الفصل الثالث: في الهوية… هل نرث معانينا؟

كما أن أطروحة “حوار الحضارات” تقوم علي تصور سطحي وواه لكل من “الحضارة” و“الثقافة”، فهي كذلك تتبنى تصورا سطحيا إضافيا لمفهوم الهوية. ولإن كان الحديث عن الحضارات والثقافات هو حديث نظري في الغالب، إلا أن آثاره وانعكاساته على مفهوم الهوية، لشديد الأثر في حياتنا المعاصرة. إن تبني الآلة الإعلامية الضخمة لأطروحة “حوار الحضارات” أو صراعها بكافة مسلماتها الواهية، أحدث نوعا من الغبش في رؤية وتحليل المشاكل الاجتماعية والسياسية بإرجاعها لإشكاليات في الهوية، وكذلك إلى تسويغ مبطن لكافة أشكال التمييز السياسي المبني على الهوية. من هذا المنطلق، يصبح لزاما علينا أن نفتح ملف مفهوم “الهوية” محاولين دراسته وتبيين الفروقات الهائلة بين الاستخدام الإعلامي السطحي له، والاستخدامات المتنوعة له في العلوم الاجتماعية.
ما هي “الهوية”؟ هذا السؤال تتحدد إجابته بطبيعة تصورنا لمفهوم الثقافة نفسه. فالإجابة الأولى التي تنطلق من كون الثقافة طبيعة ثانية مستقلة وجوهرانية ومحددة بشكل واضح، تعتبر الهوية سابقة على وجود الفرد وحاكمة عليه، باعتباره يرثها وراثة بمعالمها المحددة في الثقافة التي ولد هذا الفرد فيها. إلى هذه الإجابة تنتمي كل الأطروحات التي تستسهل الحكم على إنسان من خلال “أصوله” و”جذوره”، بهذا المعنى تتحول الهويّة الثقافية وكأنها نوع من العرق، أو نقش في الشفرة الوراثية للفرد لا انفكاك له عنها. وهذه الإجابة هي التي تبنتها أطروحة “حوار الحضارات” في تمييزها بين الأفراد بإرجاعهم لهويات يتم التعامل معها على أنها محددة ونهائية. (١٩)
أما الإجابة الثانية فهي ترفض تماما هذا التصوير “الموضوعوي” للهوية باعتبارها معطى مسبق على وجود الفرد ذا صفات محددة ونهائية لا يملك هذا الفرد إزاؤه سوى التسليم. وإزاء رفضها له، قامت بطرح تصور آخر للهوية، تصور “ذاتوي”، باعتبارها “شعور بالانتماء أو تماه مع جماعة متخيلة” (٢٠). ومن هنا تصبح الهوية من صنع الفرد وتالية لوجوده بل إنها تصل لمرحلة تصبح فيها مجرد مسألة “اختيار فردي اعتباطي”(٢١).
وكمحاولة لتجاوز التسطيح والاختزال في هاتين الإجابتين، تأتي الاجابة الثالثة باعتبار الهوية ليست معطى مسبق بقدر ما هو انتماء تتم صناعته، لكن ليس بطريقة عشوائية وعبثية، بل داخل إطار اجتماعي يستهدف تحديد الأنا مقابل الآخر. إن بناء الهوية هو فعل تماه مع المجموعة المتخيلة بنفس المقدار الذي هو فعل تمايز عن المجموعات المحيطة. هي إذن “بناء يبنى في علاقة تقابل فيها مجموعة مجموعات زخرى تكون في تماس معها” (٢٢).
لم تكن مسألة الهوية شديدة الأهمية في المجتمعات التقليدية السابقة على تعميم نموذج “الدولة القومية”، وذلك لاعتبارين أساسين: الأول هو بطء التحولات الديموغرافية في تلك المجتمعات لدرجة لا تسبب صدمات للعلاقات بين المجتمعات المختلفة تضطرها لإعادة تصوراتها لهويتها. أما الإعتبار الثاني، فهو طبيعة الدول القديمة التي لم تكن تهتم بتحديد “هوية” مواطنيها.
لكن ومنذ أن بدأت الدولة القومية بالتشكل باعتبارها فضاء قانونيا وسياسيا تتحقق فيه سيادة أمة ما، فإن تحديد هوية هذه الأمة أصبح أمرا ضروريا، سواء باعتماد هوية واحدة للأمة، كما هو الحاصل في فرنسا، أو الاعتراف بتعددية الهويات مع ترتيبها ترتيبا مستندا لهيمنة هوية بعينها على باقي الهويات، كما هو حال الولايات المتحدة الأمريكية. في الدولة القومية، أصبحت مسألة تحديد الهويات مسألة حساسة، بحيث تصبح “الهوية الوطنية” الوثيقة الأهم التي بها تعترف الدولة بمواطنيها، وبهذا لم يعد الأفراد والجماعات هم من يحددون هوياتهم، وهكذا أصبحنا نرى أكرادا ذوي جنسيات تركية، وعربا يحملون الجنسية الفرنسية…إلخ. إن هذا التدخل المتصاعد من الدولة في التحديد الأحادي لهوية مواطنيها، أدى إلى جانب تنامي المدن المليونية وعملية تذرير الأفراد وتفكك المجتمعات الوشائجية التقليدية، إلى نشوء أزمة الهوية عند الفرد المعاصر وتناميها بشكل أكبر بكثير من السابق. (٢٣)
ومن هذه الملاحظة، يمكن استنادا إلى ما سبق الإشارة إليه من تبيين محاولة تهميش وجود الدولة القومية في أطروحة حوار الحضارات، أقول يمكن القول أن التأكيد على الهويات الثقافية- والدينية تحديدا- في هذه الأطروحة جزء من منازعة الدول القومية في تحديدها لهوياتها الوطنية. إن محاولة الدولة القومية لصياغة هوية أحادية لشعبها، أنتج مفهوم “الأقليات”، وهم المجموعات البشرية الموجودة في هذه الدول لكن لا تنطبق عليها حدود الهوية المدعومة من قبل السلطة. وهذا المفهوم ذو طبيعة صراعية مع الهوية المهيمنة التي تبنتها السلطة، قد يصل الصراع إلى حد التطهير والتهجير والإبادة.
وعلى الرغم من كون محاولات الدول القومية في تحديد هوية أحادية للأمة ذات آثار سلبية على الأقليات وعلي الدول المحيطة به، إلا أن أطروحة “صراع الحضارات” وحوارها، باعتمادها قائمة من الهويات فوق القومية، تزيد من تعقيد أزمة الهوية لدى الأفراد. ونجد هذه الأزمة كأفضل ما يكون عند العرب. فالعرب هم أكبر أمة في التاريخ المعاصر لم تنل حق تقرير المصير، وهي الأمة التي تشرذمت إلى عدد من الدول التي لم تستطع توليد هوية خاصة بها، مما أوقع مواطنيها فريسة أيديولوجيات شمولية -كالإسلاموية- عابرة للدولة، والتي ما إن يثبت فشلها حتى تحدث لديهم نوع من العودة إلى الهويات الوشائجية من قبلية وعائلية وطائفية…إلخ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١٩) دنيس، كوش. المصدر نفسه: ص ١٤٩-١٥١.
(٢٠) المصدر نفسه: ص ١٥٢.
(٢١) المصدر نفسه: ص ١٥٢.
(٢٢) المصدر نفسه: ص ١٥٣.
(٢٣) المصدر نفسه: ص ١٥٨-١٦٢.

اترك تعليقاً