لا أعلم، لكن هناك شيئا غريبا لدى مجموعة كبيرة من كتابنا ودعاتنا عندما يقومون بمناقشة قضايانا المحلية. إذ، فجأة، تتحلى هذه القضايا بانسيابية عجيبة تحولها إلى قضايا أخلاقية أو فقهية. فبدل مناقشة الدور الذي ستلعبه جامعة (كاوست) في فضائنا الأكاديمي، وما ستمثله مخرجاتها لعجلة التنمية، انحرف النقاش كلية إلى قضية أخرى، هي (الاختلاط)، وانقسم الناس ازاءها ما بين منافح عنها ومعارض، لتتلاشى القضية الأصلية وتتبخر إلى محض مسألة فقهية. اليوم يحدث نفس الأمر مع برنامج الابتعاث، إذ تتكاثر هذه الأيام محاولات كثيرة لتصويره على أنه مسألة أخلاقية، أو مشكلة اجتماعية، بطريقة تلغي صورته الحقيقية الواضحة: أي أن برنامج الابتعاث برنامج تنموي أولا وقبل كل شيء.
عندما نفتش في الغالبية العظمى من القصص والشكاوى والاعتراضات الاخلاقية على البرنامج نجد أنها لا علاقة مباشرة بينها وبين مضمونه، أي باعتباره (تعليما في الخارج)، بقدر ما هي متعلقة به بوصفه سفرا. ولعل الأمر سيكون طريفا لو قام أحد الباحثين بتتبع موضوع (السفر) في تراثنا الاجتماعي والديني المحلي، لأني أعتقد- ولا أعلم هل نحن متفردون بذلك أم أنها ظاهرة مرافقة لكل بيئة منعزلة- أنه سيجد كما هائلا من الاشارات والدلائل التي تصور السفر باعتباره أمرا مشبوها ومرفوضا. فكلنا نتذكر الفتاوى التي تحرم السفر للخارج إلا لضرورة، والممارسات الاجتماعية التي تجعل بعض الاهالي يرفضون تزويج ابنتهم لشخص ما إذا كان (يسافر). وعلى رغم أن هذه الظواهر نشأت بشكل تلقائي كإحدى نتائج العزلة الجغرافية والاجتماعية للقرية – النجدية خصوصا والسعودية عموما- القديمة، إلا أنها قد تم تثبيتها وتوظيفها كحاجز أيديولوجي فيما بعد من قبل بعض التيارات لمقاومة ظاهرة السفر للسياحة والتعليم التي بدأت تتضخم بعد التحول نحو الدولة الحديثة وتدفق السيولة النفطية منذ سبعينيات القرن الماضي. ولعل التصعيد الأخلاقي الأخير على هذا البرنامج أشبه ما يكون آخر نزعات هذا الحاجز الايديولوجي وآخر جولاته في الدفاع عن نفسه مقابل التغيير الذي لم يعد لديه أية قدرة على التحكم به. إذ لو لم يكن الأمر كذلك، فبماذا سنفسر تجاهل الحديث عن أكثر من أربعة مليون سعودي سافر للخارج سياحة العام الماضي، والتركيز فقط على أقل من مائة ألف مبتعث؟
بالاضافة لإشكالية السفر هذه، يخلط الكثير من الخائضين في موضوع الابتعاث بين كونه كاشفا لما يرفضونه من سلوكيات وبين كونه سببا لها بطريقة عجيبة تقوم بتحويل الابتعاث أو السفر إلى محض شماعة يتم تعليق كافة مشاكلنا عليها. فمهما تكن السلوكيات، أي سواء كانت صالحة أو فاسدة، التي يمارسها المبتعثون أو السيّاح خارج المملكة، فإنه لا يمكن بأي حال جعل سبب ممارستها إلى الابتعاث نفسه، أو للسفر نفسه. كل ما فعله السفر هنا هو أنه (كشفها)، في حين أن أسبابها توجد في مكان آخر، أي هناك في الداخل وتحديدا في مؤسساتنا التربوية من الأسرة إلى المدرسة. فإن كانت ثمة إشكاليات سلوكية أو أخلاقية لدى المبتعثين، فهذا لا يعني أن الابتعاث أفسدهم، بقدر ما يعني أنهم ليسوا سوى ما بدى من دخان لنار تشتعل داخل المجتمع، وهذا يعني أيضا أن محاولة حلها لا تبدأ من محاربة البرنامج بقدر ما تبدأ من إصلاح تلك المؤسسات التربوية المسؤولة بشكل رئيسي عن انتاج أشخاص بهذا الشكل.
ومن هذا كله، يصبح تناول برنامج الإبتعاث باعتباره مسألة أخلاقية أو مشكلة اجتماعية تناول مغرض في أفضل تقدير أو جاهل في أسوأه، إذ أن التناول المسؤول الذي يجب أن يتم تناوله فيه إنما يكون باعتباره برنامجا تنمويا. أي باعتباره برنامجا يهدف أساسا إلى تنمية الإنسان وتأهيله بما يكفي لأن يكون عنصرا منافسا في سوق العمل وباحثا خلاقا ومنتجا في مجال البحث الأكاديمي. ولابد لكل نقد لهذا البرنامج أن يتم على هذا الاساس، ومحاربة كافة الانحرافات التي تعيقه من أن يتم هذا الهدف، والحث على تحفيز خلق فرص العمل التي تتناسب مع مؤهلات هذا الجيش من المبتعثين ورفاقهم من خريجي الجامعات المحلية وتوقعاتهم. إن الكف عن مناقشة هذا البرنامج باعتباره برنامجا تنمويا، وتقييم أداء الجهاز الذي يقوم بالاشراف عليه ومدى نجاحه في أدائه لمهامه من هذا المنطلق بكل موضوعية ودون أي مجاملة، سيؤدي بعيوبه أن تستمر وتستفحل، وبمزاياه أن تنضب وتضمحل.
قد لا يزال بيننا من يعتقد أن عزل الأجيال الجديدة عن العالم، لهو أمر مفيد إذ بالإمكان أن يتم منعهم بهذه الطريقة من الخضوع لمؤثرات خارجية تؤثر عليهم بشكل سلبي، ومن هذا المنطلق يقوم بتضخيم سلوكيات بعض المبتعثين ومحاربة البرنامج. ولإن كانت هذه الطريقة مجدية في السابق- رغم أني أشك في ذلك- إلا أن ما فات أصحاب هذا الرأي أنه لم يعد اليوم هناك أي مكان (معزول) عن العالم، إذ من أي مكان، وبضغطة زر واحدة، يمكن لأي منا أن يتواصل مع العالم. باعتقادي، أن على هؤلاء أن يفكروا جديا بأن ينتقلوا من التربية على المنع- طالما أنه لم يعد فقط غير مجدي بل غير ممكن- إلى التربية على غرس المناعة لدى أجيالنا القادمة.