مدخل

في الدورة الثالثة والخمسين للأمم المتحدة في يوم 1998/9/21 تقدم الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي باقتراح تخصيص عام ٢٠٠١ عاما لـ”حوار الحضارات”(١). وفي نفس هذه الدورة، في الرابع من نوفمبر من نفس العام، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الاقتراح بالإجماع وتم تعميد عام ٢٠٠١ عاما لـ”حوار الحضارات”(٢). ومنذ تلك اللحظة، تأسست على هذه الأطروحة- أطروحة حوار الحضارات- مجموعة متكاثرة من المؤسسات، كمؤسسة “الحوار بين الحضارات” التي أسسها خاتمي في جنيف عام ٢٠٠٧م(٣). وقبلها منظمة” تحالف الحضارات” المقترحة عام ٢٠٠٥ من قبل الرئيس الأسباني خوسيه لويس زابارتو والمؤسسة عام ٢٠٠٦م ومقرها نيويورك(٤). وغيرها العديد من المؤسسات والندوات وسيل من الكتب والمقالات التي تحلل وتناقش هذه الأطروحة.
يمكن بسهولة، ملاحظة أن هذه الأطروحة جاءت كردة فعل على مقولة “صراع الحضارات” التي طرحها الأمريكي صاموئيل هانتنغتون في مقالة كتبها عام ١٩٩٣م طورها فيما بعد إلى كتاب. ملخص هذه النظرية التي تقدم بها هانتنغتون أن الهويات الثقافية والدينية ستكون منبع الحروب والصدامات في حقبة ما بعد الحرب الباردة، وبالتالي تم تقسيم العالم إلى مجموعة من الحضارات- متنبئ لها بالصراع-  بناء على قواسم ثقافية متمايزة عن بعضها البعض، فهذه حضارة غربية، وتلك حضارة إسلامية، والأخرى حضارة كونفوشوسية…إلخ. أعلن هانتنغتون في أطروحته تحول الصراعات الدولية في العالم من كونها صراعات مبنية على عوامل اقتصادية وسياسية وأخلاقية، إلى صراعات منبعها الخلافات الحضارية والثقافية والدينية. هكذا إذن، وضدا على هذه الأطروحة جاءت أطروحة “حوار الحضارات” لتحاول رسم رؤية مغايرة للعلاقات بين الحضارات.
نالت هاتان الأطروحتان والمناقشات التي ولدتاها قسطا وافرا من المقالات والكتب والأبحاث، قسطا لم يكن الفكر العربي مستثنى منه، خصوصا أنه مصنف ضمن الحضارة الإسلامية المتهمة بأنها حضارة شديدة الخطورة على الحضارة الغربية. في الفكر العربي، تم قبول هذه الأطروحات الجديدة وتوظيفها من قبل كافة تيارات هذا الفكر. فالتيار الممثل لرؤية الحكومات العربية رأى في هذا المفهوم “مخلصا” له من المأزق الذي أفاقت هذه الدول على نفسها محاطة به. فالتطورات الدراماتيكية التي طرأت على المشهد الدولي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر والحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة الأمريكية على الإرهاب العالمي الذي أتهمت البلدان العربية بأنها أحد المنتجين له، وكذلك وقوعها فريسة النظرية القائلة -والتي تبنتها حكومة جورج بوش- أن هناك ثم علاقة طردية بين غياب الديمقراطية وتنامي الارهاب. كل هذا جعل الدولة العربية في موقف ضعيف جدا، يسوقها سوقا نحو “الإصلاح” الذي يعني تأثر مصالح الفئات المتحكمة بمفاصل هذه الدولة والمستنفعة من وراءها. جاء “حوار الحضارات” والمساهمة الفاعلة والمتحمسة فيه ليمثل أحد المخارج المهمة من إنجاز الاصلاح المطلوب منها… فكان الضخ الإعلامي الهائل لترويج هذه الأطروحة والتطبيل لها وعقد المؤتمرات العالمية والاقليمية فقط من أجل تورية حقيقة المشاكل وتغطيتها بهذه الأطروحة.
بهذه الطريقة إذن، “وظف” التيار الحكومي هذه المقولة، التوظيف الذي سنجد مثله عند التيار الإسلامي لكن لأغراض وبطرق مختلفة. فهذا التيار الذي تمت “شيطنته” بعد عمليات ١١ سبتمبر، وتحويله إلى مصدر كل الشرور، من قبل جهتين: الإعلام الغربي أولا من أجل تبرير الهيمنة والحروب التي ستخاض ضد دول كأفغانستان والعراق؛ ومن قبل الحكومات العربية ثانيا لتوصل رسالة ضمنية للغرب أن الديمقراطية لن تأتي بغير هؤلاء… خصوصا أن الضغط الأمريكي باتجاه الديمقراطية لم يأت إلا لصالح حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان والإخوان في مصر..إلخ. هذا التيار وأمام هذا الهجوم الإعلامي قام بتوظيف أطروحة “حوار الحضارات” نفيا لتهمة الإرهاب عنه، ومستغلا ارتكازها على العامل الديني ليطرح نفسه الممثل الوحيد والشرعي للحضارة الإسلامية. وهكذا بدأت الرحلات المكوكية لرجال الدين المسلمين بوصفهم الممثلين للحضارة الاسلامية في كافة ندوات ومؤتمرات حوار الحضارات. إن النظرة للصراع مع الغرب، على أساس أنه صراع على الوجود وصراع له محركات دينية وثقافية، هي نظرة قديمة جدا في الأدبيات الإسلامية، أقدم بكثير من أطروحة هانتنجتون نفسه. وذلك لأن هذا التيار تشكل ونمى في بؤر كان الاستعمار الغربي فيها مستحكما، فكان جانب مهم من تشكيلها عبارة عن ردة فعل عليه. ودائما كان الاتكاء على هذه النظرة للصراع مع الغرب يصور التيار الإسلامي بأنه الند المقابل له، مما يكسبه الكثير من الشعبية والقبول لدى عامة المسلمين. لكن الفارق الذي أحدثه تبني التيار الإسلامي لحوار الحضارات وتخليه جزئيا عن مقولة الصراع، هو اعتراف الغرب به رسميا بأنه ند مقابل له، مما يزيد من تثبيت تلك الصورة النمطية للعلاقة بين الإسلام والغرب . وعموما تباينت اراء هذا التيار حول “حوار الحضارات” من الذين يعتبرونه مجرد خدعة (٥)،  مرورا بالذين يضعون له شروطا تفرغه من معناه كاشتراط عدم التنازل وعدم الموالاة… وغيرها(٦)، انتهاء إلى الحديث باسم المسلمين في المحافل الدولية وإعلان عدة مبادئ باسمهم(٧)،  وبحث نظرة الاسلام للحضارات والاديان الأخرى…إلخ (٨). لكن بشكل عام، تم قبول هذه الإطروحة وتوظيفها لمصارعة الصور الإعلامية النمطية التي تم تصوير هذا التيار بها.
إن كان التيار الحكومي والإسلامي قد وظفا “حوار الحضارات” من أجل نفي تهمة الارهاب عنهما، فإن التيار اللبرالي قد وظف هذه المقولة من أجل غرض آخر. يمكن ملاحظة هذا الغرض في خاتمة مقالة هاشم صالح المعنونة بـ“هل حوار الحضارات ممكن وكيف “، حيث يضع شرطين لإنجاح حوار الحضارات: “الاول هو ان يتراجع الغرب عن كرهه الشديد والمتأصل للاسلام، وان يعترف بالارث الحضاري العربي ـ الاسلامي ومدى تغذيته للحضارة الاوروبية. وهذا الشيء ابتدأ يتحقق أخيرا على يد بعض المفكرين المتحررين من الاحكام المسبقة والعدائية ضدنا…. واما الشرط الثاني فهو ان يتغلب التيار العقلاني في العالم العربي على التيار المتطرف والمخطئ في فهمه لرسالة الاسلام السمحة. وهذه هي المهمة المطروحة على المستقبل”(٩). من هذين الشرطين، والثاني على وجه الخصوص، نستطيع ملاحظة كيف تم توظيف هذا المفهوم ضمن برنامج “عقلنة” العالم الاسلامي و”علمنته” حتى يتمكن المفكرون من أمثال هاشم صالح أن يكونوا هم الممثلين في مثل هذا الحوار للحضارات، لا رجال الدين المستأثرين بهذا المجال.
ماذا نلاحظ من هذه الجولة السريعة؟ إن الملاحظة المهمة والأساسية من هذا الاستعراض هو أن مختلف التيارات في الفكر العربي قامت بـ”توظيف” مقولة “حوار الحضارات”، وتقبلتها دون أي محاولة تعاط نقدي معها. هذه الملاحظة صحيحة فقط في كل الكتابات المنتمية لهذه التيارات الثلاثة، لكنها لا تنطبق على بعض الكتابات المستقلة… ككتابات جورج قرم المتنوعة في نسف أصل مقولة حوار الحضارات وكذلك كتابات عزمي بشارة وبرهان غليون وغيرهم من المفكرين.
إن الأمر الذي فات هذه التيارات والذي سيحاول هذا البحث إثباته، هو أن مقولة “حوار الحضارات” مقولة واهية، تستند على أسس معرفية هشّة، وأن استعمالها كمقولة سياسية يمارس نوعا من التعمية والإخفاء للأسباب الحقيقية للصراع والمشاكل التي نعيشها في هذا العالم. هذا النوع من التعاطي النقدي، هو الذي سنحاول القيام به في هذا البحث، عبر التنقيب والحفر في عدد من المفاهيم المختلفة التي يتم المرور عليها سريعا دون تبيين الأثر السيء الذي يمارسه اختزالنا لها في تسطيح رؤيتنا للعالم من حولنا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) قرم، جورج. المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين. بيروت: دار الفارابي، ٢٠٠٧. ص ٣٤٨.
(٢) لكريني، إدريس. (٢٠٠٩).” الإسلام والغرب ومعيقات الحوار”. (on-line). معهد الوارف للدراسات الإنسانية. <http://www.alwaref.org/arabic/2009-03-01-17-51-49/82-2009-03-09-20-11-12>
(٣) <http://www.dialoguefoundation.org>
(٤) <http://www.unaoc.org>
(٥) القصاص، محمد جلال.(١٤٢٧). “الحوار مع الآخر… خدعة عصرية”. (on-line). موقع المسلم. <http://almoslim.net/node/83644>
(٦) القاسم، خالد عبدالله. (٢٠٠٦). “الحوار بين الحضارات”. (on-line). الإسلام اليوم. <http://islamtoday.net/bohooth/artshow-86-7788.htm>
(٧) القرضاوي، يوسف. “الحوار بين الإسلام والنصرانية”. (on-line).الإسلام أون لاين <http://www.islamonline.net/Arabic/contemporary/arts/2001/article9.shtml>
(٨) المصعبي، عبدالملك. (٢٠٠٩). “الحوار الإسلامي مع الأديان التوحيدية الأخرى… الخلفيات والآفاق”. (on-line). جمعية الترجمة العربية وحوار الثقافات. <http://www.atida.org/makal.php?id=67>
(٩) صالح، هاشم. “هل حوار الحضارات ممكن، وكيف؟”. الشرق الأوسط، ٢٢ مارس ٢٠٠٢.

اترك تعليقاً