في الأيام الماضية، شنّ تنظيم داعش عمليتين في المنطقة الشرقية، استهدفت الأولى مسجداً في بلدة القديح في القطيف، أما الثانية فأحبطها الأبطال عبدالجليل ومحمد الأربش ومحمد بن حسن بن عيسى قبل أن تصل إلى مسجد آخر في حيّ العنود في الدمام.
العمليتان تتبعان الأسلوب نفسه، الذي يتبعه «داعش» في أماكن انتشاره: السعي أولاً لإسقاط هيبة الدولة وقدرتها على حفظ الأمن وحماية أرواح الناس، وخلق حال من الاستقطاب على أساس طائفي بين المكونات الداخلية، وعبر هاتين الخطوتين تتشكل بيئة مناسبة لهذا التنظيم في أن يتدخل؛ لكي يطرح نفسه حامياً للسنة ضد أعدائها من المذاهب الأخرى.
اختلفت ردود الفعل إزاء هذه العمليات، فإلى جانب الكثرة التي حاولت أن تحمّل «التحريض الطائفي» جانباً كبيراً من مسؤولية العمل، كان هناك أولئك الذين يتفننون في لعبة «من المستفيد؟» من كل حدث، مستنتجين وقوف إيران خلف هذه الأحداث، بل خلف تنظيم داعش بأكمله. إذ تمضي الحجّة كالآتي: إن استهداف المملكة في هذا الوقت الحرج لا يفيد إلا إيران وأدواتها الطائفية في المنطقة، وعبر تبني سرديّة قوات الجيش الحر في سورية التي تحاول تقديم داعش؛ باعتباره عميلاً للنظام السوري، تجد هذه الحجّة الكثير من الأدلة على أن هذا التنظيم ليس إلا «بعبعاً»، خلقته إيران من أجل حماية تحالفاتها ومصالحها في المنطقة.
إضافة إلى العداء الوجودي مع الكيان الصهيوني، يجد العرب أنفسهم اليوم في حال صراع مع كل من إيران وتنظيم داعش، ولئن كان الصراع مع العدو الصهيوني واضحاً؛ باعتباره صراعاً مع محتل للأرض لا جدال حول شرعيّة مقاومته، فإن الصراع مع إيران و«داعش» يأخذ طبيعة مختلفة، ومن الضروري فهم طبيعة العلاقة بين هذين الكيانين، إذ من دون هذا الفهم الدقيق ستصبح كل المعالجات التي نتقدم بها بلا قيمة، بل قد تكون مضرة.
يمكن نقض الحجّة القائلة بأن «داعش» حليفةً لإيران بطريقتين: لنبدأ من سورية، فداعش هناك ينظر إلى نفسه باعتباره دولة قائمة. وهو بهذا التصوّر يختلف جوهريّا عن كل الكتائب العسكرية في سورية، التي ترى أن واجبها يكمن في انتزاع السلطة من النظام السوري. وهذا الفرق في التصوّر بين طبيعة عمل هذين الفريقين ينتج فرقاً في الأولويات والأهداف؛ فلئن كانت الأولوية لدى الكتائب الثورية السورية هو إسقاط نظام الأسد، فإن الأولوية لدى «داعش» هو مد نفوذ الدولة، وستختار الاتجاه الأسهل والأقل كلفة وضد الجهة التي تنافسها أكثر في تمثيل السنّة، لهذا يكون هذا التنظيم حريصاً على قتال هذه الكتائب أكثر من حرصه على قتال النظام؛ ليس لأنه عميل له، بل لأن تصوره عن نفسه كدولة يجعل من قتال الثوّار أولوية أكثر من قتال النظام.
بالنسبة إلى «داعش»، لو لم يتبق في الساحة إلا النظام السوري، فإنه يتصور أن كل السنة سيجدون فيه خياراً أفضل من النظام، ومن ثم تكون الأولوية قتال من ينافسه على تمثيل السنة. وبالنسبة إلى النظام السوري فهو يعلم أنه إذا لم يتبق في الساحة إلا «داعش»، فإن كل العالم سيفضله ويدعمه، ولهذا فإن مصدر التهديد الرئيس بالنسبة إليه هو الكتائب التي يصنفها العالم بأنها «معتدلة»، فهذه هي التي تقدم نفسها خَيَاراً أفضل للعالم، ومن ثم فإن الأولوية تقضي بإزالتها قبل «داعش»، ولاسيما أن التحالف الدولي يقصف هذه الأخيرة ليل نهار. فما يبدو أنه تواطؤ أو تحالف، إنما هو في حقيقة الأمر تماثل أولويات، فبطريقتين مختلفتين توصَّل النظام و«داعش» إلى أن أولوياتهما تكمن في قتال الكتائب، وهذه النتيجة لم تمنع وجود قتال بين الطرفين.
لننتقل إلى العراق الآن، فهنا يتجلى كيف أن الحجة التي تقول إن «داعش» حليف لإيران متهافتة، فالقتال هنا يتم -تحديداً- بين الكتائب الشيعية المدعومة من إيران وبين «داعش»، والقتال هنا ليس قتالاً عادياً، بل قتال شرس جديد زُهقت فيه أرواح المئات.
هل هذا يعني أنه لا رابط بين إيران و«داعش»؟ الجواب: بلى، والرابط هنا هو تقصير الدول العربية في أداء دورها. فإيران و«داعش» ما كان لهما أن يحظيا بما يحظيان به من نفوذ لو أن الدول العربية قامت بواجباتها تجاه أمتها وشعوبها، وهي الواجبات التي تتضمن الدفاع عن قضية فلسطين، ودعم القوى الثورية ضد الاستبداد، وإجراء الإصلاحات الضرورية نحو مزيد من الحريّة والعدالة. من دون تبني هذه السياسات، سيستمر «داعش» وإيران في استغلال الفراغ الذي يخلفه غياب الدولة العربية، والتنوع المذهبي من أجل تقديم أنفسهم مدافعين عن هذه الطائفة أو تلك، ومتبنين قضايا العرب الرئيسة.
إن الاعتداءات التي حدثت في المنطقة الشرقية لا يمكن فهمها من دون النظر إلى ما يحدث في المنطقة ككل، وإن الخطوة الأولى لمنع تكرارها وحماية الأوطان منها، هو بأن تتعاون الدول العربية بالقيام بالدور الإقليمي المطلوب منها، وإجراء الإصلاحات الضرورية التي تمنع وجود أي منفذ أمام القوى الأجنبية؛ لممارسة أي نوع من الهيمنة على الدول العربية.
فكما أن هذه الاعتداءات دفعت بالكثيرين نحو الالتفاف حول الرابطة الوطنيّة باعتبارها طوق النجاة، أمام محاولة تسييس الفروقات المذهبية، فإنها يجب أن تدفعهم إلى الالتفاف حول الرابطة القومية، وتأدية الدور الضروري؛ لإيقاف هذه الحروب بالشكل المنحاز للطرف الذي يحمل مشروعاً يتجاوز خياري «داعش» واستبداد النظام السوري.