الديمقراطية السلفية

أعتقد أن نواف القديمي نجح في كتابه “أشواق الحرية”- والذي استعرضنا أهم أفكاره في المقالة السابقة- أن يلغي كافة التحفظات التي تحيط بالموقف السلفي إزاء الديمقراطية. وأعتقد أيضا أن السلفي الذي يقول بحرمة النظام الديمقراطي، سيجد صعوبة كبيرة في تأكيد موقفه بعد قراءته لهذا الكتاب. ولكن، للأسف الشديد، لم يستطع القديمي أن يشيد بنيان نجاحه هذا، إلا على أنقاض، تجعل كل ما بناه غير ذا جدوى أو شديد الخطورة، هذه الأنقاض ليست شيئا أخر سوى “الدولة” نفسها. فالقديمي لم يستطع إقناع السلفيين بالديمقراطية، إلا بعد تجريدها من الدولة التي نشأت خلالها!
إن موقف السلفية من “الدولة” جزء لا يتجزأ من موقفها العام من كل ما هو دنيوي. فبالنسبة لها هناك غاية وحيدة وجد الإنسان من أجلها، وهي “تحقيق العبودية”. فالآخرة هي الغاية، والدنيا هي مجرد وسيلة لتحقيق تلك الغاية. وبالتالي يعتبر كل شيء في الدنيا لا يخدم تلك الغاية: إما محرم يجب الابتعاد عنه، أو فضول يستحب الزهد فيه. إنطلاقا من هذا الموقف من الدنيا- والذي يعتبر مواردها ونعمها: ابتلاءات، على الانسان التعامل معها بحذر شديد- تبني السلفية رؤيتها للدولة. فالدولة جزء من هذه الدنيا، فهي إذن لا قيمة لها أكثر من قيمة الدنيا نفسها. إذا كانت الدولة تعين الفرد على تحقيق غايته التي خلق من أجلها، فهي إذن دولة شرعية، أما إن هي منعته من تحقيق عبوديته فتفقد شرعيتها فورا. فبحسب السلفية، تعتبر وظيفة الدولة الأساسية والجوهرية، هو أن تقوم بتوفير البيئة المناسبة كي يحقق الناس عبوديتهم، كل ما عدا ذلك: ثانوي، ومشتق من هذه الوظيفة الأساسية. وكما يقول عبدالله العروي، تضحي الدولة الفاضلة بالنسبة لهذا الرأي “هي التي تربي الفرد على الاستغناء عنها وتوجهه لخدمة ما هو أسمى منها”. وبمطالعة كتب “الآداب السلطانية”- ككتاب الماوردي على سبيل المثال- نجد أن “حفظ الدين على أصوله المستقرة” تأتي دائما كأولى المهام المفروضة على الإمام. ونجد هذا الرأي يؤكد نفسه عبر الاستناد إلى مجموعة من النصوص، التي ترهن طاعة الحكام، بإقامتهم للصلاة والدين.
هذا الموقف من الدولة، لم يتعرض له القديمي أبدا على امتداد صفحات كتابه، وإنما ركز حديثه حول الديمقراطية ومشروعيتها. بل إنه في سبيل تأكيد مشروعيتها، شدد على أن الديمقراطية محايدة أيديولوجيا، وسرد العديد من النقولات التي تنفي ارتباطها بأي جذور فلسفية أو دينية، وأنها مجرد مجموعة آليات ومؤسسات يمكن توظيفها لخدمة أي أيديولوجيا دينية كانت أم علمانية، وذلك بحسب الكلام الذي سيصاغ في الدستور، الذي يمكن تضمينه حصر النشاط الاسلامي بالإسلاميين وحدهم في حال وافق على ذلك الشعب. هذا التركيز والتشديد، الملازم لإهمال الحديث عن طبيعة النظرة السلفية للدولة: يؤدي إلى نتيجة، لا أعلم إن كان القديمي قصدها، ولكن هذا التلازم يقتضيها على كل حال… هذه النتيجة يمكن تسميتها بـ”الديمقراطية السلفية”.
فالسلفي الذي يطالع “أشواق الحرية” ويقتنع تمام الاقتناع بحجج القديمي حول مشروعية الديمقراطية، سينظر لهذه الديمقراطية انطلاقا من رؤيته السابقة للدولة. هو لن يقتنع فقط بمشروعية الديمقراطية، بل سيقتنع أيضا بأن الديمقراطية تجعل مهمة الدولة في تحقيق البيئة المناسبة للعبودية أضمن وأسهل وآكد. سيتعامل السلفي مع الديمقراطية، وسيدعو إليها، وقد يكون من أشرس المدافعين عنها حال قيامها، وذلك فقط لأنه اكتشف فيها -بفضل القديمي- بديلا أفضل في سبيل تحقيق تصوراته عن الدولة الإسلامية الشرعية.
كل ما قام به القديمي هو نزع الديمقراطية من الدولة “الحديثة” وتقديمها للسلفي، الذي سيجد فيها حلا رائعا لإشكاليته مع الغربة والتغريب.. ومحاربته. فجزء كبير من مسوغات النظام الديمقراطي في الدولة الحديثة يستند على جانب مهم جدا. وهو أنه بالديمقراطية يستطيع المجتمع المدني أن يحمي نفسه من تدخلات السياسي، أنه بالديمقراطية يمكن تقليل المجال السياسي إلى حده الأدنى، هذا الطرح نجده عند جون لوك، مونتسكيو، الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، بنثام والنفعيين عموما، جون ستيوارت مل، ماكس فيبر، شومبتير.. وغيرهم. ولكن أطروحة القديمي، لا تلتفت أبدا للمجتمع المدني، وبالتالي تفتح الباب على مصراعيه للدولة أن تنتهك مجال الأفراد الخاص. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا تضع الأطروحة أي قيود حقوقية على كتابة الدستور، بل ترهنه كليا لمفهوم مجرد اسمه “إرادة الأمة”، متجاهلة أن النظام التمثيلي الديمقراطي الحديث يلقي ظلالا كبيرة من الشك على كونه فعلا معبرا عن “إرادة الأمة”. سنعود لهذه النقطة لاحقا، لكن ما يهمنا هنا أن عدم التقيد بأي مرجعية حقوقية عند كتابة الدستور والارتهان كليا لإرادة الامة، يفتح الباب على مصراعيه أيضا لإهمال حقوق الإنسان وعدم الالتزام بها، خصوصا أن السلفية المحلية لديها حساسية من هذه الحقوق. ثالثة الأثافي، ما ذكره القديمي عن الطوائف المذهبية والعرقية قليلة العدد وأنها “قد تكون مرعوبة من سيادة النظام الديمقراطي، حتى لا تعاني المزيد تحت لافتة (دكيتاتورية الأغلبية)”، أي أنه في معرض اقناعه للسلفية بجدوى الديمقراطية، يؤكد لهم أنها لن تكون في صالح الأقليات التي يخشون تسلطها.
وباختصار يمكن القول: أن القديمي في سبيل إثبات مشروعية الديمقراطية، قام بالتضحية بكل من المجتمع المدني، وحقوق الانسان، وحقوق الاقليات. وبدون هذه كلها تتحول الديمقراطية لآلية سلطوية لا تضع فروقات واضحة بين المجتمع والدولة، بل تدمج بينهما بشكل قد يكاد كليا. وأتسائل فعلا: مثل هذه الديمقراطية الغير متصادمة مع الشريعة، هل تكفل تحقيق العدل للمواطن بصفته مواطنا؟ أشك في ذلك…

اترك تعليقاً