غير مصنف

البحث العلمي و«خرافات» التدخل الخارجي!

تقوم الدراسات الأكاديمية في معظم الأحيان بتفكيك الخرافات التي يصنعها الإعلام، إلا أن هذا «التفكيك الأكاديمي»، للأسف الشديد، يظل غالباً محصوراً في العالم الأكاديمي وغائباً فيه، فتستمر الخرافة حيّة فقط، لأن هراطقتها مسجونون في برجهم العاجي. هذه الفجوة بين «هرطقة» العالم الأكاديمي و«خرافات» الإعلام تكشف عن نفسها كأفضل ما يكون في المواضيع التي تمس مصالح القوى العظمى المهيمنة على هذا العالم.
ولعل أكثر الأمثلة توضيحاً لمثل هذه الفجوة هو موضوع التدخل العسكري لطرف ثالث في حرب أهلية، فالخرافة التي يروجها الإعلام تقول: إن «التدخل العسكري» هو «حلٌّ»، بعض الأحيان تتم تسميته بـ«حلّ إنساني» لهذه الأزمات المسلحة.
في مدونة «مونكي كيج» التي تديرها مجموعة من أساتذة العلوم السياسية، قام الأستاذ في جامعة دينفر إيريكا شينويث باستعراض مجموعة من الدراسات الأكاديمية حول هذا الموضوع، حاولت هذه الدراسات الإجابة عن ثلاث أسئلة، تدور حول موضوع التدخل العسكري. السؤال الأول: هل يُسرّع التدخل العسكري من إنهاء الحروب الأهلية؟ أما السؤال الثاني، فهو: هل يقلل التدخل العسكري من قتل المدنيين؟ وآخر الأسئلة، هو: كيف يؤثر التدخل العسكري في ممارسات حقوق الإنسان؟ سنقوم هنا باستعراض سريع لأهم نتائج هذه الدراسات.
بالنسبة إلى السؤال الأول، أي هل يُسرّع التدخل العسكري من إنهاء الحروب الأهلية؟ فهناك دراستان، الدراسة الأولى نشرت عام ٢٠٠٠ لكل من آندرو إنترلاين وديلان بالخ – ليندساي، إذ قاما فيها باستقراء ١٥٢ حرباً أهلية من عام ١٨٢٠ إلى ١٩٩٢. في هذه الدراسة توصل الباحثان إلى نتيجة مفادها أن دخول طرف ثالث لمصلحة أي من الطرفين المتصارعين يؤدي إلى إطالة أمد الحرب وتأخير إنهائها. إضافة إلى هذه الدراسة قام باتريك ريغان بنشر دراسة، تعتبر أشد متانة في هذا المجال، عام ٢٠٠٢ بعنوان: «تدخلات الأطراف الخارجية ومدة الصراعات الأهلية»، قام فيها باستقراء ١٥٠ صراعاً أهلياً من عام ١٩٤٥ إلى ١٩٩٩، فتوصل إلى نتيجة مفادها أن التدخل الخارجي مهما كان شكله لا يؤدي في النهاية إلى تقصير أمد الحرب بل على العكس من ذلك، أي إلى إطالتها.
أما بالنسبة إلى السؤال الثاني، أي هل يقلل التدخل العسكري من أعداد القتلى المدنيين؟ فإن دراسة أجريت عام ٢٠١٢، قام بها كل من ريد وود وجيسون كاثمان وستيفن جينت، قامت باستقراء مجموعة من الصراعات الأهلية بين عامي ١٩٨٩ و٢٠٠٥، وتوصلت إلى نتيجة مفادها أنه كلما ضعف أحد أطراف الصراع نتيجة دعم طرف خارجي للآخر، فإنه ينزع لاستخدام أساليب أكثر دموية وقتل أكثر للمدنيين.
في هذه الدراسة ذكر الباحثون أن التدخل الخارجي الذي يقوم بدعم معارضة حكومية ضد القوى الرسمية يدفع القوى الرسمية إلى زيادة قتل المدنيين بنسبة ٤٠ في المئة.
بالنسبة إلى السؤال الأخير، أي كيف يؤثر التدخل العسكري في ممارسات حقوق الإنسان في منطقة النزاع؟ فإن دورسون بيكسين في دراسته المنشورة عام ٢٠١٢ يؤكد أن التدخل العسكري، بغض النظر عن النظام السياسي للدولة أو الدول المتدخلة، يؤدي إلى زيادة في انتهاكات حقوق الإنسان، أي زيادة في القتل والتعذيب والاختفاء والاعتقال السياسي، وما إلى ذلك من الظواهر.
أي أن هذه الدراسات تقوم بهدم ثلاث خرافات أساسية محيطة بالتدخل الخارجي، والتي تعتبر عادة المبررات الجوهرية لتبريره في كل مرة. أي أن التدخل الخارجي، أولاً، لا يقلل من أمد الحرب، ولا يسارع في إنهائها. وأنه، ثانياً، لا يؤدي إلى التقليص من قتل المدنيين. وهو، أخيراً، يعمل كمحفز للأطراف المتقاتلة كافة للزيادة في انتهاكات حقوق الإنسان.
وعلى رغم تفكيك هذه الخرافات المستقر في العالم الأكاديمي، إلا أن الخرافات لا تتلاشى، وما زال المدافعون عنها يدافعون بشراسة، وهذا في جزء منه يعود إلى خشية الإنسان من انهيار الآمال الوهمية التي يعلق نفسه بها، إلا أن السبب الرئيس في استمرار مثل هذه الخرافات هو أنها ببساطة مفيدة، أي أنها تعمل كغطاء جذاب تستطيع من خلاله القوى الكبرى تمرير سياسات هيمنة وسيطرة على المنطقة عبر رفع مثل هذه اليافطات البراقة، فتستمر بالبقاء نتيجة وجود صناعة إعلامية كاملة، تكرس وجودها وتعطيها قوّة الحقيقة الواقعية.
وفي هذه الأيام الراهنة، نرى بوضوح كيف أن الولايات المتحدة الأميركية تدفع باتجاه نوع من التدخل العسكري في سورية من دون موافقة مجلس الأمن، ومن دون انتظار لنتائج التحقيق، بل بغض النظر عن نتائج التحقيق كما صرح بذلك وزير الخارجية الأميركية وأكده الرئيس الأميركي، في مشهد لا يعيد إلى الأذهان سوى سلسلة الأكاذيب التي تركب بعضها فوق بعض، ليتم عبرها تسويق احتلال وتدمير الدولة المجاورة لسورية: العراق.
رفض التدخل الخارجي لا يعني بالضرورة الاصطفاف إلى جانب نظام الأسد، ولا يعني تبرئة له بل يعني عدم تجريب المجرب، ولا الاستجارة من الرمضاء بالنار. وهو يعني من جهة أخرى، أن تقوم الدول العربية بتحمل مسؤوليتها تجاه ما يحدث هناك، والتحرك في شكل مسؤول باتجاه الدفع نحو حلّ يحمي وحدة الدولة السورية، ويكفل لشعبها الحرية والرفاهية التي قدمت لأجلهما العديد من التضحيات.

الكلفة الحقيقية للتدخل الانساني: الحقيقة المريرة لفكرة نبيلة/ ترجمة مروان الرشيد

الكلفة الحقيقية للتدخل الانساني
الحقيقة المريرة لفكرة نبيلة
 بقلم بنجامين ڤالنتينو
حين كانت القوى المناهضة للقائد الليبي معمر القذافي تحكم سيطرتها على طرابلس في الأيام الأخيرة من أغسطس ٢٠١١، بدأ الكثير من الخبراء بالتحدث عن نصر، ليس فقط للمتمردين، بل وأيضا للتدخل الانساني. دعاة التدخل في ليبيا يجادلون أن رئيس الولايات المتحدة باراك أوباما وجد الصيغة الموفقة للتدخل: دعم إقليمي ودولي واسع، وتوزيع حقيقي للعبء مع الحلفاء، وقوات محلية مؤهلة تشن الحرب على الأرض. بل ذهب البعض إلى التبشير بأن هذا التدخل مُؤشر على بزوغ “مبدأ أوباما”.
جلي أنه من المبكر التحدث عن انتصار كهذا بالنظر إلى أن الكلفة النهائية للتدخل الليبي لم يتم حسابها بعد. فما تزال البلاد على شفير حرب أهلية، والحكومة الجديدة قد لا تكون أحسن حالا من سابقتها. وفي الوقت الجاري، تظهر بوادر مُقلقة لاقتتال في صفوف المتمردين، إضافة لأنباء ذات مصداقية عن انتهاكات لحقوق الإنسان تقوم بها قوات من المتمردين. Continue reading

تهافت حجج دعم “التدخل الخارجي”

من يدعمون التدخل الخارجي أحد اثنين:

١- طرف يدعمه من منطلق “إنساني”، أي يقول “أنا أريد إيقاف حمام الدم هذا بأي ثمن، ولو كان بتدخل خارجي”، “كل ما يهمني ردع هذا المجرم بشار من القتل اليومي”.

١- طرف يدعمه من منطلق سياسي. أي يقول أن التدخل الخارجي هو عبارة عن “تلاقي مصالح”. ويقول “قد يتسبب التدخل الخارجي بسقوط قتلى ومدنيين وضحايا، ولكن هذا ثمن تحقيق الهدف السياسي”.

سأقوم الآن بتقديم ثلاث حجج:

أولا، من يبيح قتل المدنيين لتحقيق أهداف سياسية هو مثل بشار الأسد.

فبشار الأسد لم يستيقظ من النوم فجأة وقرر تقتيل الناس، بل مارس القتل واستهدف قرى ومدن وبلدات ثارت عليه، فاستباح قتل مدنييهم لتحقيق هدف سياسي وهو “إخماد الثورة وبسط سيطرته على البلاد”. والتدخل الإيراني والروسي في سوريا كان من منطلق سياسي غير آبه بأعداد المدنيين الذين يقتلون من أجل تحقيق الهدف السياسي “حماية النظام السوري من السقوط”.

الآن، كيف يختلف- من ناحية أخلاقية- من يدعم التدخل الخارجي لهدف سياسي “إسقاط النظام”؟ Continue reading

مغالطات حول القومية العربية..مقالة حميد الدين أنموذجاً/ بقلم محمد الصادق

يلاحظ كثيرون بأن الفكر القومي عاد من جديد ليفرض نفسه على النقاش العام في العالم العربي، وقد انقسم حولهُ الناس بين مؤيد ومعارض، وبين من لازال في طور التأمل فيه. يُبشر بعضهم بانتهاء القومية كنموذج، في حين أن الواقع الحالي يشير لحدوث العكس تماماً، فنحن في حالة انفجار كبير للهويات التي تسعى بشكل حثيث لحصولها على اعتراف العالم كأمم قومية وإيجاد كيان سياسي يحقق مصالحها.
نستطيع الجزم بأن الاهتمام بالقومية في تعاظم على مستوى العالم، وهو نقاش هوياتي بامتياز، نابع من سؤال من (نحن)؟، وما هي الأمة؟، وكيف تتشكل الأمم؟. القومية من الظواهر المثيرة، بل هي من أهم ظواهر العصر الحديث الاجتماعية والسياسية بحسب المفكر الليبرالي بشعياهو برلين، وهي شكلت مادة مهمة للبحث والدراسة خصوصاً في العقدين المنصرمين، وقد يكون العالم العربي أقلها نقاشاً واهتماماً بها نتيجة للصراعات المذهبية و للظروف الحالية التي تمر بها الأمة العربية و المتمثلة في فشل السلطات الحالية الذريع في حكم وإدارة الدولة الوطنية (القُطرية).
إذاً الظاهرة القومية في حالة انبعاث وليست إلى إنتهاء كما أشار الأستاذ عبدالله حميد الدين في مقاله المنشور بعنوان ” خواطر في تفكيك بعض فرضيات القومية العربية” والذي نحن بصدد مناقشته في هذه المقالة، بل إن كثيراً من الدراسات اليوم تربط بين القومية والتنمية في تجاوز تام لمجرد ربطها بموضوعين ساهما في ظهورها الأول: الوحدة والتماسك الاجتماعي، ومقاومة الاستعمار. في البداية وقبل الحديث عن القومية ووظيفتها لابد من التأكيد على وظيفة الدولة: فالدولة في تجليها الأمثل هي إطار تنظيمي ينظم علاقة الجماعات المحلية ويضمن مصالحها داخل حدودها وكذلك العلاقة بين الجماعة الوطنية و الجماعات الآخرى المجاورة لها. لذا فإن السؤال الذي يمكن أن يُربط بموضوع القومية هو من هي هذه الجماعة القومية؟ هل هي الجماعة العرقية أم الجماعة اللغوية أم الإثنية أم العنصرية، ومن ثم دراسة الرابطة الأمثل لتمثيل مصالحها ومستقبلها. وذلك لأن تحديد من هي الجماعة هو من يعطي للحدود الجغرافية معنى، وهو كذلك من يحدد طبيعة علاقة الأفراد داخل حدود هذه الدولة، ذلك لأن الدولة هي ذروة التنظيم الاجتماعي. Continue reading

ماذا لو أن إدوارد سعيد لم يكن إدوارد سعيد؟ / طارق الحيدر

يطرح عبدالله الرشيد في مقالته “هل كان ادوارد سعيد قصة عاطفية عند العرب؟” الأسئلة التالية: “هل لو كان ادوارد متجرداً من مواقفه وانتماءاته السياسية العربية–غير مهتم أو مكترث بالشأن الإسلامي و القضية الفلسطينية– سيحظى بذات المكانة التي يحظى بها اليوم؟ هل ساهمت تجربته النضالية، و مواجهته للثقافة الغربية في إعطاء مشاريعه و مؤلفاته مزيدا من الوهج و الزخم؟”

يختصر الرشيد موقفه من هذه الأسئلة في ختام مقالته حين يقول: “أسئلة كثيرة تستحق أن تُطرح من جديد أمام  تراث شخصية ذات تقاطعات كثيرة لم يُفصل بينها بوضوح، في التعاطي و التحليل و النقاش، يطغى جانب على جانب، و تضلل العاطفة على العقل، و يعلو صوت الوجدان و المشاعر.”
وجدت صعوبة في البداية في فهم سؤال الرشيد، حيث إن أي ناقد أو أديب أو مفكر سيجد قبولاً لدى الناس لأسباب مختلفة. فقد يهتم البعض –عرباً كانوا أو عجماً– بنعوم تشومسكي على سبيل المثال بحكم إسهاماته في اللغويات أو اللسانيات، بينما قد يقرأه آخرون لمواقفه من القضية الفلسطينية، أو من أجل نقده للامبريالية، أو كتاباته حول دور الإعلام في تطويع المواطنين، أو الإرهاب، أو كلها أو بعضها أو غير ذلك. لكن لو تساءل أحدهم: “لو كان نعوم تشومسكي مؤيدا للامبرالية، فكيف ستكون مكانته عند الناس؟” فلن يكون لتساؤله معنى، فكأنه يسأل “ماذا لو أن تشومسكي لم يكن تشومسكي؟”. و قد يقرأ البعض لغازي القصيبي من فرط إعجابهم بشِعره، بينما يستمتع آخرون بحسه الفكاهي اللاذع، فيما تستزيد فئة ثالثة من رواياته التي تُسلّط الضوء على سياسات دول و تغيّب السياسة في دول أخرى. و لو سأل نفس صاحبنا الأول و هو يعقد حاجبيه: “و لكن ماذا لو أن غازي القصيبي كان عبدالرحمن منيف؟” فسنكتفي بابتسامة مشفقة. على نفس المنوال، لا معنى أن نسأل: “لو أن ادوارد سعيد كان تركي الدخيل أو ماجد عبدالله أو بطرس بطرس غالي، فهل  سيحظى بنفس المكانة؟”
الأهم من كل ذلك أن مقال الرشيد–و يا للمفارقة!– تعتمد أطروحته على فكرة دحضها ادوارد سعيد نفسه قبل ٣٥ عاما، حين نشر كتابه الأهم “الاستشراق”. و الأعجب أن الرشيد أشار (دون أن يدري) إلى هذه المفارقة حين اقتبس من ذات الكتاب في قوله: “يلخص سعيد بأن الدارسين الأوروبيين قاموا بوصف الشرقيين بأنهم ”غير عقلانيين، و ضعفاء و مخنثين، على عكس الشخصية الأوروبية العقلانية و القوية و الرجولية.” إذ أن الأسئلة التي يطرحها الرشيد تقوم على ثنائية العقل/العاطفة، و تضع “العرب” (الذين يبدو أن الرشيد يتعامل معهم ككتلة متجانسة) في خانة العاطفة. هذا الفصل بين العاطفة و العقل لا يستقيم. لا يوجد عقل بلا عاطفة و لا عواطف بدون عقل. لا أقصد بأن العقل يكمّل العاطفة أو العكس. أقصد أن العاطفة و العقل مفهومان متداخلان بحيث لا يمكن الفصل بينهما بالشكل الذي يريده الرشيد. لكن حين يزعم الرشيد بأن علاقة “العرب” بإدوارد سعيد مجرد “قصة عاطفية” يعلو فيها صوت الوجدان و المشاعر و “تضلل العاطفة على العقل،” فإنه مجرد يردد ذلك الخطاب الذي يصور العربي العاطفي كصورة معاكسة للغربي العقلاني. و كان بودي أن أرد على هذا الطرح، لولا أن ادوارد سبقني لذلك بخمس و ثلاثين عاما.

الطائفية عارية..سوريا نموذجاً / بقلم:بدر الإبراهيم

تفتح تطورات الأوضاع في العراق وسوريا الباب واسعاً على انفجارٍ كبير في المشرق العربي، وعلى احتقان مذهبي متصاعد قد يتحول إلى صراع دموي في أكثر من بلد عربي، ومع التعبئة المذهبية القائمة يبدو أننا ننتقل إلى مرحلة أكثر خطورة في مسألة الصراع المذهبي.
من الممكن العودة إلى فهم الإشكالية التي صنعتها أنظمة الاستبداد في العراق وسوريا، حيث فشلت هذه الأنظمة في إيجاد هوية تجمع مواطنيها، وحين زال غطاء الاستبداد أو ضعفت سلطته المركزية في هذه المجتمعات ظهرت أمراضٌ ساهم الاستبداد في صناعتها، لكن هذا الحديث لا يكفي لفهم المشكل الطائفي الذي يبرز اليوم.
عند الحديث عن الطائفية في هذا الظرف لابد من تحديد مفهومنا لها ابتداءً، خاصةً وأن النقاش الذي يدور هذه الأيام يقود إلى تراشق التهم بالطائفية بين الأطراف المختلفة بما يفقد مصطلح الطائفية أي معنى غير اعتباره “شتيمة” تستخدم في سجالٍ هو طائفي بطبيعته، لذلك عندما نتحدث عن الطائفية فإننا نعني تحديداً تسييس الانتماء المذهبي، وتعريف الذات كجزء من جماعة مذهبية فاعلة في المجال السياسي، ورسم الخطوط الفاصلة سياسياً بين الكتل المذهبية باستخدام عبارات (نحن و هم) في الخطاب (وتالياً في الممارسة السياسية)، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى صراع سياسي قائم على أسس مذهبية.
إن تسييس المذاهب وتحويل الجماعة المذهبية إلى جماعة سياسية هو العامل المؤجج للأزمات الطائفية في منطقتنا، وقد ساهم الاستبداد في هذا الأمر عبر حظره لوجود قوى مدنية حديثة تنشأ على أساس مصالح مختلفة عن مصالح الجماعات الأهلية، وهكذا بقيت الجماعات الأهلية (الطوائف والعشائر) التشكيلات الوحيدة التي يمكن العمل من خلالها في مجتمعاتنا.
ما يقدمه تسييس المذهب وتحويل الجماعة المذهبية إلى جماعة سياسية هو تحديد مجموعة من المصالح وأولويات الصداقة والعداء الخاصة بالهوية المذهبية والمختلفة عن مصالح وأولويات الجماعة الوطنية،وهكذا يصبح التناقض الطائفي أعلى شأناً من التناقض مع عدو الأمة، وتصبح مسألة التدخل الخارجي حتى من الأعداء مبررة للانتصار على الخصم المذهبي، فتضيع السيادة والدولة وتتحول الجماعات المذهبية إلى بيادق بيد قوى إقليمية ودولية.
تحول العراق وسوريا ولبنان إلى ساحات صراع بين “الشيعية السياسية” التي تقودها إيران، وبين “السنية السياسية” التي تقودها تركيا وقطر والإخوان المسلمون، وبعيداً عن الدور القطري المنتفخ أكثر من حجمه الطبيعي، فإن تركيا تحديداً تخوض صراع نفوذ مع إيران في العراق والشام، وقد قاد تسييس المذاهب وغياب مشروع ورؤية عربية يمكنها تحديد المصالح العربية وتوضيح طبيعة الاختلاف والاتفاق مع الدورين الإيراني والتركي انطلاقاً من مصالح العرب إلى غياب السيادة وانحياز الجماعات المذهبية المتصارعة إلى قوى إقليمية ودولية تدعمها، وطبعاً إلى دخول الولايات المتحدة وإسرائيل على الخط. Continue reading

ما «العادي» و«غير العادي» في الثورة السورية؟

في حياتنا اليومية هناك أمور «عادية»… أن تنام ابنتك، فهذا أمر عادي، أن تستيقظ صباحاً للمدرسة، فهذا أمر عادي أيضاً، أن تذهب أنت لعملك وتعود منه متوقعاً أن تكون وجبة الغداء جاهزة وتنتظرك، فهذا أيضاً أمر عادي، لكن ما الذي نعنيه تحديداً عندما نقول عن أمر ما أنه «عادي»؟ لنستبعد مبدئياً أن معنى «عادي» هنا تعني «طبيعي»، إن هذا يحدث نتيجة «سنة كونية»، أو «حتمية تاريخية»، أو «قانون طبيعي»… إلخ. بعد استبعادنا لهذه المعاني، فإن كون شيء ما عادياً يتضمن أموراً عدة، يعني أولاً أنه متوقع، أنه لا يثير فينا أي حس استغراب، وهو ثانياً: يعني أنه روتيني، يحدث بشكل متكرر بحيث ليس فيه ما يفاجئ أو ما يدهش، هذه المعاني تتضافر لتعني شيئاً أساسياً وجوهرياً، هو أننا متكيفون مع ما نعتبره عادياً، تكيفنا هذا يعني تحديداً أن هذه الأمور العادية لا تصدمنا أخلاقياً ولا عاطفياً ولا فكرياً. Continue reading

كيف نفهم الحكم السلطوي؟

حقل دراسات الأنظمة السلطوية قديم قدم السياسة نفسها، ومثل أي حقل إنساني آخر فإن بعض الاتجاهات تسود فيه فترات معينة من التاريخ لتخلفها اتجاهات أخرى، فبعد أن كانت دراسة الأنظمة السلطوية تتركز على دراسات دساتير البلدان ومؤسساتها الخارجية، إنتقلت الدراسة إلى محاولة كشف دور النخب والمجموعات الفاعلة بعيداً من جمود وحتمية المؤسسات، ثم تلا ذلك عصر يؤكد على دور مؤسسات المجتمع المدني وحركات المعارض لتفسير التغيرات في هذا المجال أو ذاك.
قبل أشهر عدة، نشر «ميلان سفوليك» كتابه تحت عنوان «سياسات الحكم السلطوي»، الذي أراد من خلاله تقديم تصور نظري شامل لفهم هذا النوع من الحكم بطريقة تسمح للباحث بتفسير الأحداث والتحولات التي تطرأ عليه.
يمكن اعتبار هذا الكتاب يمثل قطيعة مع الاتجاهات السائدة في الوقت الحالي في هذا المجال الدراسي، إذ تتركز الحجة الرئيسة للكاتب في أن هذه الأنظمة يتخللها نوعان من الصراع: صراع بين النخبة الحاكمة والمحكومين، وصراع آخر داخل النخبة الحاكمة أنفسهم. Continue reading

السعودية واليمن … من اتفاق «الطائف» إلى «السياج»

اللغة هي مستودع التاريخ، وفي نجد مثل معروف يقول: «الشام شامك لو الدهر ضامك، والهند هندك لو قلّ ما عندك»، هذا المثل يشير إلى حقيقة تاريخية صبغت تاريخ الجزيرة العربية بشكل عام، وتاريخ نجد بشكل خاص، منذ مئات القرون؛ حقيقة تاريخية لا تجد بدايتها من «إيلاف قريش»، ولا تنتهي مع «قوافل العقيلات».
هذه الحقيقة هي أن الجزيرة العربية، ونجد على وجه الخصوص، كانت على الدوام بيئة مصدرة للعمالة لدول الجوار، ففي كتاب «عنيزة: التنمية والتغيير في مدينة نجدية عربية»، يصف كل من «ثريا التركي» و«دونالد كول» كيف أن اليد العاملة في القصيم انضم بعضها – بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية فيها – في نهاية القرن الـ19 للجيش العثماني، وجيش الشريف حسين في ثورته ضد الإمبراطورية العثمانية أوائل القرن الـ20، وكيف أسهم البعض منهم في حفر قناة السويس في مصر. Continue reading