الفكر سعودي .. والمخاض الصعب

“أنا هنا..

قبل بئر النفط كنت هنا

قبل البدايات…

قبل الريح والحقب…”

عبد العزيز العجلان

يقول السكران : ’هذا الخطاب (= الخطاب المدني) … اكتنفته أربعة ظروف رئيسية … ألا وهي: مناخ سبتمبر …‘. ويقول : ’فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر تعرض الاتجاه الإسلامي إلى حالة محاكمة عالمية شرسة حدت من انسيابه ودويه وتراجعت معها شعبيته الاجتماعية بشكل ملموس وفي ظل هذا الفراغ الجزئي … برزت أبحاث المدرسة الفرانكفونية/المغاربية …‘(ص9).

بكلمة واحدة نستطيع أن نقول : هذا الكلام تسطيح كامل للواقع والفكر السعودي. بل نستطيع أن نزيد في القول ونتهم السكران بما يتهم غيره، ونقول أن هذا التفسير يعتمد نفس الآليتين التي يندد على ما يسميها: المدرسة الفرنكفونية توسلها بهما، أقصد آليتي التسييس والمديونية. فهو يفسر ظهور هذا الخطاب بحدث سياسي أولا، و- ثانيا – بارجاعه إلى ما يسميه: الخطاب الفرانكفوني .

إذن كيف يمكن أن نفهم هذا الخطاب ؟

الجواب : بردّه إلى سياقه العام ، أقصد إلى جدلية الفكر والواقع السعوديين، ومن خلال هذه الجدليّة نستطيع فهم هذا الخطاب.

وقبل أن نشرع في الحديث عن الفكر السعودي، لابد أن نتخلص من بعض المفاهيم المركزيّة التي تؤطّر مدلولات كلمات كـ “فكر” و “مثقف” .. وغيرها. فالفكر- بالنسبة لي، هو مجموع الأطروحات التي تتناول إشكاليات جامعة أفرزها او استجلبها واقع ما. وبهذا التعريف، تصبح أي اطروحة مساهمة في هذا الفكر، بغض النظر عن وسيط هذه المساهمة، أو منهجها ، أو مضمونها. ففتوى الفقيه، وتحليلات السياسي المرئيّة، ورقائق الوعّاظ المسموعة، وتنظير الأكاديمي المقروء، كل هذا يدخل في تشكيل الفكر وإشكالياته. وبهذا التعريف أيضا ، نقرر أن أي تجمع بشري لا بد أن يكون محكوما بإشكاليات جامعة تفرز فكرا خاصا بهذا التجمع البشري، سواء كان أسرة ، أوعشيرة ، أو قبيلة ، أو دولة. فالفكر ليس قيمة ، بل هو خاصيّة أو طبيعة لازمة لأي تجمع البشري.

ومن خلال هذا التوضيح نقول أن اللحظة التاريخية التي نستطيع تكشّف بدايات الفكر السعودي من خلالها هي “معركة السبلة” الواقعة عام 1929م. هذه المعركة تحمل معها دلالات رمزيّة كثيرة، بل تكاد تختصر كل إشكاليّات الفكر السعودي في أحشائها. هذه المعركة لم تكن قتالا – كما يقال لنا بكل استسهال- بين بدو متشددين دينيا ، وبين الملك عبد العزيز، هذه معركة نشأت عن اختلاف جذري في تفسير “العقد الاجتماعي” الذي قامت عليه الدولة. فجيش “اخوان من طاع الله” يضم أولئك البدو الذين “هاجروا” من الصحراء إلى “الهجر” التي اسسها عبد العزيز، وكانوا القوّة الضاربة التي مهدت للملك عبد العزيز ضمّ حائل والحجاز.

لماذا حارب هؤلاء البدو مع الملك عبد العزيز؟ ما هو العقد الاجتماعي الذي ، بناءً عليه ، انضموا إليه ؟ الجواب هو الدين، فالأسماء هنا تحمل دلالات رمزيّة كبيرة، فهم بعد أن كانوا قبائل : مطير وعتيبة وعجمان ، تحولوا إلى “أخوان من طاع الله”. وهم بعد ان كانوا يعيشون في الصحاري ويسكنون بيوت الشعر ، إنتقلوا للحياة الحضريّة، في قرى من اللبن والحجر تسمى “هِجر”. كما أنهم لم يقاتلوا جيوش آل رشيد، أو الحجازيين أو الاحسائيين، لاعتبارات سياسية، بل كان قتالهم لهم لأنهم “مشركين”، تجب مجاهدتهم. يذكر الشيخ ابراهيم بن عبيد آل عبد المحسن في تاريخه “تذكرة أولي النهى والعرفان” عما حدث في واقعة الطرفية الصغرى: ’لما كانت ليلة خامس شعبان من هذه السنة (=1325هـ) جاء رجل من بريدة … منذرا يقول أن ابن رشيد قد خرج برجاله …. ولما هجم ابن رشيد ذلك الهجوم على السعوديين … استيقظوا وهبوا سراعا للدفاع وجرت مصادمة هائلة واختلط الحابل بالنابل وتضاربوا بكعاب البنادق ثم بالسيوف فسالت الدماء وعلت الأصوات بهذه الكلمة (على المشركين على الخونة) …‘(1). ومن هذه الزاوية، نستطيع النظر إلى تلك المعركة ، لا بوصفها تمرّد بدوي ضد الحكم، بل بوصفها خلاف أساسي على تفسير الآيديولوجيا التي قامت عليها الدولة.

فبعد التوحيد، جاء الانتقاد الاول الذي وجهه الإخوان لعبد العزيزمتمثلا بمنعهم من الجهاد ضد العراق رغم أنه شيعيّ كالقطيف تماما، ومن يحكمه من الهاشميين هم نفسهم الذين قُوتلوا في الحجاز. فإذا كان أساس العقد الاجتماعي هو مجاهدة المشركين، فلماذا يتم إيقافه ضد مشركين وإيجابه ضد آخرين رغم تماثلهم في الشرك ؟! وهذه الإشكالية الاولى التي ستعيد إنتاج نفسها مرات كثيرة بأكثر من شكل ، وهي إشكاليّة “تفسير كون المملكة دولة إسلامية”، مما يستتبع عدّة أسئلة : هل نحن مسلمون فقط ؟ أم أننا سعوديون أيضا ؟ هل “الديني” مقدم على “الوطني” أم “الوطني” مقدم على “الديني”؟ وهل يتعارضان ؟. كان الملك عبد العزيز يستثمر بعبقريّة الهامش السياسي الذي توفره له لعبة مصالح الامبراطورية البريطانية، وكان يتوسع بالمقدار الذي لا يتعارض مع هذه المصالح، وكان إيقافه للتمدد حتى حدود العراق والكويت نتيجة مصالحة بينه وبين البريطانيين. فكان هذا التحديد الذي تفرضه عليه لعبة القوى المتعارضة، يتعارض مع الدعوى التأسيسية القائمة خلف العقد الاجتماعي الذي ينظم الدولة السعودية. فهو في نظر الأخوان : موالٍ للكفار و مانع للجهاد ، وهم في نظر عبد العزيز : مهددين للمكتسبات، يفتقرون لبعد النظر الاستراتيجي.

بعد التوحيد، شرع الملك عبد العزيز في عمليّة التمدين، وربط أجزاء المملكة عن طريق الوسائط الحديثة من سيارات وبرق وغيرها. فنقم الإخوان على عبد العزيز ذلك باعتبار انها “سحر”، وكان ردّ العلماء المناصرين لعبد العزيز : “أننا لا نعلم ما هيتها فلا نستطيع الحكم عليها حتى نعلمها”. وهذه هي الإشكالية الثانية التي ستعيد إنتاج نفسها بأكثر من شكل وهي إشكالية “استهلاك التقانة والحكم عليها رغم الجهل بها”، وما تتضمنه من أسئلة: هذه الوسائط والتقنية هل هي خير أم شر؟ هل يمكن الحكم عليها ؟ هل استهلاكها – وما يتبعه من إعادة تشكيل للمجتمع نتيجة- يلعب دور إيجابي أم سلبي؟ هل قضيّة التقنية قضيّة فقهية أم قضيّة معاصَرة؟ بمعنى آخر: هل هي “اختيار” أو”ضرورة”؟

بعد التوحيد، شرع الملك عبد العزيز بإرسال ابنيه سعود وفيصل إلى مصر ولندن، وقام بعقد اتفاقيات مع بريطانيا، فنقم الاخوان على هذا التصرف من منطلق حُرمة السفر إلى الخارج الكافر سواء إلى لندن او مصر المستعمرة وحرمة موالاة الكفرة. وهذه الإشكالية الثالثة : “قضيّة التفاعل مع الآخر” : هل كفر الآخر مانع من التعامل معه ؟ هل التعامل معه قضيّة عقديّة تقاس بمعايير الولاء والبراء أم قضيّة فقهيّة متضمنة في فقه المعاملات أم قضيّة بشريّة بحتة خاضعة للرغبات الشخصيّة؟ هل التعامل معه مناطه “الرغبة وانتفاءها” أم ” الضرورة”؟

بعد التوحيد، لم يكره الملك عبد العزيز الشيعة الموجودين في المنطقة الشرقية على التحوّل عن مذهبهم، وذلك مما أثار حفيظة الاخوان عليه. وهذه الاشكالية الرابعة : “إشكالية وجود الشيعة في السعودية”، وتدور حول هذه الأسئلة : هل الشيعي مسلم ؟ هل ولاء الشيعي للمملكة ؟ هل- فعلا- تتم معاملة الشيعة كمواطنين من الدرجة الثانية ؟

هذه الإشكاليات الرئيسية التي لم تنتهِ مع هزيمة الإخوان، بل نستطيع تتبع مساراتها، مما يدعونا للقول أنها “إشكاليات كامنة” في التيار الديني التقليدي، المرتبط بدعوة محمد بن عبد الوهاب. فاتهام الدولة في دينها، يتكرر فيما بعد مع جهيمان ، ويتكرر في العمليات التفجيرية الأخيرة، التي تنطلق كلها من الحكم على الدولة بالكفر لعدم التزامها بلوازم دعوى الاحتكام للكتاب والسنة.

أما بخصوص الإشكالية الثانية، فهناك مؤلفات كثيرة وفتاوى أكثر حرمت الراديو والجرائد والتلفاز والفضائيات وجوالات الكاميرا وغيرها، كل هذا لأنها تؤدي إلى مفاسد أو يحتمل ذلك. وكمثال على هذه الكتب، سنمر سريعا على كتاب “الإجهاز على التلفاز” لمؤلفه محمد بن احمد المقدّم. فهذا الكتاب يقوم على “تناول مشكلة التلفاز من منظور شرعي، على أساس الحلال والحرام، والولاء والبراء، والصلاح والفساد”(2). ثم بعد ذلك يقوم بذكر مفاسد التلفاز: بأنه يلهي عن الصلاة، وبانه سبيل لمطالعة الفسق والفجور، وبانه مدرسة إجرام ، وملوث للبيئة الخلقية، ومخرب للبيوت ، وهاتك للأستار ، ومبيد الغيرة ، ومحرقة الحياء، ومذبحة العفة ، وناسف الشرف …إلخ. فهو في تعاطيه مع الوسيط، يقوم بسرد مفاسده بغية إزالة الوسيط، لا أن يحاول أن يسرد مفاسده بغية تغييرها واستبدالها بمصالح يمكن تحصيلها، فهو يعتبر الوسيط:اختيار، وليس حتم. وهذا التعاطي السلبي مع الوسائط يكرّس الانهزامية أمام هذه التقنيّة.

وكذلك، نستطيع تتبع مسار الإشكالية الثالثة، عن طريق أحكام السفر إلى الخارج، واحكام تقليد الكفار في الملبس والمشرب والمأكل، والمسألة الفقهية الشهيرة في حكم الاستعانة بالكفار أيام أزمة الخليج. أما إشكالية الشيعة، فنستطيع تتبع مسارها من خلال التمرد الذي قاموا به تضامنا مع الثورة الإسلامية في إيران ، في العام نفسه الذي استولى فيه جهيمان على الحرم. هذا بالاضافة إلى المطالبات التي يقدمونها للملوك، وكذلك في الفتاوى التي تصدر في حقهم كتكفيرهم وتبديعهم وتخوينهم، بالإضافة إلى الممارسات التمييزية التي تمارس ضدهم في بعض قطاعات الحكومة.

هناك إشكاليتين أخريين نشأتا بمعزل عن معركة السبلة، ولكنهما متزامنتين مع تلك الفترة التوحيدية. الإشكالية الأولى هي تغيير اسم المملكة من “المملكة الحجازية والنجدية وملحقاتها” إلى “المملكة العربيّة السعودية”. هذا التغيير ليس حدثا عاديّا، بل هو نقلة نوعيّة للوعي التاريخية والمعاصر لأهالي هذه الرقعة الجغرافية. فالمسمى الأول أقرب للواقع من المسمى الثاني، إذ أنه يعترف بالتمايز والاختلاف التاريخي بين اجزاء المملكة، وأن الاشتراك فيما بينها ليس اشتراكا تاريخيا واجتماعيا ، بقدر ما هو اشتراك سياسي فرض بالسيف والسياسة. أما المسمى الثاني فهو يتضمن تنميطا لجزء على باقي الأجزاء، ويتضمن بما يقابل التنميط من مصادرة لتاريخ وخصوصية باقي الأجزاء. هنا يصبح تاريخ منطقة نجد تاريخا لكافة الرقعة الجغرافية التي تتكون منها المملكة. فيدرس السعودي الحجازي تاريخا غريبا عنه، يتناول مناطق لم يرها ولا يعرفها في محيطه كالدرعية والعيينة وغيرها. هذا التنميط السياسي تكامل مع التنميط الوهابي في إقصاء كافة المظاهر الدينية والاجتماعية المختلفة التي كانت تزخر بها الحجاز والجنوب والساحل الشرقي. وستعود هذه الإشكالية للظهور من جديد مع تجدد الوعي الذي تحياه تلك المناطق وقد يكون كتاب ابنة أهم الشخصيات السعودية النفطية أحمد زكي يماني، أقصد ابنته “ميّ” المسمى “مهد الإسلام : البحث عن الهويّة الحجازية” أحد تبديّات هذه الإشكاليّة.

الإشكالية الأخرى هي تلك التي يرصدها الدكتور عبد الله الغذامي في كتابه “حكاية الحداثة في المملكة العربيّة السعودية” ، هي تلك التي تتمثل في النشاطات الأدبية والإجتماعية التي قام بها كل من محمد سرور الصبان و محمد حسن عواد وحمزة شحاتة، هذه النشاطات التي كانت تعبّر عن استجابة لبوادر مرحلة عصريّة جديدة، تم وأدها تماما، لا بالمواجهة الفكرية، بقدر ما هو الاستقواء بالرفض الاجتماعي والتضييق السياسي (3). هذه الحادثة ستعيد إنتاج نفسها من جديد، بل ستتحول إلى صراع ديكة بين من ينتسبون إلى الحداثة، وبين من ينتسبون إلى التديّن.

في البداية كان هذا التيار التقليدي يناهض التيار التحديثي الذي تقوده الأسرة الحاكمة، فاستجلاب التقنية، والتعاطي المبني على المصالح والمفاسد مع الآخر، وتطوير التعليم ومؤسسات الحكومة، كانت مبادرات حكومية تستلزمها إدارة الدولة، واجهت ممانعة دائمة من هذا التيار التقليدي المدعوم من الشعب الذي تم “تخليصه” من الخرافات بواسطة “المطوعين” الذين كان يرسلهم عبد العزيز لتعليم الناس أمور دينهم.

هذه الإشكاليات الاولى التي كانت متضمنة في “العقد الاجتماعي” الأساسي الذي انبنت عليه الدولة، وهي إشكاليات نتجت عن عمليّة التوحيد ذاتها، وهي اشكاليات لم تزل تمارس فعالياتها داخل الفكر السعودي، وهي أخيرا ليست الاشكاليات الوحيدة، فالسعوديّة بعد لحظة التوحيد مرت بثلاث لحظات اخرى ، قامت بإنتاج اشكاليات جديدة، قد تعتبر تفريعات للإشكاليات القديمة، وقد تعتبر مستقلّة تماما. هذه اللحظات وإشكالياتها سنتناولها في المداخلة القادمة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تذكرة اولي النهى والعرفان بايام الله الواحد الديان وذكر حوادث الزمان، الشيخ ابراهيم بن عبيد آل عبد المحسن ، الطبعة الاولى ، مطابع مؤسسة النور للطباعة والتجليد: الجزء الثاني ، ص 76. وهنا عرض للكتاب والمؤلف : http://www.al-jazirah.com.sa/2001jaz/mar/25/wo1.htm

(2) الإجهاز على التلفاز، محمد احمد بن اسماعيل المقدم، دار طيبة الخضراء : ص 11.

(3) حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية ، عبد الله الغذامي، المركز الثقافي العربي : ص 50-67.

اترك تعليقاً