عندما نقول «عصر النهضة» فهذا يعني الحقبة التي تواجد فيها شخصيات فكرية من أمثال رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي وطه وحسين وغيرهم. إن هذه التسمية مثيرة للاستغراب، وتكشف -كأفضل ما يكون الكشف- عن أزمة أساسية لدى مفكري هذه الحقبة.
فالذي يدعو إلى الاستغراب أن تلك الفترة هي الفترة التي تواطأ فيها الاستعمار والاستبداد على إجهاض محاولات العرب في تأسيس دول دستورية برلمانية (تجربة عرابي أجهضتها بريطانيا، وتجربة الملك فيصل في سورية أجهضتها فرنسا)، كما أنها الفترة التي انهارت فيها الإمبراطورية العثمانية، ووُزِّعت أراضيها العربية بين القوى الاستعمارية، وهي كذلك الفترة التي استولي فيها على ثروات هذه البلدان ومصادر رزقهم، وهي -أخيراً- الفترة التي قُسِّمت أراضيهم إلى دول متفرقة في خريطة لا تزال مستمرة إلى هذا اليوم. فكيف يطلق على هذا كله أنه «عصر النهضة»؟!
والمفارقة هي أن جواب هذا السؤال يكمن في أن هذه الأحداث هي بالتحديد سبب تسميتها بعصر النهضة. فالقصة تمضي بالشكل الآتي: أن هذه التطورات التي دمرت أركان العالم القديم كافة، طرحت على بعض شخصيات ذلك العصر سؤالاً ملحاً: لماذا نحن متأخرون؟ ولماذا غيرنا متقدمون؟ وكانت المحاولات المتعددة للإجابة عن هذا السؤال هي «النهضة»، التي مهدت فيما بعدُ للحركات والتيارات التي ستقود عملية التحرر والبناء والنهضة.
وبما أن الواقع الجديد كان بائساً قرر مفكرو ذلك العصر التعامل معه باعتباره واقعاً موقتاً، ومجرد نتيجة من نتائج عدم حسم مسألة التقدم النظرية الشديدة الأهمية، ومن ثم قرروا التغاضي عن الواقع والانصراف إلى التأمل في هذا السؤال، معتبرين أن حلّه يقتضي حلّ هذا الواقع.
وسؤال (التقدم والتأخر)، كان سؤالاً مهيمناً جداً على تلك الفترة، لدرجة أنه يمكن اعتبار الإجابة عنه محدِّداً رئيساً للأفكار والمفاهيم كافة، التي سيتبناها هذا المفكر وذاك. فجواب سؤال: «ما الحرية؟» يخضع بشكل كبير لموقف المفكر من سؤال التقدم. ولتوضيح هذه العلاقة بين الأمرين، سأضرب مثالاً بالمفكر أحمد لطفي السيد.
لطفي السيّد كان ضمن مجموعة المفكرين العلمانيين الأوائل، الذين كان جوابهم الرئيس لسؤال التقدم والتأخر هو الآتي: نحن متخلفون؛ لأننا ما زلنا متمسكين بالتراث العربي والإسلامي، وسنتقدم إذا تابعنا المتقدمين وحذونا حذوهم. وفي سبيل تحقيق هذا الانفصال عن التراث العربي وتسهيل اتباع الحضارة الغربية، نحتت هذه المدرسة الفكرية هويّة مصريّة جديدة، مبنية على الجذور الفرعونية ومعزولة عن فضائها العربي والإسلامي.
كيف أثَّر هذا الموقف في تصوّر لطفي السيّد للحريّة وتنظيره لها؟ لنتابع التقسيم الذي اقترحه للحريّة. فهو قد رأى أن هناك ثلاثة أنواع من الحريّة: حريّة طبيعية، وحريّة مدنية، وحريّة سياسية، وهذا التقسيم كان مهماً له؛ من أجل أن يكون متسقاً مع جوابه على مسألة التقدم.
فساسة الاستعمار كانوا يشككون في مقدرة المصريين على أن يكونوا مثل الغربيين، وكانوا يتبنون رؤية تقسِّم البشر إلى قسمين: قسم قابل للحريّة وقسم قابل للاستعباد. فجاء تأكيد لطفي على الحريّة الطبيعية، وعلى أن كل البشر متساوون في تمتعهم بالطبيعة الحرة؛ من أجل رفض هذا التقسيم ونسفه من أساسه.
بالمقابل كان المناصرون للحفاظ على التراث العربي والإسلامي يشاركون لطفي حرصه على الحريّة، لكنهم كانوا يصرون على أن هذه الحريّة يجب أن تكون مقيّدة، وأن تقييدها يجب أن يكون وفق ما يتناسب مع تراثنا الإسلامي وهويتنا العربيّة. وأمام هذا الرأي جاء تنظير لطفي السيد للحرية المدنية، والتي يعرفها بأنها: القدرة على فعل أمر ما أو ترك أمر آخر. فهو يقر أن هذا النوع من الحريّة يجب أن يكون مقيّداً، لكن القيد الذي يقترحه متسق تماماً مع الجواب الذي يتبناه لمسألة التقدم والتأخر. فالقيد الذي نادى به هو ألا يفرض على الحريّة من قيود سوى القيود التي يتم فرضها عليه في الأمم الغربيّة، انطلاقاً من رؤيّة تعتبر هذه الأمم أمماً متقدمة، يجب استلهام أنموذجها.
إن الحريّة المدنيّة بالنسبة إلى لطفي لم تكن مجرد وسيلة لغاية، بل كانت هي في نفسها غاية ثمينة يعني تحصيلها والتمتع بها تحقيق التقدم، فنحن نتقدم بقدر ما نتمتع من الحريّة الشخصية، ومعنى حياتنا وبشريتنا ينقص بنقصان حجم الحريّة المتاحة لنا. وكانت المشكلة التي يواجهها به منتقدوه هي الآتي: إن كانت الحريّة هي معنى التقدم، فلماذا نجد الأمم المتقدمة تحرم غيرها منه؟ لماذا نجده تستعمرنا وتستعبدنا على رغم حريتها؟
أمام هذا الاستشكال، طرح لطفي فرقاً جديداً بين أن تكون «حراً» وأن تكون «حريّاً»، فالحر هو من لا يخضع للاستعباد، أما (الحريّ) فهو من يطالب ويسعى لأن ينتشل غيره من الاستعباد والاستعمار. فالدول الغربية، وإن كانت حرة، ليست ذات حريّة، فهي تتمتع بحريتها المدنية، لكنها لا تدعو لتعميمها، ومن هنا يجب علينا نحن أن نسعى للحاق بها، وألا ننتظرها تأتي لتنتشلنا من تخلفنا.
يأتي المعنى الثالث للحريّة، أي الحريّة السياسية، ليشمل المشاركة في إدارة شؤون البلاد. وهو يبرر لهذا النوع من الحرية بشكل أداتي بحت، فهذه الحريّة ضرورية؛ لأنها مجرد «كفيلة» للحرية الشخصية، ولأنه لا يمكن حماية الأخيرة من دون الأولى. أي أن الديموقراطية بالنسبة إلى لطفي كانت الأداة المضمونة لحماية الحريات الشخصية، وأن هذه الأخيرة هي الغاية.
إنه لأمر مثير هذا الأثر المهيمن الذي تفرضه مسألة التقدم على مقاربة مفكري النهضة لبقية المفاهيم والآراء، وهو الأثر الضروري الذي تجب مراعاته عند تفحص أفكار هؤلاء، الذي من دونه يصبح فهم أفكارهم ومفاهيمهم غير مكتمل.