كثيرون يعتقدون أن الثورة هي هذه الفترة التي يستغرقها الشعب للإطاحة بحكومته المستبدة، ولكن هذا غير صحيح: هذه هي مرحلة (التحرر) فقط، مرحلتها الأولى، ومرحلتها الأسهل أيضا. بعد ذلك تأتي مرحلة أخرى، أطول فترة، أقل إثارة، لكنها أصعب بكثير، وعليها وحدها يتوقف كل معنى الثورة، وهذه المرحلة هي مرحلة (الحرية). وفي هذا المجال سأتحدث عن ثلاث نقاط رئيسية:
١- التحرر شيء، والحرية شيء آخر
لنفرض أن شخصا ما مقيدا بسلاسل؛ هو الآن ليس حرا. وبعد عدة محاولات، استطاع التخلص من قيوده والهرب، وبدأ الذين قيدوه أول مرة بملاحقته. هو الآن (تحرر) من قيوده، لكنه هارب ومهدد بأنه في أية لحظة قد يتم القبض عليه وإعادته لتلك السلاسل، أي أنه ليس حر. هو (تحرر) من قيوده، لكنه لم يبن بعد ما به يستطيع منع الذين يلاحقونه من إعادته لقيوده، أي لم يبن المؤسسات التي تجعله يمارس (حريته).
من هذا المثال المجازي، نستطيع القول أن كل ما قامت به الثورة الليبية حتى الآن، كل الدماء التي أريقت، كل الشهداء الذين سقطوا، كل الخيارات التي اضطروا إليها- كالاستعانة بالناتو وغيرها-، كلها بمثابة التخلص من القيود، أي أنها فقط مرحلة التحرر. فهم حتى الآن ليسو أحرارا، بل هم في اللحظة التي فيها الحرية مهددة أكثر من غيرها، فإن لم يتم بناء المؤسسات التي تحميها، عاد الليبيين مجددا إلى القيود التي بذلوا الغالي والنفيس من أجل تحطيمها. فهم الآن يعيشون المرحلة التي قلّما استطاعت الشعوب الأخرى النجاة منها.
في فترة التحرر، يتجاوز الناس خلافاتهم ومصالحهم المتناقضة ويتحدون سوية أمام عدوهم الأوحد: المستبد. وفي هذه الفترة تتسامى النفوس، فيصطف الغني إلى جانب الفقير، الإسلامي إلى جانب العلماني، الرجل إلى جانب المرأة، يحركهم جميعا اندفاعهم الجارف نحو الحريّة.
لكن ما إن يسقط المستبد، وتبدأ مرحلة بناء الحريّة، حتى تظهر المصالح على السطح، ويركز الناس على ما يختلفون به أكثر من تركيزهم على ما يوحدهم، وللأسف الشديد غالبا ما يحسم مثل هذا الخلاف بالعنف.
يقول آدم ميكنيك – أحد مناضلي الثورة البولندية عام ١٩٨٩- “كل ثورة تتألف من طورين. الطور الأول هو طور النضال من أجل الحرية، والطور الثاني هو طور الصراع على السلطة. والطور الأول يجعل الروح البشرية تحلق في عنان السماء ويحرر في الناس أفضل طاقاتهم. أما الطور الثاني فإنه يخرج منهم أسوأ ما فيهم: الحسد، والتآمر، والجشع، والارتياب، والرغبة في الانتقام.”
٢- لماذا تأكل الثورة أبناءها؟
تحرر الفرنسيين من الملكية، لكن الثورة انتهت إلى عهد الإرهاب. وتحرر الروس أيضا من القيصرية لكن ثورة أكتوبر انتهت إلى حكم البلاشفة. وكذلك تحرر الفرس من حكم الشاه، لكن الثورة الإيرانية انتهت إلى “ولاية الفقيه”. كثيرة هي الثورات التي تمكنت من التحرر، لكن القليل منها فقط التي تمكنت من بناء الحرية. فلماذا تأكل الثورة ابنائها؟
ترى حنة أرندت في كتابها “في الثورة” أن السبب الرئيسي الذي يؤدي بالثورة لهذا المصير الدموي هو محاولة حل “المسألة الاجتماعية” قبل حسم بناء الحرية. ماذا يعني هذا الكلام؟
يعني أن الثوار غالبا بعد التحرر وعندما يرون بأعينهم البؤساء والفقر المستشري حولهم، تدفعهم شفقتهم التي تسيطر عليهم إلى حل مشكلة الفقر قبل أن تتم الثورة غايتها، أي بناء مؤسسات الحرية. أي أن مشهد الفقر المستشري حولهم يستولي عليهم فينسيهم توقهم الأصلي للحرية الذي دفعهم ابتداء للثورة فيبدؤون بمحاولة حل المسألة الاجتماعية. وبحسب أرندت، أن كل محاولة لحل مسألة الفقر قبل بناء الحرية تنتهي بالثورة لنهايتها المشؤومة. إذ أن حل مشكلة الفقر، يستلزم قرارت سريعة وحاسمة، وحكومة قوية، فيستنتج الثوار ضرورة وجود “دكتاتورية مؤقتة” تضع هذه الحلول لمشكلة الفقر ثم تمهد الطريق نحو الحرية، ومن هذه النقطة يبدأ مسلسل الدماء الذي يودي بالثورة لمصيرها المحتوم.
الثورة الوحيدة التي استطاعت أن تنجز “بناء الحرية” دون أن تعطل من مسيرتها مسألة الفقر هي- بحسب حنة أرندت- الثورة الأمريكية. وهذا يعود إلى أن العالم الجديد كان غنيا نوعا ما وأن الحكومة التي ثار عليها الأمريكيون لم تكن حكومة ملكية مطلقة، بل كانت ملكية دستورية. إلا أن السمة الأساسية التي قاد الثورة الأمريكية للنجاح هي أن أبناء المستعمرات كانو يمارسون الحكم لأكثر من قرن من الزمان قبل الثورة عبر مجالس الحكم في مستعمراتهم. وهذه المؤسسات التي يجتمع فيها أبناء المستعمرات للتحاور والنقاش من أجل اتخاذ القرارت كانت صمام الأمان الذي حمى الثورة الأمريكية من أن تنحرف للمصير المحتوم، إذ تم بناء الدستور أولا الذي منه انبثقت المؤسسات التي تحمي الحرية من كونجرس ومحكمة عليا وغيرها، والتي في داخلها بدأ المختلفون يتنافسون ويتصارعون كل من أجل تحقيق مصالحه وطموحاته.
وهذا بالضبط الذي جعل هذه الدولة تستطيع الاستمرار لقرنين من الزمان وتتوسع من ١٣ ولاية إلى خمسين. في حين تخبطت فرنسا ما بين جمهورية إلى ملكية، حتى وصلت الآن لجمهوريتها الخامسة.
وعلى الليبيين، أن يتعالو على جراحهم، وأن يتموا مسيرة الثورة إلى نهايتها وأن يؤجلوا حل المسائل الاجتماعية والدينية وغيرها إلى ما بعد بناء مؤسسات الحرية والدستور الذي ينظم العلاقات بين هذه المؤسسات.
٣- الليبيون قاموا بثورة، في حين أن المصريين والتونسيين لم يقوموا
إن ما قام به المصريين والتونسيين لم يؤد إلى إسقاط النظام السابق، بقدر ما أدى إلى أسقاط طغمة متحكمة به، ودفع النظام إلى أن يصلح نفسه بسرعة هائلة. فما زال الذي يتحكم بإدارة التحول الديمقراطي هو النظام السابق، أي أنه ما زال الذين يحكمون من مصر وتونس ينتمون للنظام السابق. أما في الحالة الليبية فقد تم اسقاط النظام بالكامل، من العلم إلى المستبد. والثوار هم من سيحكمون، وهم من سيبنون دولة المستقبل. ولهذا سيتحملون وحدهم ما سيحدث في هذه الفترة الحرجة التي تفصل التحرر عن بناء الحرية.
إن الثورة إن كانت تعني شيئا فهي تعني “البدء بشيء جديد”، ولكنها أيضا تعني البدء بشيء سيستمر. ففي فعل الثورة نفسه تتحد التقدمية مع المحافظة. وهذا اللي نقوله كتابة يستشعره الثوار بطريقة لا يجدون الكلمات التي تصف حالتهم إلا تشويها لها، لكن ما عليهم أن يتذكروه أن هذه التجربة الثرية التي تمتعوا بها عليهم ألا يحرموها أبنائهم، وأن يبنو دولة تستطيع استيعاب “القادمون الجدد” الذين لا توجد أي ضمانة بأنهم سيكونون مثلهم وسيحملون نفس الأفكار والرؤى التي يحملونها، وأن يعلموا جيدا أنهم ما قامو بثورتهم إلا لأن مستبدهم بنى دولة لم تستطع استيعابهم، فعليهم ألا يكرروا أخطاء من سبقهم فيكرر من سيخلفهم معاناتهم نفسها.
جميل, هذا ما كنت أفكر فيه حال سمعت خبر سقوط طرابلس في أيدي الثوار, أعني ماذا بعد النجاح العسكري في الاطالة بالنظام السابق. لكنني كنت أفكر من ثلاث نقاط -أو مخاوف- مختلفة نوعا ما أعتقد أنها تثير القلق:
الأول هو موضوع تدخل الناتو الذي بالطبع لن يكون خدمات مجانية قدمتها القوى الكبرى. قد يصح أن المسؤولية الأخلاقية للساسة أمام الرأي العام المحلي والدولي عنصر دفعت للتدخل, لكنه لا يكمن بحال من الأحوال أن تبنى السياسات الخارجية على أخلاقي معيار بحت, بل هي بالضرورة خاضعة لحسابات استراتيحية واقتصادية. إذا سلمنا بذلك فالسؤال إذا يكون: ما هي استحقاقات تدخل الناتو؟ كيف ستؤثر علاقته بالمجلس أو النخبة الجديدة على ليبيا المستقبل؟ هل من الممكن أن تسعى هذه القوى لدعم وتثبيت نخبة جديدة تضمن المصالحها المحتملة؟
هذا كلها أسئلة وجية تثير قلقا يبرره تاريخيا نموج علاقات القوى الرأسمالية مع الدول المستقلة حديثا حيث كانت هذه العلاقات -وماتزال-
أكبر عائق من عوائق التنمية والإصلاح السايسي والتدوال السلس للسلطة.
ثانيا : شؤم النفط. أعني إمتلاك الدولة لثروات طبيعية مع غياب الاقتصاد الانتاجي قد يساهم في خلق إقتصاد ريعي يركز القوة في يد النخبة السياسية ويمنح فرص أكبر لتكوين نخب إجتماعية مصمته ذات نفوذ مستقر تعطل التقدم في دمقرطة الدولة. قد لايكون ذلك في شكل نظام شمولي إنما بديمقراطية مشلولة. النقطة تحتاج أمثلة وتوضيح أكثر لكن هذا باختصار شديد.
الثالثة :أعتقد أن وعي الشعب الليبي المنعزل عن العالم لعقود والذي شوهت ثقافته بنظام تعليمي معتوه وإختفاء أي شكل من مؤسسات المجتمع المدني بل حتى غياب المؤسسات الحكومية في نظام القذافي العجيب قد يصعب كثيرا مهمة بناء نظام ناضج ; فقر التجربة تجعل مخاض ولادته طويل ومحفوف بمخاطر الإرتداد -وربما هذا ما أشرت أليه في أحد نقاطك.
هذه ليست نقاط مكتملة لكنها تفكير بصوت عالي كتبتها على عجالة .. وشكرا على المقالة المميز كعادتك
العفو يا سيدي وشاكر لك مشاركتك.
ما زلنا ننتظر ما ستسفر الأمور عنه في ليبيا.
مقال رائع وغير متوقع لأن الكثير انهالوا على الثورة الليبية تثبيطا وانتقاصا ، فكنت احسب ان الثورتين المصرية والتونسية هي الثورات الحقيقية بينما في ليبيا يجري العكس ، شكرا لك استاذنا سلطان لما تقدمه في هذه المدونة الرائعة من فكر نيَر
العفو يا باشا
سلطان مقال رائع واتمنى عودتك الى تويتر
شكرا يا محمد، تويتر ياكل الوقت، خن أخلص الشغلات المعلقة اللي عندي وأبشر بسعدك
سلطان لا جديد…..تتأمل المشهد بتأن…تعيد صياغة غير المفكر فيه..والمفكر فيه…تهندس الأفكار بمبضع النطاسي..
أتفهم كثيرا رؤيتك و نظرتك للثورة وكيف تتحول الى نوع من الديكتاتورية الناعمة…ومشهدنا العربي قبل خمسة عقود يشهد …
لكن..
ارى أن الباحث أغفل الصيرورة الانسانية التي نقلت الانسان خلال خمسين عاما الأخيرة نقلة ثقافية وعلمية جعلت هناك رفضا مجتمعيا عالميا وثقافيا لعودة العسكرتاريا والديكتاتورية مهما لبست من لبوس بسبب الوعي الانساني العمومي النوعي..
كما أن العالم يرفض رجوع الميديا للأبيض والسود بسبب التقدم البشري
كذلك المعرفي الانساني لن يسمح بما كان مسموحا به ب الخمسينيات وماقبلها وبعدها من القابلية للاستبداد..
سلطان يحرضنا للتفكير
لكن هو لا يشق له غبار…
ابتهاجي به ممتد…
يا هلا والله بابو العز،
هالمدايح ذي تخلي الواحد صعب إنه يناقش. لكن المقصد إنه بعد التحرر أي محاولة مسائل دينية أو اجتماعية أو اقتصادية، قبل إنشاء المؤسسات السياسية… ينتهي غالبا إلى عدم تأسيس مؤسسات الحرية.
اولا كيف تقول بأنه تم اسقاط النظام بالكامل و رئيس المجلس الوطني الانتقالي هو وزير العدل لنظام القذافي؟ وعدد من الاعضاء هم مسؤولين في النظام السابق؟ ….آل الشيـ* حقهم…..؟
ثانيا الاخبار تدل على ان الثوار لايختلفون في طريقة حكمهم عن النظام السابق , يعني قرأنا اخبار من منظمات حقوقية تتهمهم باعمال تعذيب وقتل للمدنيين.
ثالثا الثوار كما ذكرت جاءوا برعاية الناتو , والناتو عدو رئيسي لنهضة وحرية العرب والمسلمين , والي عنده نظرة بريئة في نوايا امريكا وفرنسا وبريطانيا يسأل الفلسطينيين والباكستانيين والجزائريين والافغان والعراقيين والايرانيين والتونسيين والمصريين….الخ اللستة طويلة جدا
بناء على النقاط الثلاث , يبدو ان النظام الجديد سيكون نفس القديم شكلا ومضمونا , يعني نظام متسلط وعميل , بدون تهريج القذافي.
نقطة خارج الموضوع , كثيرون سيرحبون بعودتك لتويتر ولو بعد حين , يعني امس اقرأ نقاش بين اثنين من مشاهير تويتر السعوديين , اتفقوا بنهاية حوارهم ان ازالة علم اسرائيل في مصر “عمل غير قانوني” ولا يصح في “دولة متحضرة” , طبعا طرشت , وقلت الله يذكرك بالخير.
هلا عمنا،
ههههههههههههههههههههه، كل ما قريت السطرين الأخيرات مت ضحك. الله يسلمك يا خلفهم.
النظام ليس أشخاص بل مؤسسات وشرعية، في مصر وتونس لم يتم إلغاء كافة مؤسسات النظام القديم ونقض دستوره وإنشاء دستور جديد يؤسس لمؤسسات جديدة، أي لم يحدث هذا الانقطاع في الزمان بين دستورين أو شرعيتين.
في ليبيا حدث هذا الأمر، ووجود أفراد من النظام القديم لا يعني بقاء النظام، إذ أن المؤسسات نفسها انهارت.
أما فيما يتعلق بالاستقلال السيادي لليبيا، فهذه مسألة أشاركك فيها الأمر، وأتوقع أنها ستكون الفتيل الذي سيشعل صراعا بين المجلس الانتقالي “المتغرب” والثوار “المتدينين”. عموما حتى الآن لا تزال الأمور غير واضحة.
وشكرا لك مجددا
عزيزي سلطان
حديثك أقرب للمنطق من حيث المبدأ، ولكن من حيث الواقع قد أجد هناك اختلافات بين الثورات العربية الاخيرة، بما أنك ذكرت بأن الثورة الليبية أسقطت نظام بالكامل، والمصرية والتونسية تقريباً أسقطت رموز النظام فقط، أقول بأن هناك فروقات أخرى حيث أن الأولى نجحت بدعم خارجي من الناتو وبعد الدول الخليجية، ومصر وتونس دعمها داخلي شعبي بحت، ترى على أي أساس سيقوم النظام الجديد، مصلحة الدول مع لييبا، مصلحة كبار المجلس الانتقالي مع الداعمين الخارجيين، ترى على ماذا ستصفو الأيام ؟ .. ننتظر ..
وحشتنا 🙂
ما يوحشكش غالي يا بعدي، أنت بعد لك وحشة
وانا معك بانتظر وش يصير عليه الموضوع..
آآآآآآآآآآآآآآآآ وحشتنا وحشتنااااااا ارجع لتويتر بللليز ! ولا لا ترجع .. الله يحفظك .. ويرعاك .. احبك في الله يا أخي
ممكن رابط الفيس بوك حقك ؟ 🙂
http://www.facebook.com/sal.amer#!/profile.php?id=1450187490
بس تراي منب أقبل اضافات من أشخاص ما اعرفهم… أو ما يكتبون بأسمائهم الصريحة.. فإذا سمحت إرسل رسالة عشان نتشرف بمعرفتك.
شكرا
مرحبا سلطان .. جميل كعادتك
سأعبر عن مافهمت بطريقة اخرى قد تناسب المهتمون بالالفاظ:
اسقاط حكم مستبد هو بداية الثورة وهو الجهاد الاصغر فيها ومرحلة قصيرة استغرقت بين اسابيع او شهور في تونس وليبيا ومصر اما المرحلة الاطول والاصعب في الثورات تأتي بعد اسقاط النظام وهي الجهاد الاكبر في الثورة وهو ترسيخ مبداء الحرية والعدالة في المجتمع وبناء نظام دولة يكفل الحفاظ على تلك المباديء.
شكرا سلطان وشكرا تويتر عرفتني على هذا العقل المستنير