النفي الإجتماعي

(…فيجب أن يحاكم ليرجع عن ذلك. فإن تابَ ورجع، وإلا وجب قتله مرتداً عن دين الإسلام، فلا يغسَّل ولا يكفَّن ، ولا يصلى عليه، ولا يرثه المسلمون). بهذه الكلمات –أو لنقل: الرصاصات- أجاب الشيخ عبدالرحمن البراك من استفتاه حول رأيه في مقالة كل من يوسف أبا الخيل عن “الآخر في ميزان الإسلام” وعبد الله بن بجاد عن “اسلام النص واسلام الصراع!”.يمكن إدراج هذه الفتوى تحت ظاهرة اجتماعية ملازمة للمجتمعات المغلقة، أو المسكونة بهاجس الهوية والمحافظة عليها. ظاهرة نسميها “النفي الاجتماعي”، تمارسها مؤسسة اجتماعية أو أحد ممثليها من أصحاب “رأس المال المعنوي” والمدافعين عن ما يتم تثبيته أنه “الأصل” و”الهوية”، اتجاه أحد أفراد المجتمع نتيجة سلوكه مسلكا يصادم فيه أو حتى يخالف هوية هذا المجتمع. وتتعدد مراحل هذا النفي، فقد يكون نفيا أفقيا يكتفي باستبعاد هذا المنفي أو تجريده من كل قيمة اجتماعية وخلق حواجز بينه وبين أفراد المجتمع عبر إدراجه تحت بند “المارقين عليه”. وهذا المروق، قد تتعدد أسماءه من نفاق، وزندقة، وابتداع، وهرطقة، ولبرلة، وعلمنة…إلخ. وينتهي هذا النوع من النفي إلى عزل هذا المنفي اجتماعيا، تماما كما كان العرب الأوائل يفعلون مع الإبل “المطلي به القار”. أما النوع الأخطر من هذا النفي فهو النفي العمودي، أي السعي لإلغاء وجود هذا المنفي في المجتمع، سواء بسجنه أو إحراق كتبه أو طرده أو –وهذا الأشد خطرا- تصفيته جسديا!
وأحكام النفي هذه تصدر كما ذكرنا من مؤسسات أو شخصيات ذات قيمة اجتماعية ووجاهية عالية، مما يعني أنها غير محكومة بضوابط وغير قابلة للاستئناف، وتعتمد في حدتها وشدتها على عوامل عدة، من أهمها وأشدها مدى تعصب القاضي ومدى تقييمه لحجم “المروق” في سلوك المنفي.
نستطيع ذكر العديد من الأمثلة لهذا النفي منذ مطلع النهضة العربية المصرية الحديثة. يكاد يكون أولها قرار علماء الأزهر طرد علي عبد الرزاق منه بعد كتابه “الإسلام وأصول الحكم”. وكذلك ما تعرض له طه حسين عندما كتب “في الشعر الجاهلي”، مما اضطره لإعدام بعض الأجزاء المارقة في الطبعات التالية. ومنها تلك المحاكمة التي تعرض لها خالد محمد خالد بعد تأليفه لكتاب “من هنا نبدأ”. هذه الحالات قد تعتبر أمثلة على النفي الافقي الذي ينتهي بعزل الفرد عن المجتمع.
لكن، ونتيجة لظروف متنوعة، تحول النفي إلى نفي عمودي حاد… ابتدأ بفتاوى التكفير والحكم بالردة التي طالت الكثير من المفكرين والادباء، التي تكاد تكون فتوى الخميني ومجمع الفقه التابع لرابطة العالم الإسلامي عام 1989 بحق سلمان رشدي مؤلف رواية “آيات شيطانية” أهمها، إن لم تكن أولها. وإن كان سلمان رشدي قد نجا من الموت، فإن عددا لا يستهان به من مترجمي روايته قد تمت تصفيتهم. وإن كانت بريطانيا قد حمت حق رشدي بالتعبير عن رأيه، فهذا ما لم تستطع مصر أن توفره لفرج فودة الذي اغتيل بعد اهدار دمه في اشهر عملية تصفية لمفكر كان كل ذنبه أن عبر عن أفكار اعتبرها المدافعين عن المجتمع “مارقة”. وهو نفس الأمر الذي لم تستطع مصر توفيره أيضا لنجيب محفوظ الذي كاد أن يموت نتيجة محاولة اغتياله الشهيرة، واكتفى جسده بتحمل طعنة تحولت لعلامة جسدية تذكره دوما بموقف مجتمعه المغلق اتجاهه. وتتجدد هذه الفتاوى في الأعوام الأخيرة، ولعل أهمها على المستوى العربي قضية تكفير نصر حامد أبو زيد والتفريق بينه وبين زوجته، مما اضطره للفرار إلى مجتمعات أخرى مفتوحة.
في الداخل سنجد حضور النفي الأفقي سباقا، وذلك بعيد توحيد المملكة العربية السعودية، عندما تم العزل الاجتماعي لكل من محمد سرور الصبان ومحمد حسن عواد وحمزة شحاته. ويتلو ذلك الحكم بالردة ومحاولة تطبيقها على عبد الله القصيمي بعد كتابته لـ “هذه هي الاغلال”، في عملية تحول من النفي الافقي للعمودي. وبعدها يبدأ النفي الاجتماعي بالتنقل بين هذاوذاك، فتارة يكتفى بالاشارة الى مروق المفكر أو الاديب كحالة غازي القصيبي، وأخرى يشدد على ردته وكفره كما حدث لتركي الحمد. ومنذ 11 سبتمبر، وما تعرضت له البلاد من أعمال إرهابية تنطلق من مقولات تكفيرية، أصبح النفي العمودي شبه مختفيا… فتم الاكتفاء بالتأفف من رواية “بنات الرياض” لرجاء الصانع، والإنكار على حلقات من “طاش ما طاش”، والتأزم إزاء آراء منصور النقيدان في برنامج إضاءات.
لكن ما قام به الشيخ البراك، يعتبر عودة جديدة للنفي العمودي للفرد، ودعوة صريحة لإلغاء وجوده، حتى وإن حاول البعض التعذر بقضية أن التكفير جاء “عاما” ولم يأتِ “معينا”، فالذي قتل فرج فودة وطعن نجيب محفوظ لم يتحل بذاك الضمير الذي يجبره على تحري الدقة في تعيين التكفير!
ما أريد قوله… أن هذه الفتوى ليست مجرد أزمة شخصية لكاتب قد تنتهي به إلى فقدان حياته، بل تمثل أزمة عامة تشمل المجتمع وفكره بأكمله، وتضعه أمام عجزه وتبرمه إزاء تقبل التنوع والاختلاف، رغم ترديده اللامتناهي بأن الاختلاف سنة وناموس. بصيغة أخرى: كل ما قام به ابا الخيل وبن بجاد هو الكتابة… هو التفكير: فهل هذا جرم ضخم يستحقان به التكفير وإهدار الدم؟! هذا السؤال طرح بشكل مكثف بعد اغتيال فرج فودة، وأثير حوله نقاش مطول، سنحاول استعادته في الاسبوع القادم.

اترك تعليقاً