حول “نظرية المؤامرة”

باختصار، وبجملة واحدة، يمكن قول التالي: القول بوجود مؤامرة كونية ضد العرب تساوي رفض هذا القول. وهما متساويتان من جهة واحدة، ذلك أن كلاهما يعتبران تاريخ البشر منتج غير بشري، إنما هو نتيجة صراع الآلهة والشياطين.

سننتقل الآن للتفصيل.

لنبدأ من مثال بوعزيزي. فبوعزيزي، بإحراقه لنفسه أمام مبنى حكومة بلدته تعبيرا عن اعتراضه للظلم الذي تعرض له، قد قام بعمل. قيامه بهذا العمل هو “خلق”- إن شئنا استعارة مصطلحات المعتزلة عندما قالوا أن الإنسان “يخلق أفعاله”. فالإنسان- من بين كل الكائنات- يتميز بقدرته هذه على بداية أشياء جديدة، على خلق أفعال لا يدفعه لخلقها انطلاقه من حاجاته الجسدية أو باعتبارها وسائلا ضرورية لغايات يطمح لتحقيقها- إذ لا توجد غاية يمكن تحقيقها من تحويل الموت إلى وسيلة، إذ أن الموت إعلان نهاية قصة الإنسان بين أخوته البشر.

وعلى الرغم من أن الانتحار إنهاء لوجود البوعزيزي بيننا، إلا أن هذا الفعل هو “بداية لشيء ما”، هذه البداية قد تضمحل وتفتر إن لم يتعاون الفضاء البشري الذي حدث فيه هذا الفعل على الاستجابة لها والمساهمة فيها. وهذا بالضبط الذي حصل، فبدايات كثيرة تحدث هنا وهناك، لكن عدم استجابة المحيط البشري لها وحمل المغامرة الجديدة إلى نهايتها هو الذي يجعلها غير قابلة لأن تطرد.

وهذا “البدء بشيء ما” الذي يقوم فيه فرد واحد، وهذه “الاستجابة” التي يقوم بها المحيطون به، هما المحددان الرئيسيان لتشكل “الأحداث” في التاريخ. فالحدث، أي حدث، بداية يبدأها فرد، يقوم باتمامها المحيطين بها (الحالة البشرية، أرندت، ١٨٩). وبهذا المعنى يصبح الحدث “غير قابل للتعليل” لأن أصحابه الفاعلين فيه لا يعلمون بالضبط ما هو المعنى النهائي الذي سينتج من عملهم هذا، وهذا المعنى لا يتكشف إلا عندما ينتهي العمل، ولا يدرك إلا بالنسبة للمؤرخ الذي ينظر للأحداث بعد ذلك ليستنطق القصة التي حدثت.

ومن هذه المعضلة، من كون الفاعل في الأحداث لا يدرك معناها، وليس هو كاتبها، قام الفلاسفة باختراع “الكاتب الموجود خلف الكواليس”. الذي سيكون “اليد الخفية” عند آدم سميث لاضفاء معنى لتعاملات الناس في السوق، و”مكر العقل” عند هيجل الذي يقود التاريخ نحو تحقق الروح النهائي فيه.

وهكذا، سنكون مهمة الفلاسفة التواصل مع هذا “الكاتب الموجود خلف الكواليس”، الذي يصنع الأحداث ويتحكم بها إلى نتيجة مقررة لديه مسبقا، تماما مثلما يقوم النجار بممارسة العنف على الأخشاب من أجل تحويلها إلى الطاولة الموجودة صورتها في ذهنه قبل أن يباشر عمله. فمعرفته، أو “معرفة منطقه” يتيح للشخص أن “يصنع التاريخ”، وذلك بعد أن استطاع اختلاس النظر على الفصول القادمة المكتوبة من قبل هذا “الكاتب الموجود خلف الكواليس” لأحداث المستقبل. وبالتالي، باسم الضرورة التاريخية، أو قوانين التطور، أو باسم تحقيق الحرية، يصبح مباحا ممارسة العنف ضد البشر- كما يتم ممارسة العنف ضد الخشب- من أجل تحويلهم للشكل المقرر سلفا في القصة التي يدعى أنه تم الكشف عنها بطرق “علمية”.

وليست نظرية “المؤامرة”- المثبتة لها والنافية لها على حد سواء- إلا نسخة باهتة من نسخ نظريات التعرف على “الكاتب الموجود خلف الكواليس” هذه، ومن كونها باهتة تحديدا تكتسب كل قوتها. فهي عندما تتحدث عن هذا “الكاتب” لا تنسبه إلى خارج هذا العالم، لا إلى يد خفي، ولا ضرورة تاريخية، ولا روح مطلقة، بل تحديدا إلى منظمة أو دولة بشرية: كالصهيونية العالمية، أو الماسونية، أو الغرب…إلخ، فيتم إعطاء هذه المؤسسات أدوارا إلهية- أو شيطانية- تصل مرحلة التحكم بالتاريخ وصناعة أحداثه. في حين أن من ينفي وجود المؤامرة- وإن بدا أكثر عقلانية- لا يختلف كثيرا عن صاحبه المثبت، إذ أنه في معرض نفيه “التحكم في التاريخ” يلغي وجود القوى فيه وسعيها لاستغلال الأحداث بحيث يعتبر الأحداث والفاعلين التاريخيين فيها، وكأنها يفعلون في صندوق معزول عن كل شيء سواهم… فهو في الوقت الذي يعلن موت “كاتب الأحداث من خلف الكواليس” يقوم بخلق “حارس الأحداث من أن تستغل”، الذي هو محض علمنة لـ”العناية الإلهية” الدينية.

فبوعزيزي بالحدث الذي أعلن انطلاقه بموته، والذي ما كان له أن ينطلق دون مشاركة الآخرين له، مما شكل تواليا من الأحداث المتناثرة في العالم العربي، ليس صنيعة أي مؤامرة، بل هي أحداث تخلقت من قدرة الإنسان على خلق أفعاله، القدرة التي كان كل ما فعلته الحكومات القمعية هو إلغاؤها وتحطيمها. لكن، وعلى الرغم من كون هذه الأحداث ليست صنيعة مؤامرة، إلا أنها أيضا ليست معصومة من الاستغلال، بل لأنها “بداية جديدة”، فهي أكثر الأشياء إغراء بأن تستغل في حال لم يتم التمكن من إنهاؤها.

و”استغلال الأحداث” ومحاولة التأثير عليها وتوجيهها، إنما يأتي من أصحاب المصالح، كالدول الكبرى، والجماعات والمنظمات والفئات المتسلطة والتجارية وغيرها.

فكون “ثورة” ما حدثت، فنفس القناعة التي تدفعنا لرفض اعتبارها “نتيجة مؤامرة”، عليها أيضا أن تدفعنا إلى رفض أنها “محروسة” وغير قابلة للإستغلال والتوظيف.

3 Responses

  1. جميل أخي سلطان أنا معك لا يمكن أعتبار كل ما يحدث نتيجة مؤامره ولكن أكثر الأحداث وأهمها في تاريخ العالم العربي كان للمؤامرة دور كبير فيها من أحتلال العراق الى محاولات قتل الثوره في العالم العربي فلا يعقل بأن لا تكون هناك أهدافا مخفيه وراء حروب أمريكا القذره في المنطقه …. ومستمتع بكتاب حنه أرندت شكرًا لك 

  2. يا أخي خليها تكون مؤامرة ، ونخلص من هذه الزعامات القذرة .
    مرحبا بالخطب يعرونا إذا : كانت العلياء فيه السببا

اترك تعليقاً