لا يكاد يمر يوم إلا ويُنشر تقرير أو مقالة في الصحافة الأجنبية تحاول الإجابة عن سؤال: «لماذا فاز الإسلاميون في الانتخابات»؟
تتنوع التفاسير ما بين تفسير يُرجعه للقدرة التنظيمية المتفوقة لهذه الحركات، أو تفسير يُرجعه للخدمات الاجتماعية والتموينية التي تقوم بها هذه الحركات، بما يجعلها أشبه بمؤسسات ضمان اجتماعي أكثر منها أحزاباً سياسية، إلى آخر يراها الأكثر قدرة – باتكائها على الدين- على استمالة مشاعر الناس وعواطفهم. هذا السؤال وكل محاولات الإجابة عنه، لا تفضح أكثر من مكبوتاتها الاستشراقية.
إذ حتى لو فازت أحزاب علمانية، سنجد سؤالاً من نوع: «لماذا فازت هذه الأحزاب في بلدان إسلامية؟»… والمقصود أنها أسئلة تعود في جزء منها لنظرة إلى الشرق باعتباره هوية ثابتة ومتعالية على التاريخ، وفي جزء آخر إلى اعتبار فوز الإسلاميين بالانتخابات بعد ثورة ما، هو أمر غريب بحاجة إلى البحث عن تفسير. وبعيداً من هذه الانحيازات، لنحاول رؤية الصورة من جديد لفهم ما الذي حدث بالضبط.
هناك ثورات ناجحة، وأخرى فاشلة… وتفشل الثورة عندما تقبل بـ «حصان طروادة» الذي يتركه لها النظام القديم كهدية قبل أن ينهار، ليخرج في ما بعد من جوفه ما ينتهي بالثورة إلى الفشل. كان الفقر هو «حصان طروادة» الثورة الفرنسية، فالفقر انتشر بسبب السياسات الاقتصادية الفاشلة للنظام القديم، الأمر الذي أدى إلى حشد جموع الفقراء، وتحت حكم الضرورة، أن أسرع – كما تقول أرندت في كتابها «في الثورة» – «إلى مساعدة الثورة الفرنسية، وألهمها، ودفع بها إلى الأمام، ثم بعث بها في نهاية المطاف إلى مصيرها المحتوم، ذلك أن هذا الحشد كان جموع الفقراء. وحين ظهروا على مشهد السياسة ظهرت الحاجة معهم، وكانت النتيجة أن سلطة النظام القديم أضحت عقيمة، وأن الجمهورية الجديدة ولدت ميتة؛ كان على الحرية أن تستسلم للضرورة»، بمعنى آخر: أن الرغبة في حل مسألة الفقر هي التي وحدّت الناس خلف حزب اليعاقبة، وهي التي أوصلت رئيسه روبسبيير إلى رأس الحكم، وهي التي بدأت عهد الإرهاب والذي معه انحرفت الثورة عن مسارها كنزعة تحرر من الاستبداد باتجاه الحريّة.
فما هو «حصان طروادة» الذي خلفته الأنظمة العربية المنهارة في البلدان التي حدثت فيها الثورات والذي قد ينتهي بها إلى الفشل؟ الجواب باعتقادي هو «أزمة الهويّة»، فالدولة العربية الحديثة ليست «دولة – أمة»، أي ليست دولاً كفرنسا تعبر عن كل الأمة الفرنسية، بل هي دولة قطرية تعبر عن جزء من الأمة العربية، واكتسبت شرعيتها من كونها كياناً مرحلياً باتجاه الدولة – الأمة. ومع مرور الزمان وتطاول عهود الاستبداد، استنفدت هذه الدول شرعيتها باعتبارها جزءاً معبراً عن الأمة، ووصلت للمرحلة التي وصفها «برهان غليون» بأن الدولة أصبحت فيها مضادة للأمة. ولأنها دول مستبدة، فإنها قامت بقمع كل محاولة سياسية جادة لتحويل حدودها المصطنعة إلى حدود مواطنة وحقوق وحريات، ما يوفر لها منابع شرعية جديدة.
استنفاد هذه الدول لشرعيتها، سواء كمعبر عن جزء من الأمة العربية، أو بقمعها لكل محاولة تحويل لحدودها من حدود مصطنعة إلى حدود حقوق ومواطنة، جعل مسألة تسييس الهويّة هو المجال الوحيد الخصب الذي يمكن أن تتشكل فيه الحركات والتنظيمات من دون قمع من الدولة، بل قد يكون بدعم منها أحياناً. ومن هذه الفجوة، استطاعت الحركات الإسلامية تأسيس نفسها عبر تحويل الدين إلى هوية – قومية وتسييسه وكسب الجماهير انطلاقاً من التبني- الخطابي والمنبري فقط – لقضايا الأمة، التي تبدأ من قضية فلسطين ولا تنتهي عند تأجيج الناس ضد نشر الرسوم المسيئة للرسول.
كان هذا الانتشار والتمدد يحدث تحت مرأى ومسمع من هذه الأنظمة، الذي وجدته يوفر خدمات متعددة لها، ابتداءً من كون هذه الحركات توفر انشغالاً سياسياً بالهوية وبقضايا بعيدة من حدودها أكثر منها بالحقوق والحريات، إضافة لكونها تمارس أدواراً اجتماعية تعوض فيها تقصير الدولة وغيابها، وأخيراً لتستخدمها كوحش صغير تخيف به الغرب من أن هذا هو البديل لها.
كان الثمن الذي على هذه الحركات أن تدفعه لأجل أن تبقى، أن تستمر في بناء شرعيتها على أساس تسييس الدين وتحويله لهوية وتبني قضايا الأمة الكبرى بالكلام فقط، من دون أن تحاول أن تتجاوز ذلك إلى ميدان العمل السياسي الحقيقي، أي ميدان الحقوق والحريات، وأن تكتفي بانتظار أي حدث ما لتقوم بالاستفادة من تفوقها التنظيمي لاستغلاله لمصلحتها.
فوز الحركات الإسلامية يندرج ضمن سياق أزمة الهوية هذا، الذي أعطاها فرصة لأن تكون أكثر تنظيماً من غيرها – لا لشيء بل لتخليها عن العمل السياسي المناصر للحريات والحقوق – وبالتالي أكثر حصداً للأصوات من غيرها. ولأنها بنت شرعيتها على مدى عقود باعتبارها المعبر الوحيد عن الهوية، المجال الوحيد الذي سمح لها النظام القديم بالتحرك من خلاله، فإن اختيار الأكثرية للتصويت لها إنما هو اختيار للهوية أكثر منه اختياراً للحقوق. ومن هذه الزاوية، نستطيع اعتبار هذه الحركات التي نشأت وترعرعت في ظل الأنظمة المنهارة، ولعبت دوراً حاسماً في انهيارها، أنها «حصان طروادة» الذي خلفته وراءها، وقد يؤدي بالثورة إلى الفشل.