حول “ممضوغات” أبي يعرب المرزوقي

كتب أبو يعرب المرزوقي مقالة عنونها بـ”ممضوغات العلم الزائف“، معلقا فيها على الحوار الدائر حول نقص القرآن. وبعد قراءة ما كتبه، يمكن القول بأنه لم يتطرق لأصل الموضوع. فكلام أبو يعرب المرزوقي كله يدور حول مسألة نستطيع صياغتها- بعيدا عن أسلوبه المعقد في الكتابة- كالتالي: فهو- أي المرزوقي- يناقش مسألة هل كتب القرآن في زمن الرسول أم أنه كان محفوظا في الصدور ثم كتب بعد ذلك؟ ويحاول في إجابته الرد على من يتصورهم يرجحون الخيار الثاني ليفتحوا احتمالية تطرق النقص والزيادة إلى القرآن أثناء عملية نقله من الذاكرة إلى الكتابة؟ فكل كلامه وتشنيعه وحججه، إنما هي موجهة لمن يشككون في كون القرآن كان يكتب بالتوازي مع نزوله، كي يصادموا العقائد الايمانية بما يزعمونه حججا تاريخية ومعرفية. مؤكدا أن هؤلاء في تشكيكهم -إن كان تشكيكا علميا وليس تشكيكا مطلقا- إنما ينطلقون من قياسين من جنس أقيسة العامة حسب تصنيف أرسطو: قياس حال المسلمين بحالهم أيام الجاهلية، وقياس ظروف تدوين القرآن بظروف التوراة والإنجيل.

وبعد أن يبين ذلك، يطرح خمس أدلة تبين بدائية رأيهم: أولا، تأكيد القرآن على كتابة وتوثيق كل معاملة مهما كانت تافهة يقتضي كتابة وتوثيق ما هو أهم من كل شيء: القرآن نفسه. ثانيا، تنبيه القرآن للتحريف الذي وقعت فيه الكتب السابقة، مما يقود إلى كتابته لعدم تكرار ما تم التنبيه عليه. وثالثا، أن النهي عن كتابة الحديث يعني تعميم الأمر بكتابة القرآن. الرابع، أنه لا يعقل أن يهتم عمر بتدوين الدواوين الدنيوية وألا يهتم بتدوين القرآن الذي هو أهم. والخامس، بأن القرآن يسمى الكتاب وهذا يعني انه كان مكتوبا.

وكما هو واضح، فالمرزوقي يناقش مسألة أخرى مختلفة تماما، بل إن خطابه موجه للرد على “جل العلمانيين العرب” الذين عندما يتكلمون عن القرآن يستنسخون نسخا باهتة مما تكلم به المستشرقين عنه، والذين- أي هؤلاء العلمانين- يريدون استثمار تاريخ النصوص لينطاحون به العقائد الإيمانية وليفصلون من خلاله بين الموقف الايماني واللاايماني.

فالمسألة منذ بدايتها ظلت تدور بين “مؤمنين”. صحيح أن بندر الشويقي -مثلا- حكم على كلام الجابري بأنه ضلال مبين ومنازعة في ضروري من ضروريات الدين، إلا أن هذا – حسب تفسيري الشخصي- موقف حركي باعثه التنفير من الجابري أكثر من كونه موقف شرعي متجرد. فعلى الرغم من وجود مثل هذا التضليل، إلا أن كل الذين خاضوا بالمسألة لم يخوضوا فيها باعتبارها مسألة معرفية بحتة تفترض مسبقا بشرية القرآن، بل الكل خاض فيها مؤمنا- حسب تصريحه على الأقل- بأن القرآن كلام الله. ولم يصور أحد من المختلفين عملية الجمع بأنها عملية انتقال من الذاكرة إلى التدوين، بل كان الخلاف، كل الخلاف، حول ما حدث أثناء عملية الجمع وهل جاز حدوث نقص عرضي في القرآن أم لا؟ إذ أن النقص المتعمد يكاد يكون محل اتفاق. والمسألة ليست من قبيل وضع العلم، أو التعالم، في قبالة الإيمان. وبلغة أوضح: لم يكن من بين أهداف جميع المتحاورين، سواء من جوز النقص أو نفاه أو أكده، أن يثبت من خلال ما يطرحه بطلان الاسلام أو بشرية القرآن. بل إن المسألة تكاد تكون على العكس من ذلك تماما، وهي تمس بجذرها مسألة “الاجتهاد في العقيدة”. فعند السلفيين، أن مسائل العقيدة مسائل محسومة ومفروغ منها، وهي ليست شيئا آخر غير ما قرره السلف الصالح، خير القرون، والقريب من فترة الرسالة زمانا والقريب من لغتها اتقانا وفهما. ومن هنا، يرفضون تماما أي خوض في مسائل العقيدة، ويسارعون إلى التضليل والحكم على أي طرح مخالف لما استقر عندهم أنه “تصور السلف” بأنه منازع لضروري من ضرورات الدين!

وعلى الرغم من كون المرزوقي كان يناقش قضية أخرى، إلى أن هناك ما أود مناقشته في ما طرح. فالمرزوقي يعيب على من يجادلهم بأنهم يقيسون القرآن على الكتب السابقة، في الوقت الذي يتعامل مع القرآن وكأنه نزل دفعة واحدة! أي وكأنه لم يتنزل على مدى ربع قرن، نصفها تقريبا، والذي نزل فيه أكثر القرآن، كان في مكة حيث كان المسلمين: أولا قلة. وثانيا مضطهدين، وثالثا معدومة لديهم وسائل الكتابة. ورابعا قد هاجر جزء كبير منهم إلى الحبشة. وخامسا لم تكن قد أنزلت عليهم بعد الآيات التي تتحدث عن التحريف وعن الكتابة والتوثيق إذ أن هذه جلها، إن لم يكن كلها، آيات مدنية. وسادسا أنهم هاجروا إلى المدينة هاربين ومستترين وخائفين. كل هذا يجعل ما كتبوه، إن كانوا قد كتبوه، سيعانى صعوبة ساحقة أكثر منهم في الانتقال معهم. ونحن كمؤمنين، نستطيع الاجابة عن هذا الاشكال، باللجوء إلى قدرة الرسول على الحفظ ومراجعاته لجبريل القرآن في كل عام. لكن بالاكتفاء بالدليل العقلي، فإن المرزوقي سيجد صعوبة في تطبيق حججه على الفترة المكية.

وللأسف لا تتسع المقالة لمناقشة تصور المرزوقي المميز للعقدي عن المعرفي، وتصوره عن التحريف. فالمطلوب كان تبيان أن لا علاقة بين ما طرحه والجدل الدائر الذي حاول المشاركة فيه. والسبب الحقيقي لهذا التبيان هو العجب ممن أعجب بما قدمه المرزوقي وكأنه قول حاسم في المسألة وراح يردد عنوان المقالة كثيرا، مما يشعرني بأنه قد اكتفى من المقالة بقراءة عنوانها فقط!

اترك تعليقاً