عندما نسأل هذا السؤال، فعلينا أن نتفادى سوء فهم مبدئي متوقع، وهو التفريق بين “الكفر” و “التكفير”. فكل دين له مؤمنين وكفار. لا أحد يستطيع إنكار ذلك، فعندما بُعث الرسول آمن به أبو بكر وكفر به أبو لهب الذي أخبر الله أنه “سيصلى نارا ذات لهب”، وهو لن يفعل ذلك إلا لأنه كفر. وانطلاقا من هذا التوضيح نطرح مسألة التكفير كالتالي: إذا كان أمامنا رجل يقول: “أنا مسلم”، فهل يستطيع أحد، مهما بدر من ذلك الرجل من قول أو عمل، أن يحكم عليه بأنه ليس مسلما؟ بمعنى آخر: هل يستطيع أحد أن يكفر رجلا يقول أنا مسلم تحت أي مبرر؟
تأتي الإجابة السائدة على هذا السؤال كالتالي: صحيح أن وصف الإسلام يثبت للفرد بمجرد إقراره بذلك، لكن لهذا الإقرار مقتضيات يلزم تحقيقها. وأنه إن لم يحققها فإنه يكفر، وتكفيره لا يكون إلا بعد التأكد من تحقق الشروط وانتفاء الموانع.
ونلاحظ على هذه الإجابة أنها عند حديثها عن فعل التكفير تركز على “مفعوله”، أي الفرد الذي سيتم تكفيره، وكيفية استحقاقه لهذا الفعل. تفعل هذا في الوقت الذي تكتفي فيه بالإشارة إلى هوية “الفاعل”، بأنه ولي الأمر أو القاضي أو العالم المتمكن. وهي إذ تصرح بهذه الإشارة، فإنها تسكت عن مصدر هذه الصلاحية المخولة لهذا الفاعل بأن يمارس فعل التكفير. بمعنى آخر، هي لا تجيب عن هذا السؤال: من أين للعالم أو القاضي الحق بأن يحكم على شخص يدعي الإسلام بالكفر؟
لا تخلو الإجابة على هذا السؤال من أمرين اثنين، الأول هو الانتماء لمؤسسة دينية، تتبنى تفسيرا ثابتا للإسلام. والثاني هو الجزم بأن هذا التفسير مطابق تماما لما جاء به الرسول. وانطلاقا من هذين الأمرين، يصبح أي عالم أو قاضي منتم لهذه المؤسسة الدينية، ضليعا في التفسير الذي تتبناه، الذي قلنا أنه مقطوع بصحة مطابقته لما كان عليه الرسول؛ يصبح هذا العالم مخول للحكم على الأعيان بالانتماء أو لا لهذه المؤسسة، التي ليست شيئا سوى الإسلام نفسه.
والمتأمل لنصوص القرآن يرى بوضوح أن الإسلام يحارب بشدة المؤسسات الدينية وطبقة رجال الدين الذين يحتكرون التفسير الديني وينطقون باسم الله على الأرض. فالله يقول: “اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله”. وقال عن الذين يحتكرون تأويل الكتاب ويتكسبون من هذا التأويل: “فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون”. ووصف الله طبقة رجال الدين هذه بقوله: “يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الاحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم”. وقد يظن البعض أن التشنيع جاءهم لأنهم جعلوا أنفسهم وسائط بين الناس والله، ونحن نزيد على ذلك فنقول: ولأنهم جعلوا أنفسهم وسائط بين الناس وكتابهم فاحتكروا الفهم والتفسير وصدوا الناس عن التدبر والتفكر في آيات الله.
والجميع يتفق على أن الإسلام لا يوجد فيه كهنوت أو طبقة رجال الدين. وعلى الرغم من ذلك لا يخلو مذهب إسلامي من طبقة تحتكر التفسير الديني إما بدعوى سد باب الاجتهاد، أو حصر الاجتهاد في فئة معينة، أو اشتراط شروط مستحيلة للاجتهاد، كل هذا من أجل إبقاء الفرد في خانة التقليد والترديد ومجرد التلقي، وإبعاده تماما عن النظر والتدبر الذي جاءت الآيات الكثيرة بالحث عليه والمطالبة به.
وبعد اعادة الاعتبار إلى هذا كله، نستطيع أن نفهم التكفير لا على أنه إخراج للفرد من دائرة الإسلام، بقدر ما هو إخراج للفرد من مؤسسة تتبنى تفسيرا ما للإسلام تزعم أن هذا التفسير هو تفسير مطابق تماما لحقيقة الإسلام. وهنا، في هذا السياق، تتحول قضية التكفير من قضية عقدية إلى قضية اجتماعية-سياسية، تسعى من خلالها المؤسسة الدينية للحفاظ على تجانس المجتمع وهويته بمحاربة أي نزعة لمخالفة ما تتبناه من تفسير للدين.
والآن، لنتسائل من جديد: هل هذا يعني أنه لا وجود للتكفير في الإسلام؟ والجواب: بلا يوجد، ولكن فقط لمن يستطيع أن يثبت لنا أن التفسير الذي يتبناه للإسلام مطابق لما جاء به النبي مطابقة تامة. هل مثل هذا التفسير موجود؟ جوابي أنا: أنه لا، وكل المذاهب الموجودة إنما تعتمد في أصولها على أدلة وتحيزات مبنية على غلبة الظن لا على اليقين التام.
ولهذا أقول أن التكفير موجود بشكل نظري تجريدي، ولكن عمليا لا يوجد مسلم مخول على إطلاق هذا الحكم على آخر يدعي الإسلام، وذلك لأنه ببساطة لا يستطيع الجزم أن الصورة التي يتصور بها الإسلام هي مطابقة لتلك التي أرسل بها الرسول.
ما أطرحه هنا، لن يعجب أولئك المنتمين لمؤسسات دينية تسعى للدفاع عن سلطة تصوراتها بسلاح التكفير، ولكنه سيعجب أولئك المؤمنين الذين إذا اطلعوا على رؤية أخرى للإسلام مخالفة لهم، قالوا: هذه رؤية للدين تختلف عن رؤيتنا، دون أن يتكلفوا عناء التنقيب عن قلوب الآخرين!
مقال قيم .. احسنت ثم احسنت ي سلطان
اتفق معك .