«جون لوك»… مؤسس العبودية وتاجرها

في منتصف القرن الـ17 كتب السيد «روبرت فيلمر» كتاباً بعنوان «الأبوية»، يدافع فيه عن نظرية «الحق الإلهي للملوك»، فرد عليه بعد بضعة عقود «جون لوك» في كتابه «مقالتان في الحكومة»، كانت إحدى الحجج التي استخدمها «جون لوك» ضد «فيلمر» هي أن نظرية هذا الأخير تجعل المواطنين الإنكليز مستعبدين للملك، وأن حال الاستعباد «حال بئيسة وبغيضة للإنسان»، وبالتالي فإن «لوك» لا يبيح استعباد الآخرين إلا ضمن حرب عادلة، أي في رد اعتداء معتدٍ، وأن يحصر الاستعباد في الرجال المقاتلين ومعاونيهم فقط… المقالة الثانية من الكتاب تعتبر واحدة من النصوص الرئيسة في الفكر الليبرالي الكلاسيكي في الدفاع عن «الحقوق الطبيعية» للفرد – الحرية، الملكية، الحياة – وفي التنظير لحدود الحكومة العادلة وفصل السلطات وتسويغ التمرد عليها إن كانت ظالمة.
ما يثير الاستغراب في هذا النص المدافع عن الحريات، الذي يعتبر حال العبودية «حال بئيسة وبغيضة»، هو أن يكون صادراً من جون لوك، ذلك أن جون لوك كان أحد المستثمرين في شركة نالت احتكار تجارة العبيد – عبيد لم يستعبدوا جرّاء حرب عادلة وكانوا مكونين من نساء وأطفال – في ساحل أفريقيا الغربي، وكذلك في «الشركة الأفريقية الملكية»، التي قامت بتصدير 90 ألف عبد، في سنواتها الـ16 الأولى، إلى حقول الزراعة في المستعمرات الأميركية.
يمكن تبرير هذا التناقض بأنه تناقض متكرر بين الفكر والعمل، نجده عند عدد لا متناهٍ من الفلاسفة، إلا أن هذا التناقض في حال جون لوك يدعو لمزيد من الحيرة إذا عرفنا دوره كأحد المؤسسين لنظام العبودية في المستعمرات الأميركية، فجون لوك عاش في فترة «تأسيس» نظام العبودية في المستعمرات الأميركية، إذ إن المستعمرين الإنكليز أرادوا رسم وترسيخ قيم ومعايير واضحة لهذه المؤسسة التي بنوها من أصولها، فالعبودية – أي العلاقة بين السيد وعبده – مثلها مثل علاقة العمل الرأسمالية – أي العلاقة بين رب العمل والعامل – من ناحية أنها قد توجد بأشكال ومستويات مختلفة يحدد اختلافها ومستوياتها المعايير الأخلاقية والقانونية التي يتم ترسيخها في هذه المؤسسة أو تلك، فمؤسسة العبودية في الإمبراطورية الرومانية ليست مثل مؤسسة الرق في الإمبراطوريات الإسلامية، وهاتان الاثنتان ليستا مثل نظام العبودية في مستعمرات الإمبراطورية البريطانية في أميركا الشمالية.
على أقل تقدير – وبحسب روبرت بيرناسكوني وآنيكا مازا مان – فإن جون لوك كان مسؤولاً عن تعديل واحدة من المواد الأساسية على نص «الدساتير الأساسية لكارولاينا»، وهو النص الذي أريد منه أن يكون نصاً مؤسساً للعلاقات القانونية في المستعمرة البريطانية «كارولاينا» في أميركا الشمالية، تلك المادة كانت برقم ١٠١ وكانت تدور حول علاقة رب العمل بالعامل. قبل التعديل، كانت المادة تُقرأ بالشكل الآتي: «يتمتع كل رجل حر في كارولاينا بسلطة مطلقة على عبده الزنجي في غير ما يخص الدين والرأي». كانت الإضافة التي أضافها جون لوك هي تعديل «بسلطة مطلقة» إلى «بسلطة وقوة مطلقة…»، والفرق بين «السلطة» و«القوة» هنا، هو أن القوة – كما شرحها هو في المقالة الثانية من الحكومة – تمنح السيد الحق في سلب عبده الحياة، أي عدم تجريمه في حال قتله لعبده.
الشق المتبقي للمادة المتعلق باستثناء حرية التدين قد يبدو في ظاهره نوعاً من «احترام حرية العبد الدينية»، لكنه في حقيقة الأمر انعكاس لصراع بين الكنائس وملاك العبيد حول مسألة ما إذا اعتنق العبد المسيحية، فهل يصبح حراً بذلك؟ فجاء النص ليمثل نوعاً من التسوية بين الطرفين، ذلك بأن أعطى للسيد حقوقاً مطلقة على العبد، وفي الوقت نفسه أعطى للكنيسة حرية تبشير العبيد وتحويلهم للمسيحية، هذه التسوية انتجت نوعاً من التحالف بين الكنائس وملاك العبيد على حساب العبد نفسه، وهو التحالف الذي بتفككه في ما بعد أفضى إلى بداية النهاية لنظام العبودية الأميركي، ما يهم هنا هو أن «لوك» حتى آخر لحظة من حياته كان داعماً لهذه التسوية، ذلك أنه كان يستشهد بنصوص من الكتاب المقدس تؤكد على أن اعتناق العبد للمسيحية ليس مبرراً لمنحه الحرية، أي أن بعض الفرق الدينية المسيحية مثل الكويكرز في ذلك الوقت كانت أكثر معاداة للعبودية من «فيلسوف التنوير واليلبرالية» جون لوك.
كيف يمكن حل هذا التناقض عند «جون لوك» بين تنظيره للعبودية في حال الحرب العادلة والحقوق الطبيعية، وبين دوره وانخراطه في تجارة وتدشين العبودية في القارة الأميركية؟ لا يوجد تبرير سوى أنه كان عنصرياً، أي أن تنظيره للحريات والحقوق الطبيعية كان خاصاً بالرجل الأبيض، إذ فقط ضمن هذا التفسير يمكن فهم دوره كصانع لمؤسسة العبودية، ومستثمر فيها في «مستعمرات» ومدافع عن الحريات، فتداخل «الاستعمار» و«العبودية» و«الدفاع عن الحريات» لا يمكن فهمه بشكل متناسق إلا إذا تم النظر إليه ضمن سياق محدد، ذلك السياق هو سياق موقفه كمواطن إنكليزي في إمبراطورية تحتاج مستعمراتها للعبيد كي تزدهر، مواطن كان له دور مهم في تدبير سياسة تدشين والانتفاع من مؤسسة العبودية في تلك المستعمرات.
ماذا يفيدنا نحن مثل هذه المناقشة؟ الفائدة الرئيسة تتمثل في الإسهام في تجاوز قراءة أعمال الفلاسفة الأوروبيين وكأنها «صالحة لكل زمان ومكان»، وكأنها «نصوص متعالية على التاريخ»، فهذا النوع من القراءة غير النقدية لا ينتج مفكرين ونقّاداً بل محض نوع جديد من «السلفيين» الذين يتعاملون مع نصوص المفكرين والكتّاب السابقين عليهم بكل تسليم وخضوع.

4 Responses

  1. مشكلتك تنزع السياق التاريخي عن النص. هذه مشكلة كبرى دائماً تقع فيها. الرق كان أمراً عاديا في تلك الأوقات ولم يفكر احد في تجريمه بل لم يخطر ببال احد. حتى الآباء المؤسسون لأمريكا يملكون عبيدا مع قيم الحريات التي ينادون بها. هذا ليست عنصرية ضد غير الأبيض وإنما كانت عادة وآمرا محققاً لم يجرؤ احد على تجريمه. ولو عاش لوك في هذا الزمن لكان ضد الرق بكل تأكيد.

    1. إنه لأمر سيء أن تتحدث بهذه الثقة وكل ما تقوله لا معنى له.
      ١- في كتاب جون لوك “المقالة الثانية للحكومة” هناك ثلاث فصول كاملة عن العبودية، وانا في مقالتي- ان كنت قرأتها، لاني اكاد اجزم انك كتبت ردك دون ان تقرأها- ذكرت وصفه للحال العبودية بانها حالة وضيعة وبائسة، وكيف انه وضع شروطا قاسية للاستعباد.
      ٢- بعد نفي جون لوك من انجلترا، ذهب وسكن مع أحد اصدقائه الإلغائيين، اي الناشطين في الغاء الرق، وهذا الحركة ناشطة ومعروفة.
      ٣- غير كتابات لوك نفسه وغير حركة الالغائيين، كانت هناك حركات دينية مسيحية في زمان لوك مناهضة للعبودية وذكرت انا في مقالتي ذلك، وذكرت كيف ان لوك كان يحاول اقناعهم بان تنصر العبد لا يقتضي حريته.

      وبعد هذا كله تاتي انت لتعطيني مواعظك باحترام السياق التاريخي وتزعم بكل صفاقة ان الرق كان مقبولا ولم تكن هناك حركة مناهضة له.

  2. كلام جميل، التناقضات هذه أيضا واضحة جدا في ما أشهر العبارات في الدستور الأمريكي أن “كل الرجال خُلقوا سواسية”، وقد محى توماس جيفرسون المالك للعبيد أي انتقاد لمنظمة العبودية حتى أنه كما في الرابط http://en.wikipedia.org/wiki/All_men_are_created_equal#Slavery_and_the_phrase
    ينتقد أحد الإلغائيين هذا التناقض بأنه “إن كان يوجد شيء يدعو للسخرية، فهو الأمريكي الوطني يوقع أوراق استقلال بيد،و يرفع و يلوح سوطه فوق عبيده الخائفين باليد الأخرى”

  3. ما لا يفهمه بعض الإخوان المُعلقين، هو أن فكر التمييز العنصري والإسترقاق والأبرتهايد موغل في الثقافة الغربية منذ ما سُمي بالفتوحات الجغرافية. لا يمكن أن نقبل من فلاسفة مثل كانط وجون لوك وفولتير وهيوم دفاعهم عن العبودية والإستعبباد، ونربط ذلك بالفترة التي عاشوا فيها؛ ونعرف بأنهم كانوا يدافعون عن “الفردانية” وحق تقرير المصير للشعوب، والمساوات إلخ. يعني كل ترسانة الأيديولوجيا التي جاءت بها الأنوار والعصر الحديث. لا يمكن أن نقبل هذا إلا إذا كنا مكفوفون، لأن هناك فلاسفة آخرين من أبناء جلدتهم ناضلوا ضد العبودية ولم يقبلوها. لذا اخرص يا أيها العربي الذي يعتقد في “نزاهة” الفكر العنصري الغربي، فقط غرسوا فيك فيروس الإستغراب، وأصبحت تردد ما يقولونه دون أخذ مسافة منه وتقديمه إلى محك النقد.

اترك رداً على حسن إلغاء الرد