لعل أول سؤال يتبادر للذهن عند قراءة عنوان هذه المقالة هو التالي: هل للحديث مشكلة؟في الحقيقة: نعم، فعلم الحديث فرع من فروع المعرفة، والمعرفة ليست شيئا سوى محاولات بشرية للإجابة على تساؤلات عظمى. وفي السنوات التي تلت وفاة الرسول، تحولت أقواله إلى مادة ضخمة للتلاعب والوضع والتحريف، وذلك خدمة لمصالح سياسية ومذهبية واجتماعية… إلخ. ومن هنا برزت إشكالية كبرى، وهي عبارة عن سؤال يقوم عليه علم الحديث كله: كيف نتحقق من أن هذا القول المنسوب للنبي قد قاله فعلا؟
وللإجابة على هذا السؤال قامت حركة معرفية نشطة، سعت لإيجاد مقياس واضح المعالم، يمكن من خلاله تمييز صحيح الأحاديث من ضعيفها. واستطاعت هذه الجهود أن تبدع المقياس التالي لمحاكمة الأحاديث، وهو المقياس المودع في تعريف الحديث الصحيح. يقول ابن الصلاح: “أما الحديث الصحيح، فهو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذا، ولا معللا”. واعتمادا على هذا المقياس، تم تصحيح الأحاديث وتضعيفها… وصولا للمدونات التي تخصصت في ذكر الأحاديث الصحيحة، كصحيح البخاري ومسلم.
هذا المجهود المعرفي، تم التعامل معه- مع بدء تحول الحضارة الإسلامية لطور الانحطاط- وفق أساسين: الأول عقلاني متطرف، والآخر نسبي تقديسي. فأول سمات عصور الانحطاط هو تعطل الجهود المبدعة والخلاقة عن العمل، ونتيجة لذلك التعطل تم تعميد المقياس السابق الذكر: مقياسا كليا، وثابتا، ومطلقا، هو منتهى ما يمكن الوصول إليه في هذا الميدان. وعلى الرغم من هذا التعميد، إلا أن هذا المقياس تم إيقاف العمل به. يقول ابن الصلاح ” إذا وجدنا فيما نروي من أجزاء الحديث وغيرها حديثاً صحيح الإسناد، ولم نجده في أحد الصحيحين، ولا منصوصاً على صحته في شيء من مصنفات أئمة الحديث المعتمدة المشهورة، فإنا لا نتجاسر على جزم الحكم بصحته، فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد، لأنه ما من إسناد من ذلك إلا ونجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه، عريِّاً عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والإتقان. فآل الأمر إذاً – في معرفة الصحيح والحسن – إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتدة المشهورة ….”.
وهنا نجد تداخلا بين تصورين متطرفين متناقضين للمعرفة، تم التوفيق بينهما بكيفية غريبة. فالتصور الأول هو التصور العقلاني المتطرف، الذي يرى امكانية وجود مقياس كلي وثابت ونهائي، نستطيع من خلاله معرفة الصحيح من الضعيف. وهذا التصور، يتناقض مع التصور النسبي للمعرفة الذي ينكر وجود مثل هذا المعيار المطلق، ويكتفي بأن يجعل التمييز بين الصحيح والضعيف نسبي، وذلك بالنسبة إلى جماعة علماء كل عصر من الاعصار، فما تعتبره جماعة عصر ما صحيحا قد يكون ضعيفا عند جماعة أخرى.
وعلى الرغم من تناقض هذين التصورين، إلا أن عصور الانحطاط استطاعت التوفيق بينهما عبر إجراء تعديل على التصور النسبي، وذلك عبر تخصيص العصر الأول وحده فقط بالقدرة على التصحيح والتضعيف… ولهذا اطلقت عليها “نسبية تقديسية” إذ أنها تعطي عصرا من القدرات المعرفية ما تحرمه من غيره. وهذا التقديس هو محور نظرتها للمعرفة ككل، فالمعيار لم يكن مطلقا ولا كليا إلا لأنه من انتاج ذاك العصر، والمعرفة لم تكن نسبية، إلا لأن بنسبتها إلى ذلك العصر ستكون صحيحة ومطلقة.
وانطلاقا من هذه الرؤية لما حدث لعلم الحديث من تكبيل معرفي في عصور الانحطاط، يمكن إعادة الفعالية إليه والابداع، عن طريق تحطيم كلا القاعدتين: فلا المعيار الذي تم الانتهاء إليه هو معيار كلي ونهائي، بل هو معيار قابل للنقد والمراجعة والتجاوز اعتمادا على الاجتهاد الخالص واستعانة بالفتوحات المعرفية التي تحققت حتى هذا اليوم. وكذلك، معرفة ذلك العصر ليست صحيحة مطلقا، كما أنها ليست خاطئة مطلقا، بل هي- مثل أي معرفة بشرية- مهمة، لكنها بالنهاية مرحلة تحتاج منا تجاوزها لا الوقوف عندها.
وبسبب عدم وضوح هذه الرؤية، تم التعامل مع علم الحديث في الأزمنة الحديثة، وكنتيجة لـ”صدمة الحداثة” والدراسات الاستشراقية، معاملة متطرفة. معاملة تراوحت ما بين التمسك الأعمى به، وبين الرفض العشوائي الغير ممنهج لبعضه أو جله. بل تحول النقاش حوله من نقاش معرفي، يهدف إلى الاقتراب من أجوبة أكثر دقة لإشكالياته المتنوعة، إلى نقاش يدخل ضمن الحرب الدائرة حول الهوية، فالحفاظ على هذا العلم كما هو، هو جزء من الحفاظ على الهوية. في حين أن إلغاؤه أو تهميشه، هو طريق نحو الاندماج بـ”روح العصر” التي لا تعني أكثر من الخضوع لثقافة أخرى.
وهذه المآزق المعرفية الموروثة عن عصر الانحطاط، أو الناشئة عن حرب الهوية مع الهيمنة الثقافية الغربية، تحيط كل محاولة معرفية للمعالجة والنقد بهالة من الحساسية والتخوف والحذر مما يعقد الأمر أكثر، ويؤجل النهضة المعرفية التي نطمح الوصول إليها.