أكون جاحدا إن أنكرت فضل أبي يعرب المرزوق علي. فما أنا إلا واحد من الذين أفادوا أيما إفادة من قراءة ما يكتبه، وأن جزءا كبيرا من تكويني الثقافي انما هو مدين له، فهو يمثل نمطا فريدا من المفكرين العرب… لا تندم أبدا على قراءته، لأنك دوما ستجد لديه جديدا. ورغم ذلك، لا تمنعني مديونتي إياه هذه من أن أعيب عليه سلوكه الطريق الوعر في الكتابة، في الوقت الذي يمكنه سلوك طرقا أخرى أسهل وأوضح. وأهديه ما قاله كارل بوبر يوما في إحدى مقدمات كتابه “منهج البحث العلمي”: “… وإنني بتركيزي الشديد هذا على ضرورة استخدام اللغة، والكلمات، إنما أرغب في التشديد على أنه يتعين علينا استخدام اللغة البسيطة، الواضحة، العادية والمتواضعة؛ اللغة التي تستخدم المصطلحات التقنية بعناية شديدة؛ اللغة التي يمكن ضمنها لأية نقطة أن تصاغ دون التباس، وبطرق عديدة، مما لا يجعل الأمور رهينة استخدامنا الخاص للكلمات. باختصار: لغة لا تكون فيها الكلمات هي القضية “.
والآن، سأعلق على “الفقيرتين” التين طرحهما في مقالته “هل هي معاجزة؟”. يقول في الأولى: “هل ينفي الأستاذ ما تتميز به كل الدعوات في بدايتها من الحرص على وثائقها؟ وهل ينفي أن تكون قلة عدد المؤمنين أولى بأن يجعلها أقل عرضة للتشتت والاختلاف“؟ وواضح أننا هنا أمام سؤالين منفصلين سأحاول الإجابة عن كل واحد منهما على حدة. أما السؤال الأول فغريب أن يصدر عن أبي يعرب، وهو الذي شن حملة هوجاء على “العلماني”، الذي يعتبر تماثل الاديان أو اختلافها أمرا مطلقا، وأن هذا الاعتبار من جنس “التعميم العامي الذي وصفه أرسطو عند الطفل يعتبر كل رجل أبا وكل امرأة أما له وكذلك ما يبدو نقيضه وهو عينه عندما لا يعتبر الطفل أباه رجلا ولا أمه امرأة”. فببساطة أستطيع الاجابة عن سؤاله الأول بالتالي: أن اعتبار “كل الدعوات تتميز في بدايتها بالحرص على الوثائق” هو من جنس هذه التعميمات العامية، إذ “كون كل بجعة رأيناها بيضاء لا يعني أن كل البجع أبيض” وأن لكل دعوة مسارها الخاص وظروفها وحيثياتها، والاتكاء على تعميم لا نعلم على أي استقراء استند، على ما في الاستقراء من مآزق ، ليس موقفا علميا أبدا! أما بخصوص السؤال الثاني: فقلة العدد ليست وحدها التي تحدد بقاء الوثائق المكتوبة أم لا، لكن الذي يحدد هو اقتران هذه القلة بالضعف وشبه انعدام وسائل الكتابة وكيفية الفرار من مكة إذ تم التخلي عن الديار والاموال هربا بالنفس… فمجموع تلك الظروف هو الذي يجعل احتمالية الكتابة قليلة، واحتمالية المحافظة عليها إن كان ثم كتابة: أقل بكثير!
وفي “الفقيرة” الثانية، قال أبو يعرب: “هل قرأ الأستاذ الآيات الخمس من سورة القرآن الكريم الأولى بتمعن (العلق) ؟ هل انتبه وهو منبه الغافلين إلى دلالة العلاقة بين عدم علم الإنسان وتعليمه بالقلم؟“. وعلى الرغم من عمق هذا الاستدلال، إلا أنه لا يقوم له حجة في قضيته هنا. إذ الرسول نفسه، الذي قيل له “إقرأ” لم يستنبط من هذه الآيات ضرورة تعلم الكتابة والقراءة، ولم ينقل عنه أي اهتمام بالكتابة، إلا بعد معركة بدر عندما اشترط على الأسرى تعليم صبيان المدينة حتى يفدوا أنفسهم. بل إن عدم كونه “يخطه بيمينه” من أهم الأدلة التي كان القرآن يلزم بها خصومه على أن القرآن من الله. إذ يقول الله: “وما كنت تتلو من قبله من كتاب وما كنت تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون، بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا الا الظالمون“. وفي حال كان الضمير في “هو” يعود إلى القرآن، فإن في هذا قرينة أخرى على عدم الكتابة والاقتصار على الحافظة.
أخيرا، أريد أن أوضح نقطة مهمة أرى أني لم أوضحها كفاية فأسيء فهمها. فأنا عندما تعجبت من أولئك الذين طاروا بالمقالة -من أمثال الدكتور سعد مطر العتيبي- باعتبارها قولا فصلا في المسألة، إنما عجبت فلأن المقالة لم تكن تمس أصل الخلاف وإنما تناقش سؤال: هل كتب القرآن في عهد التنزيل أم لا؟… وهذا سؤال بعيد عن نقطة الخلاف، ولهذا ذكرت ما ذكرت من شكي بأنهم قد اكتفوا بقراءة العنوان فقط!