نجد هذه الأيام حضوراً طاغياً لاستخدام الثقافة من أجل تفسير الظواهر المتنوعة التي نعيشها في المنطقة. تزايد العنف، والحروب، والاضطرابات وكل ما يصاحب ذلك من رفع للشعارات الدينية المتنوعة، دفع بعض المعلقين إلى إرجاع هذه الظواهر إلى عوامل ثقافية بحتة.
فعندما تقوم الميليشيات الشيعية بقتل المدنيين السنة وحرق بيوتهم، يستنتج بعضهم أن المشكلة والمسؤولية في المذهب نفسه، أو تقوم ميليشيات سنية بالأعمال نفسها، فيخلص إلى أن المشكلة والمسؤولية في المذهب نفسه أو أحد تياراته. يتطور الأمر إلى مستوى متقدم من اختزال كل الصراع الإقليمي واعتباره مجرّد «صراع مذاهب»، أو حرباً دينيّةً تكرر ماضي أوروبا، وتحمل في داخلها وعداً بأنها ستنتهي إلى ما انتهت إليه أوروبا.
إلا أن هذا الطرح لا يختلف في سطحيته وبساطته شيئاً عن الطرح الذي كان سائداً في العقد الماضي عن «صراع الحضارات»، ولكن قبل الحديث عن هذا، يبدو أنه من الأفضل تتبع جذور هذا النوع من التفسيرات؛ إذ عادة ما يبدأ مع الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني ماكس ڤايبر.
في عام ١٩٠٥ نُشر كتاب «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، وفي هذا الكتاب تحدّى ڤايبر الأطروحات المادية التي تفسر ظهور الرأسمالية، مشيراً إلى أنها تشكلت في أماكن فقيرة نوعاً ما، أو أماكن بعيدة عن خطوط التجارة العالمية، أو في أماكن لم تكن الأغنى في وقتها. فإن كانت الرأسمالية نتيجة طبيعية لتطورات مادية في التجارة، كيف يمكن تفسير نشوئها وتشكلها في المناطق الأقل تعقيداً وفقراً؟
جاءت «الثقافة» جواباً على هذا السؤال، وتحديداً «الأخلاق البروتستانتية». فهذه المناطق الفقيرة وغير المعقدة التي تشكلت الرأسمالية فيها لا يجمعها إلا أنها كانت معقلاً من معاقل البروتستانتية. ويحوّل ڤايبر هذا الاقتران إلى علاقة سببية عبر التأكيد على الأهميّة الكبرى التي منحها المذهب البروتستانتي للعمل وإتقانه، جاعلاً من هذه الخصلة في المذهب هي المفسّر للتحوّل الذي شهدته التجارة من كونها جمعاً للمال من أجل إشباع رغبات وسد حاجات وشهوات، إلى جمع للمال من أجل جمع المال.
في هذا العمل، فهمت «الثقافة» باعتبارها مجموعة من القيم والآراء والعقائد يتم تناقله عبر الأجيال بواسطة التنشئة الاجتماعية، فهي تشابه الجينات البيولوجية في قوتها وتأثيرها في السلوك وكونها موروثة، وتختلف عنها في كونها قابلة للتغيّر والتبدل والتأثر بالمحيط الخارجي وإن كان هذا الأمر بطيئاً. ومن يصبح بالإمكان الحديث عن «المناطق البروتستانتية» من دون الالتفات للاختلافات الكثيرة بين أفرادها ومؤسساتها واقتصاداتها وتاريخها الاجتماعي والسياسي، فتشاركها لهذا المذهب كافٍ للتفسير. أي أنه يتحوّل في نهاية الأمر إلى طرح جوهراني حول الشعوب والأمم واختزالها في جانبها الثقافي. بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد أن تمت شيطنة كل الأطروحات التي تستخدم العرق لتفسير الفروقات بين البشر بعد الفضائع التي قامت بها النازية باسم العرق، تمت إعادة إحياء أطروحات ڤايبر وبث الروح فيها على يد عالم الاجتماع الأميركي تالكوت پارسونز، وأصبح مصطلح «الثقافة» هو المصطلح السحري الذي يمكن من خلاله تفسير الفروقات التي لا يمكن تفسيرها بالماديّات.
وأحد الأمثلة على ذلك كتاب عالم السياسة مانفيلد والمعنون بـ«الأساس الأخلاقي للمجتمعات المتخلفة»، إذ درس قرية إيطالية جنوبية، محاولاً تفسير سلبيتها في التعاطي مع الشأن العام وانعزالها عنه، مرجعاً ذلك إلى شيء في أخلاقها يجعلهم منأسرين في محيطهم الأسري ولا يعتبرون أن هناك ما يستحق العمل من أجله والبذل من أجله خارج إطار الأسرة.
تطوّر استخدام «الثقافة» ليصل إلى قمته مع صامويل هنتنغتون في كتابه «صراع الحضارات»، إذ اعتبر أن الصراعات القادمة سيكون محركها التمايز الثقافي بين الحضارات، وبشكل أكثر تحديداً التمايز الديني، باعتبار الدين هو العنصر الأكثر أهمية في الثقافة.
هذا التوجه بكامله يعاني من عدد من المشكلات. أكثرها أهميّة، هو الطريقة التي يتم تصوّر بها الثقافة باعتبارها قيم وقناعات وتوجهات وآراء مفصولة عن السلوك وتقوده وتؤثر فيه. ذلك أن مثل هذه القناعات لا يمكن قياسها، كما أن العلاقة بينها وبين السلوك أكثر تعقيداً من هذا التصوّر السطحي المباشر، وأخيراً أنه تصوّر يخلط بشكل مستمر بين الاقتران والسببية.
هذه المشكلات النظرية التي يعاني منها هذا التوجه، لم يمنعه من أن ينتشر ليس فقط في الأوساط الأكاديمية، بل في الأوساط الصحافية والثقافية العامة، إذ أصبح مهيمناً؛ لبساطته في تفسير كل شيء من حولنا.
وأمام هذا السيل الجارف من تبني أطروحة «صراع المذاهب» يجب التأكيد على أن الصراع السياسي هو صراع على السلطة، وأن مسؤولية الأعمال تنسب إلى الحركات والتنظيمات والميليشيات والدول والأشخاص، ولا تنسب إلى أفكار ومذاهب وتيارات. أي عندما يقوم نظام بشار الأسد بارتكاب مجزرة، فالمسؤول عنها هو نظام بشار الأسد، وأي نقل للمسؤولية للعلويين أو للشيعة، إنما هو في جوهره تبرئة لنظام الأسد قبل أي شيء آخر.
وأخيراً، يجب التأكيد على أن هناك دوماً فرق بين دافع العمل وبين تبريره، وأن الأخير هذا – في السياسة- غالباً ما يكون كاذباً من أجل حشد الناس وإقناعهم وكسب ولائهم.