يُعتبر جابر عصفور واحدا من أهم المثقفين العرب والمصريين الذين نصبوا أنفسهم للدفاع عن ”التنوير“. فمجرد مطالعة عناوين بعض كتبه- ”التنوير يواجه الإظلام“ و”محنة التنوير“ و”دفاعا عن التنوير“- تعطينا لمحة لأهمية ومركزية التنوير بالنسبة له. قبل أيّام، اجتمع السيسي بمجموعة من الأدباء والمثقفين المصريين من أمثال جمال الغيطاني وأحمد عبدالمعطي حجازي. كان عصفور من بين المجتمعين، وكان من بين ما قاله هو أن ”الثقافة هي العقل، وهناك إشكالية كبيرة في تغيير عقل المصريين ليكونوا جنودا معك ويقودوا العصر، ولابد أن تكون هناك منظومة ثقافية محددة تقودها الدولة لتنطلق منها نحو خلق توجهات وأفكار جديدة…“.
إن عصفور ليس إلا مثالا واحدا على اصطفاف المثقفين العلمانيين واللبراليين العرب مع أمثال السيسي في مصر أو بشار الأسد في سوريا. وهذا الاصطفاف تم ويتم رصده ونقده بشكل دائم ومستمر. إلا أن هذا النقد غالبا ما يأتي بسياق ”كشف“ هؤلاء و”فضح“ تنكرهم للمبادئ والقيم اللبرالية. أي أن النقد غالبا ما ينطلق من التفريق بين ”اللبرالية الحقيقية“ في الغرب، وبين ”اللبراليين العرب“، واعتبار هؤلاء غير مخلصين في انتمائهم للبرالية. إن مثل هذا النقد لا ينتقد الليبرالية بقدر ما يحاول إنقاذها من اللبراليين العرب، أي أن مشكلته مع ”التطبيق السيء“ لها، لا مع النظرية نفسها.
ولكن، ماذا لو كان مثل هذا النقد مخطئا؟ ماذا لو كان هناك ثم شيء في الأيديولوجيا الليبرالية يجعل من المبرر للكتاب والمفكرين اللبراليين الانحياز ضد الديمقراطية؟ إن هذا الخط من النقد هو ما يتم غالبا تجاهله، والسبب في ذلك هو أنه غالبا ما يتم اعتبار أن كل من ”اللبرالية“ و”الديمقراطية“ مترادفتين، لكن بمجرد التفريق بين هذين المفهومين وتتبع سيرة حياة كل منهما تتكشف لنا أن العلاقة بينهما ليست بتلك الوديّة والحميمية التي يتم تقديمها لنا، وأن هناك في النظريّة اللبرالية ما يبرر الاستبداد والتحيّز له.
يقوم المبدأ الأساسي للبرالية على أن للفرد حقوق خاصة يجب أن تحترم، في حين أن المبدأ الأساسي للديمقراطية أنه يجب على المجتمع أن يحكم نفسه بنفسه. ولعل أفضل نقطة للإنطلاق لرصد العلاقة المتوترة بين المبدأين هي من خلال جون لوك أحد الآباء المؤسسين للفكر الليبرالي. فجون لوك (١٦٣٢-١٧٠٤) عاش في الفترة التي بدأت فيها الدولتين اللبراليتين- هولندا وإنجلترا- بإستعمار العالم وإحياء تجارة العبيد، التي كان هو أحد المستثمرين في تجارتها في القارة الأفريقية والمساهمين في كتابة الدساتير التي تنظم مؤسستها في المستعمرات الانجليزية في القارة الأميركية. في عام ١٦٨٩م، نشر ”مقالتين في الحكومة“ التي كان يرد فيهما على فيلمر أحد منظري حق الملوك الإلهي، أي لسلطة الملك المطلقة غير المقيّدة.
دافع لوك عن تقييد سلطة الملك، إلا أن دفاعه هذا لم يكن نابعا من ”حق الشعب في اختيار من يحكمهم“، بقدر ما كان نابعا من نظرية الحق الطبيعي، وهي نظرية ذات جذور مسيحية تقول بأن الله أودع في البشر حقوقا طبيعية- الحق في الحياة، والملكية، والحريّة- في حالة سابقة على نشوء الدولة، يدعوها بـ”الحالة الطبيعية“، وهذه الحقوق تضع قيودا على أي سلطة. إنها حجة ”دينية“- يجب التذكير بذلك في وجه التطرف العلماني العربي- ضد السلطة المطلقة، تنتمي لنفس عائلة الحجج التي تنتمي لها الحجة الإسلامية السياسية لتقييد سلطة الحاكم: ”لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق“.
على الرغم من عدم تقييده لسلطة الحاكم بالإستناد على ”سلطة الشعب“، إلا أن لوك ارتأى في البرلمان والانتخابات وسائل مهمة لضمان تقييد صلاحيات الحاكم. فالبرلمان بالنسبة له ليس ”تعبيرا عن إرادة الشعب“، بقدر ما هو وسيلة لمنع الملك من أن يتعدى على الحقوق الطبيعية- أو الإلهية- المغروسة في كنه أي إنسان (ما عدا- طبعا- الإنسان الذي يساهم هو في بيعه كعبد من أفريقيا، وأبناء المستعمرات التي يستفيد من خيراتها). إلا أنه يجب أن نتذكر أن البرلمان والانتخابات التي يتحدث عنها جون لوك محصورة بطبقة الملاك من الرجال الأحرار الإنجليز: أي أن أبناء المستعمرات، العبيد، النساء، الفقراء… كلهم محرومون من الدخول في العملية السياسية. إن برلمان لوك الذي يحمي القيم والمبادئ اللبرالية أقرب للأوليجارشية (الطغموية السياسية) منه إلى الديمقراطية.
بعد مائة وسبعين عاما، أي في عام ١٨٥٩م، نشر جون ستيوارت ميل- أحد أهم منظري الفكر اللبرالي- كتابه ”في الحريّة“، والذي رأى فيه أن الأجيال اللبرالية السابقة قد نجحت في تثبيت سلطة البرلمان وتقييد سلطة الملك، ومنعه من الحكم الاعتباطي. لهذا، دعى إلى الانتقال من مواجهة الاستبداد السياسي إلى مواجهة طغيان المجتمع وحماية حرية الفرد منها. أمام هذا الطغيان الجديد استند ميل على كون الإنسان سيد ”على نفسه وبدنه وعقله“، وأن ”الحريّة الفرديّة“ يجب أن تحترم وأن لا يتم التدخل في أفعال الفرد التي لا تؤثر إلا على نفسه بالقسر والمنع. إلا أن جون ستيوارت ميل لا يعتبر الحرية الفردية منحة إلهية أو يؤسسها على نظرية الحق الطبيعي كما فعل لوك، بل يراها مكتسبة ونتيجة لنظرة تطوريّة للتاريخ، بحيث يكون الوصول إلى ”طور الحضارة“ هو شرط أساسي للحرية.
ومن هذا التأسيس نجد أن ميل يصرح باستثناء قطاعين من البشر من التمتع بهذه الحريّة، وذلك نظرا لكونهم يعانون من نوع من ”القصور“. أما القطاع الأول فهم الأطفال، فقصورهم هنا ”بيولوجي“ ومؤقت ينتهي بمجرد أن يصلوا لسن الرشد. أما القصور الآخر، فهو ”قصور حضاري“، إذ يقول: ”ويمكن كذلك أن نقصي من اهتمامنا تلك المجتمعات التي تعيش في حالات متخلفة، إذ يمكن اعتبار أنها عرقيّا ما زالت قاصرة“. لكن عنصريّة ميل ليست مغلقة وحتميّة، بل عنصريته تطوريّة، فهو يرى أنه من الممكن لهذه الأمم أن تصل للحضارة، وأحد الوسائل التي يقترحها لهم للإرتقاء بهم حضاريا هو الاستبداد. فهو يقول أن ”الاستبداد نمط حكم صحيح في التعامل مع البرابرة بشرط أن يكون الهدف هو تطويرهم“. وهذا النوع من ”الاستبداد النيّر“ لن يقوم به إلا الرجل الأبيض المستعمر… ومن هنا نجد تبريرا لبراليا للاستعمار وتصويره بأنه عبارة عن ”عبء للرجل الأبيض“ ورسالته الحضارية لباقي الأمم. وبالفعل، فميل نفسه كان موظفا لدى شركة الهند الشرقية، وكتب- في كتابه ”مبادئ الاقتصاد السياسي“- قائلا: ”يجب أن لا يكون لدينا أي تردد في تأكيد أن الإستعمار، في الوضع العالمي الحالي، هو أفضل مجال يمكن لرأس مال الدول الغنية أن ينخرط فيه“.
قد يعترض بعض اللبراليين العرب على هذا التحليل السابق، بأن يقولوا أن اللبرالية أيديولوجية حيّة تصلح نفسها بنفسها، وأن هذه النسخ القديمة تم تجاوزها. حسنا، لننتقل إلى أحد أشرس اللبراليين المعاصرين، وهو الفيلسوف الأميركي وأستاذ القانون الدستوري الذي درّس في أعرق الجامعات الغربيّة- مثل ييل و أوكسفورد ونيويورك- رونالد دوركين (١٩٣١-٢٠١٣). ففي كتابه ”قانون الحريّة“، يوضح دوركين أن الديمقراطية ليست مجرد ”حكم الأغلبية“، بل إنها النظام الذي يكون فيه حكم الأغلبية مشروطا بما يسميه ”الشروط الديمقراطية“. هذه الشروط الديمقراطية، هي القيم اللبرالية، أو ما يسميه ”حماية الحريات ”السلبية“، كحرية التعبير والخصوصية، على حساب الحريات ”الإيجابية“ النابعة من تقرير المصير“. وبالنسبة له، عندما تقوم الأكثرية بتشريع قانون لا يحترم أيّا من هذه الشروط، فإنه من المبرر ”باسم الديمقراطية“ ألا يتم الاعتراف به. أي أن دوركين لا يقبل بديمقراطية مطلقة، بل بديمقراطية مشروطة بشروط لبرالية. ليس هذا فقط، بل عندما نتساءل: من يحدد ما إذا كان القانون يخالف الشروط اللبرالية أم لا؟ فإن إجابة دوركين لا تستبعد المؤسسات السلطوية غير المنتخبة. فهو يقول صراحة بأن نموذجه للديمقراطية ”لا يجد أي حرج من توظيف بعض الإجراءات السلطوية (أو غير المختارة من قبل الأغلبية) في بعض الحالات عندما يكون ذلك أفضل لحماية وتحسين الأوضاع التي تمثل قلب الديمقراطية، كما أنه لا يعتبر أن مثل هذه الإجراءات تستوجب الندم الأخلاقي“.
هذه الحجة الأخيرة يمكن بسهولة اعتمادها كأساس لموقف اللبراليين المصريين الذين أيدوا السيسي، أي باعتباره ”إجراء سلطويا ضروريا“ لحماية الديمقراطية من الأكثرية. ومثل هذه النتيجة تكشف بوضوح كيف أن الأيديولوجية اللبرالية- بحسب آخر منظريها- تحمل نفورا ذاتيا من حكم الشعب لنفسه، وأنها عملت لفترة طويلة كمبرر للإستبداد والاستعمار- بل الاستعباد- وذلك بحجة أن مثل هذه الإجراءات ستؤدي للإرتقاء بالبرابرة أو حماية الحقوق الطبيعية أو حراسة الديمقراطية. إننا هنا لسنا أمام ”تطبيق سيء لنظرية صحيحة“، بل نحن أمام تبرير نظري متسق مع المسلمات والأسس المتنوعة للفكر اللبرالية لممارسات وأعمال غير ديمقراطية ولا تحترم حقوق الشعوب والجماعات بحكم نفسها بنفسها.