متناقضة المدنيّة … و “وظائف” الإنسان

“إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها”

الرسول محمد

يقول السكران أن ما يسميه “الاتجاه المدني” : ” يرى أن وظيفة خلق الإنسان هي “العمارة” وكل ما سوى ذلك وسيلة لها، فالوحي والشرائع والعبادات إنما هي وسائل لتحقيق العمارة والحضارة والمدنية، فالعمارة هي الغاية الجوهرية والأولوية الرئيسية للإنسان، وانبنى على ذلك أن اشتغل هذا الخطاب بقضيّة التمدن وتوجيه كافة المعطيات الاخرى إليها والتسامح في كل ما سواها، ومن ثم تقييم المجتمعات والثقافات والشخصيات بحسب منزلتها في هذه “المدنيّة” الدنيوية”(ص17). وفي تعريف “العمارة” و “المدنية” و”الحضارة” ، يقول السكران : ” و”المدنية” بحسب هذا الاتجاه مفهوم شامل يدخل فيها كل ما يدفع باتجاه تحقيق الرفاه البشري وسعادة الجنس الإنساني في كافة ميادين الحياة الدنيوية، والتقدم في العلوم الفلسفية والإنسانية والطبيعية والفنون ، ونحوها”(ص17).

وبكلمة واحدة نستطيع أن نقول أن الاتجاه المدني يرى أن غاية وجود الإنسان هي “المدنية”، والمدنية هي كل ما من شانه تحقيق الرفاه البشري وسعادة الجنس الإنساني. حسنا، ومن هذا التعريف نفسه ، لنضع هذا السؤال : هل “العبوديّة” – التي يفترض فيها أن تكون غاية الاتجاه المناقض للاتجاه المدني – يمكن أن تكون مدنيّة؟ حتى نجيب على هذا السؤال لا بد من تجزيئه إلى سؤالين : هل العبوديّة تحقق “الرفاه البشري”؟ و هل تحقق “سعادة الجنس الإنساني”؟

حتى نجيب على السؤال الاول لابد أن نذكر، أن السكران يخبرنا، أن الله بعث الرسل وأنزل الكتب لتحقيق العبوديّة. ومن هنا ، من قصص الأنبياء أنفسهم، علينا أن نجيب على هذا السؤال: هل ضمنوا الرفاه البشري – الذي هو رغد الخصب ولين العيش – لأقوامهم كنتيجة للعبوديّة ؟

في القرآن ، سنجد نبي الله نوح يناجي ربّه واصفا كيفية دعوته لقومه قائلا: “فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم باموال وبنين ويجعل لكم جنّات ويجعل لكم انهارا”. وكذلك ، نجد النبيّ عاد يقول لقومه : “ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوّة إلى قوّتكم”. بل إن سيرة الرسول محمد تدلل على هذا المعنى كثيرا، يقول الله في مطلع سورة هود : ” ألر ، كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ، ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير، وان استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى”. وكذلك كان الرسول يعد المؤمنين بكنوز كسرى وقيصر، وكان يطلب من قومه كلمة تدين لهم بها العرب والعجم ، بل إنه كان يؤكّد هذا المعنى في أحلك الظروف وأشدها كيوم الخندق وغيره.و أيضا : من منا لا يعلم قصة سراقة بن مالك الذي وعد بسواري كسرى؟!

هذا بخصوص الرفاه، لنتحوّل الآن “لسعادة الجنس الانساني” ولنتسائل : هل العبودية – كغاية – تكفل تحقيق سعادة الجنس البشري ؟ لا أظن أن هذا السؤال يحتاج لكثير عناء في الإجابة عليه، فالرسول مبعوث “رحمةً للعالمين”، وهو مبعوث – كما يؤكّد السكران كثيرا – لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، والله إنما أرسل الرسل ليدلوا الناس على الفوز العظيم. فأي معنى للسعادة في الدنيا والآخرة إن لم يكن هذا النور وهذا الفوز؟ بل إنه يكفي لتقرير كون العبوديّة ضمنت سعادة البشر، أن نذكّر أن نفي ذلك يقضي أنها- أي العبوديّة- تفضي إلى تعاستهم، ولا يقول مؤمن بذلك !

وهكذا، ومن فم السكران، تصبح العبوديّة مندرجة تحت مفهوم المدنيّة، في حين أنه كان يطرحهما – أي العبودية والمدنية – كاجابتين مختلفتين على سؤال وظيفة الإنسان !

هنا نحن امام متناقضة: فالغايتين اللتين يعتمدهما الاتجاهان الرئيسيان – كما يدّعي السكران- في الإجابة على سؤال “وظيفة الإنسان”، هما غايتين تتضمن إحداهما الأخرى. بمعنى آخر أن الاجابتين المختلفتين : إجابة واحدة، أو على الأقل أن الاجابتين : تتضمن إحداهما الأخرى. طبعا هذا الكلام يهدم كل البناء الذي يقيمه السكران، فهو يركّز تركيزا أساسيا على التفريق بين المدنيّة والعبودية ، بوصفهما مفهومين مختلفين، ومن ثم يطرح إشكاليّة الأولوية : هل المدنية تابع للعبودية أم العبودية تابع للمدنيّة؟

نحن الآن امام أمرين : إما أن السكران يخلط بين أمور واضحة جدا، أو أننا لم نفهمه. والحقيقة أنه لا هذا ولا ذاك. فالسكران عندما يطلق مقولات كـ”الرفاه البشري” و “سعادة الجنس البشري”، فهو لا يطلقها إطلاقا تاما .. وإنما ينطلق في تقريرها مما يمكن تسميته بـ “التحكمّات المفهوميّة”. فهو مثلا يتحكّم في حصر مفهوم “العمارة” بالمنشآت الماديّة والمنجزات الحضارية، ويتحكّم في حصر الرفاه البشري بقنطرته المدنيّة ، ويتحكّم في حصر معنى “سعادة الجنس البشري” بالسعادة الدنيوية فقط. وبهذا الحصر فقط، يتأتى له أن يقابل بين “المدنيّة” والعبوديّة.

هذا بخصوص التفريق التحكّمي بين المدنية والعبودية، أما بخصوص وجود خطاب يتغيّا الحضارة، فهنا نؤكّد على ما قرره نوّاف القديمي وهو أن كون “الحضارة” وسيلة ، يكاد يكون “اجماع بشري” (1). وما اجمله نوّاف القديمي ، سأتوسع فيه هنا .. فأنا لا أجزم أني أعرف الكثير، ولكن من هذا الذي أعرفه لم أتعرف يوما على بشر سعى على الأرض “يتحضّر” فقط لأنه يريد أن “يتحضّر”.

وهنا الاشكاليّة كلها، وهي تدور حول وضوح مفهوم الحضارة: ماذا نقصد بالحضارة ؟ في الحقيقة هناك عدة تعريفات للحضارة، وهي على كلّ مفهوم مستحدث في قاموسنا العربيّ ومستقدم من القاموس الغربي ويكاد اقصى مقاربة له في تراثنا هو مفهوم “العمران” عند ابن خلدون. وبحسب الغرب هناك عدة مدلولات لهذه المفردة، فهناك المفهوم الأنثروبولوجي الذي يحيل إلى كلّ تجمع بشري يحظى بدرجة من التنظيم باعتباره حضارة، وبهذا المعنى تصبح الحضارة كاللغة والدين خاصيّة من خواصّ الإنسان، فكل البشر الذين عرفناهم ونعرفهم لم يوجدوا إلا في مجتمع ذا درجة تنظيميّة: قبيلة ، عشيرة ، مدينة ، امبراطورية .. إلخ. وبهذا المعنى لا يمكن أن تكون الحضارة مطلبا أو غاية، لأنها “سمة” أو خاصية بشرية كاللغة والدين. وهناك معنى آخر للتحضر، ياتي كنقيض للتخلف، وهو هنا لا يأتي كغاية أو مطلب .. وإنما كمفهوم كليّ لكل ما يحقق “نقلة” لتجمع بشري ما من حالة يسميها “تخلفا” لا تلبي احتياجاته ولا يحقق فيها ذاته، إلى حالة أخرى هي “الحضارة”، حيث يشعر فيها بالرضى وبتحقيق هويته وتلبية احتياجاته. هذه النقلة يتوسلها الإنسان لتحقيق قيم متعددة، ولكن ليس من بينها أبدا النقلة لمجرد النقلة.وكما قلنا لا أحد يسعى للتحضّر فقط لأنه “تحضّر”، إلا في حالة واحدة فقط، إن كان يندرج ضمن لفظة “التحضر” كل الغايات التي ستحققها “نقلة التحضّر”. وفعلا، فالحضارة تطلق على مجموع الوسائل التي يتم من خلالها التخلص من التخلف، وتطلق على القيم المراد بلوغها عبر هذه الوسائل، وهي هنا بهذا المعنى الأخير تستخدم استخداما مجازيا، يحيل لقيم أخرى بالضرورة.

ونستطيع ان نقول أن السكران لا يقول أن جميع هذا “الخطاب المدني” يتغيّا الحضارة عن وعي، وإنما يتغياها بطريقة لا واعية، بحيث لا يمكن فهم انحيازاته وتفسيراته لما حوله إلا عبر نموذج تكون الحضارة هي القيمة المركزيّة فيه. وهنا نعود فنقول، أنه حتى هذا النموذج نموذج فاسد ، ليس بالنسبة لنا فقط ، بل حتى بالنسبة للسكران… إذ أن “الحضارة” في “مآلاته”، ستنحل لتتشكل كقوى ماديّة تارة ودنيوية تارة، وستصبح كل شيء عدا كونها “حضارة” .. بالمعنى الذي ذكرناه.

هذا ما يتعلق الحضارة، لننتقل الآن للعبوديّة … ولنتساءل هذا السؤال: هل “العبوديّة” مطلب من الإنسان أم “طبيعة” ؟ بمعنى هل الإنسان – حسب القرآن : “عبد” بالاختيار أم بالطبع ؟

كما قلنا سابقا أن الحضارة ترد بمعنيين، وكذلك العبوديّة تكون “تكليفيّة” و “تكوينية”. فكما أن كل إنسان وجدناه كان يعيش ضمن تجمع ذا درجة تنظيمية سميناه “حضارة”، وكما أن كل إنسان عرفناه كان “ناطقا”، فكذلك كل إنسان عرفناه هو كائن “ديني”، ولأن كلمة “دين” تأثرت بالتصوّر الغربي للدين، نقول أن كل إنسان هو “عبد” بالضرورة. ويصور فراس السواح ظاهرة التديّن عند الإنسان بأنها ” أهم ظاهرة ميزت تلك الجماعات الاولى بعد صناعة الادوات. إن أول ما انفرد به الإنسان عن غيره من جماعات الرئيسيات العليا هو تشكيل الادوات الحجريّة بواسطة تقنيات الشطف. وبعد ظهور الادوات الحجرية، ترك الإنسان الأول إلى جانب أدواته شواهد على وسطه الفكري، تشير إلى بوادر دينيّة لا لبس فيها، وتبيّن ظهور الدين إلى جانب التكنولوجيا كمؤشرين أساسين على ابتداء الحضارة الإنسانية…. إن ما أود التوكيد عليه هنا هو أن الدين والفكر الديني ليس مرحلة منقضيّة من تاريخ الفكر الإنساني، بل هو سمة متأصلة في هذا الفكر…”(2).

وهذه النظرة للعبودية كطبيعة، تحلّ لنا الإشكال الذي يطرحه المفسرون امام قوله تعالى “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”، فهناك من خصص “الجن والانس” هنا في “المؤمنين” أو “السعداء” منهم … كالضحاك وسفيان وزيد بن أسلم. وما ذلك إلا للخروج من مأزق السؤال التالي: إن كان الكل مخلوق لعبادته فكيف كفروا؟ … وهذا السؤال مبني على فهم للعبوديّة بأنها مجرد تكليف، لا أنها “تكوين” للإنسان. فالانسان هو عبد لله تمثل بذلك أم لم يتمثله، وهو أبدا محتاج للتأله، سواء صرفه لله المستحق، أم لغيره ظلما. ويدل على ذلك قول الله “إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم” فوصف المشركين ومعبوداتهم بالعبودية، وكذلك قوله : “الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له …”، و”عباده” هنا تتضمن كل البشرية.

فالمطلوب من الإنسان توجيه هذه “العبوديّة” وجهتها الصحيحة، ولهذا بعثت الرسل، فالرسل لم تبعث بتكليف العبوديّة، إذ أن العبوديّة طبيعة بشرية، بل إنما بعثت الرسل لتوجيهها وجهتها الصحيحة من عبادة غير الله إلى عبادة الله. ومن هنا نجد أن كل الأقوام المذكورة في القرآن كانو يمارسون “العبادة” بشكل خاطئ، وجاءتهم رسلهم بتصحيح هذه العبادة.

مالذي أريده من تقرير هذه القضيّة ؟ هو التالي : أن السكران عندما يصور “العبوديّة” بانها غاية وجود الإنسان الوحيدة ، إنما هو يخلط أمورا كثيرة. فنحن قررنا ان “العبوديّة” طبيعة في الإنسان، وإن ما يأمره به الله هو تمثل هذه العبوديّة طوعا واختيارا. وهذه هي الوظيفة التي يريدها الله منه، لكنها ليست الوظيفة الوحيدة، فإنه يبقى للإنسان مساحة عريضة من الحريّة في اختيار وظيفة حياته الدنيا، وذلك بما لا يتعارض مع العبوديّة لله، أي عدم رفع هذه الوظيفة الاخرى لمقام العبادة. وبهذا يكون للإنسان غايتين: غاية خلقه الله من أجلها، وغاية هي “نصيبه من الدنيا” الذي عليه ألا ينساه ، طموحاته وأهدافه ورغباته الدنيوية. يبقى ان نقول أن هذه الغاية الاخرى لن يحاسب عليها الإنسان في الآخرة، بمعنى أنه لن يحاسب عن مدى قيامه بها وإعطائها حقها، فالله لن يحاسبني على حياتي كمهندس رغم أني قضيت ما يقارب الست سنوات للحصول على هذه الشهادة. وبسبب كون هذه الغاية الدنيوية لن تدخل في المحاسبة الاخروية، فموازينها ومقاييسها هي موازين ومقاييس دنيوية بحتة، وهذه الغاية هي التي يشير إليها الحديث التي صدرنا به هذه الفقرة.

هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فـ”العبوديّة” المطلوبة من “الإنس والجن” هي أعم من الشريعة المحمدية. فحصر معنى العبوديّة بالشريعة المحمديّة هو مناقضة لقول الله “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا”. وهذا التوضيح ضروري جدا، وستتضح أهميته فيما بعد.

وكملخص لكل ما ذكرناه هنا ، أعيد بسرعة:

1- حسب تعريف السكران للمدنية، فقد اثبتنا وبالأدلة القرآنية أنه يمكن اعتبار “العبودية” : مدنية أيضا.

2- أن السكران يمارس “تحكميّة مفاهيمية” تفصّل المدنيّة والعبوديّة تفصيلا يمكنه من المقابلة بينهما، وهذا التحكّم ، لا مبرر موضوعي له.

3- أن الحضارة ليست غاية أبدا، وأنها لا تكون غاية إلا مجازا.

4- أن العبوديّة طبيعة بشريّة. وهي بهذا ليست مطلبا بذاتها، وإنما المطلب إخلاصها لله.

5- أن العبوديّة ليست وظيفة الإنسان الوحيدة، فله أن يختار وظيفة دنيوية بشرط عدم تعارضها مع الوظيفة العبوديّة.أما الآن فسننتقل لمناقشة ما أورده السكران من أدلّة على أن “الحضارة” ذات قيمة تبعيّة في سلم الوحي ، وأن “الانبهار بالمظاهر المادية” هو قانون الانحراف التاريخي !

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2) فراس السواح، دين الإنسان ، منشورات دار علاء الدين : ص 19-22.

اترك تعليقاً