من يضبط سلوكه بمعايير الحق والباطل، والعدل والظلم؟ إن كان الهدف من حياتنا هو أن نأكل ونشرب ونستمتع، فهذا يعني أن لا شيء يميزنا عن القردة والخنازير والكلاب. إن ما يميز الإنسان هو أنه لا يعيش من أجل حاجاته، بل من أجل حياة فاضلة، حياة فيها شرف وكرامة، وهذا يعني أن لا يُظلَم، ولكن في نفس الوقت لا يظلِم.