هل أهل الذمة أقلية سياسية؟

وأنا أتابع النقاش الدائر حول “الديمقراطية” الذي أعقب مقالة محمد الأحمري، لفت انتباهي ما ذكره بندر الشويقي في سياق تعليقه على حوار الأحمري… حين قال: “شريعة الإسلامِ تحوي قوانين و أحكاماً كثيرةً جداً تتعلق بالدماء، والأموال، والمعاملات، والنكاح، و الطلاق، والنفقة، والحضانة، والحدود، والقصاص، واللباس، والأطعمة، والأشربة، والقضاء، والشهادات، وأحكام الحرب والسلم (الجهاد)، والولايات، وصفة الحاكم الشرعي، ومتى يكونُ شرعياً، ومتى تزول شرعيته، وحقوقه على رعيته، وحقوق الرعية عليه، وأحكام الأموال العامة (بيت مال المسلمين) جبايةً وإنفاقاً، و الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحقوق الأقليات (أهل الذمة)، وأحكام أهل البدع، وحدود حرية التعبير، وقيود ممارسة الشعائر، والعلاقات الدولية، وما يسوغ مما لا يسوغ من المعارضة السياسية …. إلخ. ”
بغض النظر عن عدم تمييز الشويقي بين الفقه كما تم تداوله في التاريخ وبين شريعة الإسلام المكنونة في نصوصه المقدسة، وبغض النظر عن الايحاء المزيِّف بشمولية هذا الفقه بحيث لا يفتح أي مجال للتثاقف مع الاخر والاقتباس منه ومراكمة تجاربه على تجاربنا..إلخ. سأغض النظر عن كل هذا، وأركز على عملية إسقاط مفهوم “الأقلية” السياسي، المرتبط بالنظام الديمقراطي، على مفهوم “أهل الذمة”. فهذا الاسقاط بات رائجا في الأدبيات الاسلامية المعاصرة التي تناقش قضية “أهل الذمة”.
تندرج اشكالية أهل الذمة إلى ذلك الصنف من الاشكاليات الوهمية التي يتم الترويج لها وصناعتها خدمة لمصالح امبريالية… تماما مثل عملية تسييس الطائفية وجعلها أساسا لبناء ديمقراطيات وهمية كما حصل في لبنان ويحصل في العراق. فالسياسات الاستشراقية والاستعمارية روجت للصورة التالية عن العالم العربي: أنه عبارة عن عالم تتواجد فيه أكثرية عربية مسلمة سنية محاطة بمجموعة من الأقليات الإثنية (كالاكراد والامازيغ) والدينية (مسيحية ويهودية…) والمذهبية (شيعة واباضية واسماعيلية..). فتم رفع الاختلافات الدينية والاجتماعية والاثنية، إلى خلافات سياسية : بين أكثرية وأقليات. وبناء على هذا الرفع، طرحت مجموعة من الاشكاليات والاوهام: كوهم ترويج الاقلية المسيحية للقومية حفاظا على مصالحها… وغيرها من الأوهام والاشكاليات التي تسربت إلى الفكر العربي بكافة تياراته. ولعل أهم إشكالية سال من أجلها الكثير من الحبر الإسلامي هي قضية حقوق الأقليات غير المسلمة في الدولة الإسلامية؟
تم التعامل مع هذه القضية عبر استرجاع وضعية أهل الذمة في الامبراطوريات الاسلامية القديمة، وصار دور المنظر الاسلامي المعاصر هو التوفيق بين الوضعية القانونية التي كان يتمتع بها أهل الذمة وبين وضعهم اليوم كمواطنين في دولة وطنية غالبيتها من المسلمين؟ يجتهد المنظر الاسلامي المعاصر في محاولة التوفيق بين المساواة التي تفرضها الوطنية في الحقوق والواجبات، وبين التمييز الذي كان يعيشه اهل الذمة قديما (لا يتولون المناصب ولا يشاركون في الجيوش وتؤخذ منهم الجزية). وبغض النظر عن النتائج التي تم الخلوص لها، فات هذا المنظر أو ذاك أن الاشكالية برمتها اشكالية مزيفة، تقوم على تلاعب فج بمفاهيم الأقلية وأهل الذمة.
فمفهوم الاقلية، مفهوم مرتبط بالنظام الديمقراطي. والاقلية هنا لا تتحدد بالدين واللون والمذهب، بمعنى آخر: لا تتحدد الاقلية باختلافات على مستوى الهوية أيا كانت سواء اثنية أو دينية (وجود سود في بحر من البيض لا يجعل منهم أقلية، ووجود شيعة في بحر من السنة لا يجعل منهم أقلية، ووجود مسيحيين في بحر من المسلمين لا يجعل منهم أقلية). بل الأقلية السياسية هي أقلية رأي. مثال ذلك: الموقف من الحرب على العراق: صادف أن رأي الاكثرية انهم مع، أما الأقلية فهم ضد. بعد فترة، تغيرت الآراء وتحولت الاكثرية إلى أقلية. وهذه الاكثرية فيها الابيض والاسود والمسلم والمسيحي واليهودي، وتلك الاقلية كذلك. إذا هي أقلية رأي تدور حول قضية سياسية. يطرح الرئيس خطة لإنقاذ الاقتصاد، فتنقسم الأمة لأكثرية مؤيدة وأقلية معارضة… من هنا يتضح معنى مفهوم الأقلية. فالأقلية السياسية: متغيرة، لها حرية التعبير عن رأيها المعارض في السياسة والدعوة إليه بما يسمح لها للتحول إلى أكثرية فيما بعد. أما الأقليات التي يتم الترويج لها في العالم العربي فهي أقليات مبنية على هويات لا على آراء، وهي أقليات موجودة حتى لو لم يوجد نظام ديمقراطي. يولد الفرد وقد تحدد سلفا ما إذا كان ينتمي لهذه الاقلية أو لتلك الاكثرية، دون أن يختار. هذا الترويج الفج للأقليات الطائفية، كان يصب في مصلحة القوى الاستعمارية في فترة من الزمن، لكنه ما زال يمارس سلطته على التفكير عند غالبية أطياف الفكر العربي.من هذا التوضيح نجد أنه لا علاقة بين مفهوم “حقوق الأقليات” المرتبط بنظام ديمقراطي ودولة وطنية بالضرورة، وبين مفهوم “أهل الذمة” المرتبط بواقع امبراطوريّ كالامبراطوريات الاسلامية والاوروبية التي تشكلت قديما. وبهذا يصبح السؤال الملح على المنظر الإسلامي المعاصر هو التالي: هل يجوز تجاوز كافة الأحكام الفقهية التراثية وذلك لأنها مرتبطة بوضع سياسي (الامبراطورية) مختلف تماما عن الوضع السياسي الحالي (الدول الوطنية ومفهوم المواطنة)؟ أم أنها تبقى صحيحة والمطلوب تغيير الوضع والعودة لنظام الامبراطوريات القديم؟

اترك تعليقاً