كورا التي لا تخجل

I

كانت ملتون واحدة من تلك الأماكن الصغيرة البائسة البين بين، فهي ليست كبيرة كفاية لتصبح بلدة، ولا صغيرة بالمقدار الذي يجعلها قرية بمعناها الريفيّ الساحر. فملتون لا تتوفر على أي سحر، وهي تقريبا عبارة عن مجموعة غير قابلة للوصف من البيوت والمباني في منطقة زراعية، إنها واحدة من تلك الأماكن الأمريكية الحزينة التي يوجد فيها أرصفة لكن بلا شوارع معبدة، أنوار كهربائية لكن بلا مجاري، محطة سكة حديد لكن دون قطارات تتوقف فيها لا في الصباح ولا في المساء. هذا بالإضافة إلى أنها تبعد ١٥٠ ميلا عن أي مدينة حولها بما فيهنّ مدينة ساوكس.
كورا جنكيز واحدة من آخر القاطنين في ملتون. وقد كانت ما يدعوه أهلها، عندما يختارون أن يكونوا مهذبين، بـ(السمراء)، وكذلك، عندما يختارون أن يكونوا وقحين، بـ(الزنجية)- مضيفين بعض الأحيان كلمة (بغي) بدون مبرر واضح- أما بالنسبة لكورا فقد كانت عادة روحا غير مؤذية، ماعدا أنها تقوم باللعن في بعض الأحيان.
أمضت في ملتون قرابة الأربعين عاما. ولدت هناك، وعلى الأرجح أنها ستموت هناك أيضا. كانت تعمل لدى آل ستدفنت، الذين كانوا يعاملونها كالكلبة. لكنها تحملت ذلك، بل كان عليها أن تتحمله أو أن تنتقل للعمل لبيض أفقر والذين قد يعاملونها بشكل أسوأ، أو أن تكون بلا عمل. كانت كورا كالشجرة، عندما تتعمق جذورها في الأرض، فأنها تظل صامدة مهما كانت قوة العواصف وتصارع الهواء والصخور.
كانت مستخدمة لآل ستدفنت في كل الأعمال: الغسيل، الكوي، الطبخ، الجلي، العناية بالاطفال، رعاية المسنين، إشعال النيران، وحمل الماء.
”كورا! اخبزي ثلاث كيكات لعيد ميلاد ماري غدا مساء“. ”أنت، كورا، حممي روفر بصابونة القار التي اشتريتها“. ”كورا، أعطي أمي بعض الجلي ولا تسمحي لها حتى بتذوق فطيرة العنب هذه“. ”كورا، اكوي جواربي“. ”كورا! تعالي هنا!“ ”كورا ضعي“… ”كورا“ …”كورا“…”كورا! كورا“. ودوما تجيب كورا ”حاضر سيدتي“.
كان آل ستدفنت يعتقدون أنهم يملكونها، وقد كانوا فعلا على حق في ذلك. لقد كان شيئا أشبه بأسنان مصيدة الظروف الاقتصادية التي جعلتها عمليا رهينة لهم طيلة حياتها- في مطبخهم، تطبخ، وفي ردهتهم تكنّس، وفي حديقتهم الخلفية تعلق الملابس.
هل تعلم كيف يمكن أن يكون هذا؟ كيف لهذه المصيدة أن تصطك بقوّة؟ إليك بعض الخطوط العامة:
كورا هي البنت الكبرى لعائلة مكونة من ثمانية أطفال هي آل جنكيز السود، والسود الوحيدون ولله الحمد! من أين جاؤوا أصلا- أي الكبار منهم- هذا أمر لا يعلمه إلا الله. فالأطفال ولدوا هناك، والكبار ما زالوا هناك حتى الآن: الأب يقود عربة النفايات، والأم العجوز تصيح من الوجع في المنزل، تصيح وتتشاجر. أما الأبناء السبعة فقد ذهبوا، ووحدها كورا بقيت. فهي ببساطة لا تستطيع الذهاب، إذ لا يوجد أحد يعتني بالأم. وقبل ذلك لم تكن تستطيع الذهاب، حيث لا أحد يستطيع متابعة دراسة أخوتها وأخواتها (فهي الكبيرة، والأم تتوجع). وقبل ذلك، كان يتوجب على أحد ما أن يساعد الأم بالعناية بكل طفل يأتي بعد الآخر تباعا.
وعندما كانت طفلة، لم يكن لدى كورا وقت للعب. كان دوما هناك أخ صغير أو أخت صغيرة بين ذراعيها. أطفال سيئين، ومزعجي البكاء، وجوعى وقذريين. في الصف الثامن تركت الدراسة وذهبت للعمل لدى آل ستدفنت.
بعدها، أصبحت تأكل جيدا. وكانت في بداية الأمر تعمل لنصف اليوم ثم تساعد أمها في المنزل بقية الوقت. لكن بعدها، باتت تعمل لأيام كاملة وتحضر ما دُفع لها إلى المنزل من أجل إطعام أطفال أبيها. وهذا الرجل المسن كان سكيرا. وأي أموال قليلة يحصل عليها من تنظيف خزانة، أو إزالة رماد، أو بيع خرداوات، فإنه فورا ينفقها على ذلك الشيء الذي يجعلك تنسى أن لك ثمانية أطفال.
يقضي الليالي في نسج تلك الأكاذيب الطويلة الهزلية لرعاع البيض في البلدة وفي معاقرة الخمور. وعندما مات حصانه، كانت أموال كورا هي التي ابتاعت حصانا آخر جديدا لجر أبيها وعربته المتهالكة. وعندما يحل موعد دفع قسط المنزل، مرتبات كورا هي التي تحمي الرجل من أن يُصادر منزله. وعندما دخل أبوها السجن، تسلفت كورا من السيدة ستدفنت عشرة دولارات وأخرجته.
قترت كورا على نفسها، ووفرت كورا، وارتدت ملابس آل ستدفنت القديمة، وأكلت من فضلة طعامهم، وأحضرت ما يدفع لها إلى المنزل. ولما كبر الأخوة والأخوات، قام الأولاد، وتحت جنح الظلام، بالذهاب بعيدا، إلى أقصى ما يستطيعون بلوغه بعيدا عن ملتون، واحدا بعد آخر. وكذلك الفتيات أيضا رحلن، وغالبا محملات بالعار. ”تدنسن أسمي“، هكذا قال الأب جنكيز ”يدنسن أسمي الشريف! يخرجون من أجل قطف الثمار ليعدن إلي محملات بالعار“. كان هناك أمرا ما يتعلق بفتيات جنكيز ذوات السمرة المخلوطة بالبياض يجذب عمال المزارع.
حتى كورا، المتواضعة، كان لديها يوما ما عشيقا. كان قد قدم للبلدة على قطار شحن البضائع (قبل فترة طويلة)، وعمل في اسطبل. (كان ذلك قبل أن تنتشر السيارات). كان الجميع يقول أنه ينمتي لتنظيم عمال العالم، لكن كورا لم تأبه. كان الرجل الأول والأخير الذي تستطيع أن تتذكر أنها كانت تريده. ولم يكن لها أبدا عاشق ملون، فهم أصلا ليسوا موجودين حولها، وهذا لم يكن خطأها.
هذا الفتى الأبيض، كانت رائحته دوما كالخيول. وكان نوعا ما أجنبيا. ولديه تلك اللكنة، وذاك الشعر الأصفر، والأكف الضخمة، والعينان الرماديتان.
كان صيفا، بضعة شوارع خلف منزل آل ستدفنت، حيث المروج والبساتين والحقول الجميلة تمتد بعيدا للأفق البعيد، وفي المساء حيث النجوم، معها القمر في بعض الأحيان، ترصع السماء المخملية. وحيث الصراصير والجراد والحشرات المضيئة ورائحة العش. هناك كانت كورا تنتظر. وذلك الفتى، جو، الذي يبدو وميض سجارته من بعيد كان يصفر في الظلام. لم يأخذ الحب وقتا طويلا- كورا بمزيج من رائحة طعام عشاء آل ستدفنت وعطر رخيص. جو، الضخم والكبير واللامبالي كالخيول التي يعتني بها، تفوح منه رائحة الاسطبل.
عادة ما تزمجر الأم لأن كورا عادت للمنزل متأخرة، أو لأن أحدا من الأبناء لم يكتب لها لثلاثة أسابيع أو أربعة، أو حتى لأن الأب أصبح مخمورا مجددا. وهكذا مضى الصيف، كحلم من الأكف الضخمة والعيون الرمادية.
لم تذهب كورا لأي مكان حتى تضع طفلتها، ولم تحاول حتى أن تخفي مسألة حملها. وعندما كبرت الطفلة داخلها، لم تشعر بها وكأنها عار. طلب منها آل ستدفنت الذهاب للمنزل والبقاء هناك. أما جو فقد غادر البلدة، والأب لعنها، والأم بكت. وفي إحدى صباحات أبريل ولدت الطفلة. كان لديها عيناوان رمادية وسمتها كورا جوزفين على اسم ابيها جو.
لم تكن كورا تشعر بالخزي من هذه الطفلة. فلم يكن هناك أي سود في ملتون لينشروا الأقاويل عنها، ولم تكن تهتم ماذا سيقول البيض عنها. فقد كانوا في عالم آخر. وبالطبع، فهي لم تكن تتوقع أن تتزوج جو، أو حتى الاحتفاظ به. فقد كان من ذلك العالم الآخر أيضا. لكن الطفلة كانت لها- جسر حي بين هذين العالمين. فليقول الناس ما شاءوا!
رجعت كورا للعمل لدى آل ستدفنت لتعود في الليل إلى المنزل من أجل رعاية الطفلة والتشاجر مع أمها. وفي نفس ذلك الوقت، السيدة آرت ستدفنت أنجبت طفلة أيضا، واعتنت بها كورا أيضا. سُميت طفلة آل ستدفنت الصغيرة بجيسي. وعادة ما كانت كورا، بعدما بدأتا الطفلتان بالمشي والكلام، تحضر جوزفين للعب مع جيسي… حتى اعترض آل ستدفنت قائلين بأنها سوف تنجز عملها بشكل أفضل لو تركت ابنتها في المنزل. ”حاضر، “ هكذا أجابت كورا.
لكن بعد فترة قليلة، لم يكونوا بحاجة لأن يخبروا كورا بأن تدع ابنتها في المنزل، لأن جوزفين ماتت من السعال الديكي. وفي ظهيرة يوم متورد، شاهدت كورا الجسد الصغير يتوارى داخل الأرض في نعش أبيض كلفها أجر أربعة أسابيع.
وبما أن الأم مريضة، وقف أبوها، الذي تفوح منه رائحة الكحول، إلى جانبها أمام القبر. كانا لوحديهما. لم تتقبل كورا حقيقة موت ابنتها. وبمجرد ما استدارت عن الحفرة، انهمرت دموعها- ولكن في نفس الوقت انطلق منها تيار عنيف من اللعنات مما جعل حفار القبر يرفع بصره إليها مشدوها من شدة الرعب.
لعنت الله نفسه بأن أخذ منها حياة قامت هي بإنجابها. صرخت بأعلى صوتها (طفلتي! اللعنة عليك يا الله! طفلتي! أنا ولدتها وأنت تأخذها مني!) نظرت إلى السماء حيث كانت الشمس تغرب وصرخت بتحد. الأب كان مذهولا وخائفا، قام بإركابها معه في عربته المتداعية ومضى بعيدا في طريق محفوف بالحقول الخضراء والمروج الجميلة والتي تمتد طويلا إلى الأفق البعيد. وطوال الطريق خلال البلدة البشعة، كانت كورا تنتحب وتلعن مستخدمة كل الكلمات السيئة التي تعلمتها من أبيها عندما يكون ثملا.
عادت في الأسبوع التالي إلى آل ستدفنت هادئة وقانعة بما جرى لها ومحبة لطفلتهم. في كل ظهيرة، كانت تأخذ جيسي الصغيرة للأعلى وتهدهدها حتى تنام. دافنة وجهها الأسود في رائحة شعر الطفلة البيضاء الحليبي.

II

مضت السنين، نضب خلالها عمر الزوجين جنكيز قليلاً، ومات العجوز ستدفنت، فيما أصاب السيدة العجوز سكتتان دماغيتان، وظهرت أمارات العمر- شعر أشيب، وبطن متدلي- على السيدة فن وزوجها.
كبر الأطفال أو كادوا. تولت كيت إدارة محل الأجهزة الذي تركه الجد، ورحل جاك للدراسة في الكلية، فيما كانت ماري معلمة. الوحيدة التي ظلت طفلة هي جيسي، إنها في التاسعة عشرة الآن، في عامها الأخير بالثانوية، بطيئة في دراستها إلى حد ما، لكنها ستتخرج على الأقل، وفي الخريف سوف تذهب إلى نورمل.
كرهت كورا التفكير برحيلها، وكانت في أعماقها قد تبنتها ابنة ً لها، ففي تلك العائلة الكبيرة والمُهملة، كانت كورا هي من يقف لأجلها دائماً كشجرة ظليلة، راسخة، تحتمي بها عند المصاعب. في طفولتها، عندما تعاقبها السيدة فن، كانت جيسي تجد طريقها إلى المطبخ وإلى كورا، بأسرع ما يمكنها، ودموعها لا تزال تسيل. وفي نهاية كل فصل دراسي، عادة ً ما كانت جيسي تسقط في بعض المواد (غالباً ما تفشل تماماً, كونها طفلة بليدة) كانت كورا هي أول من يقرأ التقرير ذو العلامات السيئة، ثم تفكر بعد ذلك بوسيلة لطيفة توصل بها الخبر للجدين.
دائماً ما كانت السيدة فن تخجل قليلاً من جيسي الغبية، فهي قائدة ميلتون للشؤون المدنية والإجتماعية, ورئيسة النادي النسائي ثلاث سنوات على التوالي، وأحد أركان كنيستها.  وماري ايضاً، الإبنة الكبرى، والمعلمة، كانت ستتبع خطا والدتها بوقار. لكن جيسي ! تلك الطفلة ! العقاب في طفولتها، والتوبيخ الآن لم يُغيراها من الداخل، بل ظلت الطفلة ذات النمش, البليدة, الهادئة, الغريبة. كل شخص وجد بها عيباً إلا كورا.
في المطبخ تتفتح زهرة جيسي، ضحكت، وتحدثت، بل حتى كانت فطنة في بعض الأحيان، وتعلمت ايضاً كيف تطبخ بمهارة، فمع كورا، كل شيء كان يبدوا بسيطاً جدا، ولا تصعب معاينته وفهمه كالجبر، أو قواعد اللاتينية، أو المشاكل المدنية لنادي السيدة، أو حتى مواعظ الكنيسة. لم تشعر جيسي بالراحة مع أي شخص أو في أي مكان كما كانت تفعل مع كورا في المطبخ، كانت تعلم أن والدتها تنظر لها بدونية كفتاة غبية، أما والدها فلم يكن بينهما رباط، كان مشغولاً أكثر من اللازم في البيع والشراء ليزعج نفسه بالأطفال، وغالباً ما كان خارج المنزل في المدينة كما أنه يقضي أغلب وقته خارج المنزل في المدينة.
كان خرف الجدة العجوز يضجر جيسي ويصيبها بالنعاس. فيما كانت ابنة العم نورا (ابنة عم الأم) قاسية ومتصلبة كأنها ابنة وزير. أما اخوتها واخوانها الكبار فقد ذهب كل واحد منهم في طريقه، ويكادون لا يرون جيسي إطلاقاً، بإستثاء وقت الوجبات حيث يجتمعون على الطاولة الكبيرة.
تُركت جيسي في عناية كورا ككل الأشياء غير السارة في المنزل, لكن كورا كانت سعيدة بذلك. أن يكون لها طفل تعتني به، طفل في ذات العمر الذي قد تكون جوسفين عليه، أعطاها هذا سبباً للحياة، ودفئاً سارا داخلها.  كانت هي من مرّضت ورعت ولاعبت وأحبت جيسي البليدة عبر السنوات. والآن هاهي جيسي امرأة شابة تتخرج من المدرسة الثانوية (متأخرة).
لكن، هناك شيء ما حدث لجيسي، وكورا علمت به قبل السيدة فن. لم يكن غباء الفتاة أكثر من اللازم بحيث لا يكون لها حبيب! وقد حكت لكورا عنه كأنها والدتها، وفي المقابل كانت خائفة من إخبار السيدة فن بذلك. خائفة ! خائفة ! خائفة ! فقالت لها كورا: “أنا سأخبرها بذلك” وبتواضع جم، وبلا خجل من الحياة، سارت إلى شرفة السيدة فن في أحد الأمسيات، وأعلنت قائلة بكل بساطة “جيسي ستلد طفلاً”.
ابتسمت كورا، لكن السيدة فن تصلبت كعاصفة. جف حلقها، ووقفت كجندي ثم عادت وجلست، وقفت مرة أخرى ومشت مباشرة للباب ثم التفت للخلف وهمست “ماذا ؟ ”
“نعم يا سيدتي، طفل. لقد أخبرتني بذلك. طفل صغير. والده هو ويلي ماتسولس، الذي يدير والديه كشك المثلجات في ماين. لقد أخبرتني بذلك. هم يرغبون بالزواج ولكن ويلي ليس هنا الآن، وهو ايضاً لا يعلم عن الحمل بعد”
كانت كورا ستكمل حديثها ببساطة ووضوح عن الطفل الذي لم يولد بعد لولا أن السيد فن وقعت في نوبة بكاء هستيرية فقدت السيطرة عليها. أتت ابنة العم نورا جرياً من المكتبة، ونظارتها تتدلى من السلسلة، وتدحرج الكرسي المتحرك للعجوز ستدفنت، واهتز من الضوضاء. ثم أتت جيسي عندما نودي عليها وهي محْمرّة ومتعرقة، لكن كان عليها أن تخرج في الحال, لأن والدتها  صرخت بصوت أعلى من السابق عندما نظرت من الأريكة ورأتها. ثم كان هناك رش من زجاجات الكافور والماء والثلج. وعم أرجاء المنزل صوت بكاء وصلاة .

“فضيحة ! اوه يا الهي ! جيسي في مشكلة !”
أصرت كورا “إنها ليست في مشكلة”، “ليس مشكلة أن تحمل بجنين ترغب به, لقد جربت هذا من قبل”

“اخرسي، كورا”

“حاضر سيدتي… لكن أنا جربت هذا من قبل”

“قلت لك اصمتي”


”حاضر ياسيدتي”

III

بعد ذلك، كانت جيسي مقيدة بحدود غرفتها. وعندما قدمت الآنسة ماري من المدرسة في ذلك المساء، كان هناك أربعة سيدات بيض وراء أبواب غرفة نوم السيدة فن. وللمرة الأولى طبخت كورا العشاء في المطبخ بدون أن تضايقها الأصوات الدخيلة. كان السيد ستدفنت بعيداً في ديزمونز، وبطريقة ما تمنت كورا لو كان في المنزل. ورغم كونه كبيراً وفظاً إلا أن لديه إحساس أكثر من هؤلاء النسوة، وربما كان سيجبرها على الزواج. لكن لو ترك الأمر للسيدة فن فجيسي لن تتزوج ابداً الشاب اليوناني. كورا تعلم هذا، فلم يوجد حتى الآن رجل جيد بما يكفي لأختها ماري لتكون معه. فطموحات السيدة فن العالية لا تشمل الإعجاب بابن صانع الآيسكريم اليوناني.
كانت جيسي تبكي عندما صعدت كورا بالعشاء، جلست المرأة السوداء على السرير، ورفعت رأس الفتاة البيضاء بيديها السوداوتان وقالت: “لا تهتمي حبيبتي، فقط ابقي قوية، وعندما يعود الفتى سأخبره بحقيقة الأوضاع، إذا كان يحبك فسيتمسك بك، وليس هناك أي سبب يمنعكما من الزواج، ليس وكلاكما من البيض. حتى لو كان أجنبي فهو ولد جيد ولطيف.”
همست جيسي: ” إنه يحبني،” “أعلم أنه يحبني، لقد قال لي ذلك.”
لكن وقبل عودة الفتى، (أو حتى عودة السيد ستيدفانت) ذهبت السيدة فن إلى كانساس سيتي، وذلك كما نشرت الصحيفة الأسبوعية “رحلة تتسوق لعيد الفصح”.
ثم جاء الربيع بكامل عنفوانه، وبدت الحقول والبساتين على حافة ميلتون جميلة وممتدة إلى الأفق البعيد بلونها الأخضر. تذكرت كورا ربيعها الخاص، قبل عشرين سنة مضت، ونما في قلبها عطف شديد وألم على جيسي، التي كانت في ذات العمر الذي كانت جوزفين ستكون عليه لو عاشت. كانت كورا تفكر وهي تجلس في شرفة المطبخ تقطع البازلاء في ماضيها، سنوات وسنوات من العمل لدى آل ستدفنت، سنوات وسنوات وهي تعود للمنزل ولا تجد احداً سوى الأم والأب، فالصغيرة جوزفين قد ماتت؛ جيسي هي الوحيدة من تبقي قلبها دافئاً. تدرك كورا أن جيسي هي أعز شيء لديها في العالم، وهي كانت قلقة عليها، طوال فترة غيابها هذه.
بعد عشرة أيام، عادت السيدة فن وابنتها. لكنّ جيسي كانت أنحف وأشحب من أي فترة مضت في حياتها. لم يكن في عينيها ضوء على الإطلاق. وبدت السيدة مرعوبة قليلاً حال خروجهم من القطار.
“لقد أصابها عسر هضم فظيع في كانساس سيتي،” هذا ما قالته للجيران، ولنساء النادي. وأكملت: ” لهذا جلست هناك لفترة طويلة، كنت أنتظرها حتى تستطيع السفر. المسكينة جيسي! تبدو بصحة جيدة، لكنها لم تكن ابداً طفلة قوية. إنها أحد أسباب القلق في حياتي.” وهكذا، أسهبت السيدة فن في الكلام، وأسهبت في الشرح، حول جيسي وكيف أكلت الشيء الخاطئ في كانساس سيتي.
في المنزل، ذهبت جيسي للسرير. رفضت الأكل، وعندما أحضرت لها كورا الطعام بالأعلى، همست لها، “لقد ذهب الطفل.”
امتقع وجه كورا، عضت شفتيها لتمنع نفسها من اللعن، ثم وضعت ذراعيها حول رقبة جيسي، فبكت الفتاة . وعاد الطعام دون أن يُمس.
مر أسبوع. حاولوا جعل جيسي تأكل شيئاً، لكن الطعام لا يبقى في معدتها. تحولت عيناها للأصفر، ولسانها للأبيض، وكان قلبها يدق بجنون. استدعوا الدكتور العجوز براون، لكن وفي خلال شهر(وبتلك السرعة) ماتت جيسي.
ولم تر أبداً الفتى اليوناني بعد ذلك. في الواقع، لقد فقد والده ترخيصه، ” بسبب شكاوى عديدة من أمهات الأطفال، مدعومة من نساء النادي،” قالوا فيها إنه يبيع آيسكريم ملوث. وقد كانت السيدة فن قد بدأت بحملة لتخليص البلدة من التجار غير المرغوب فيهم، والأشخاص المشكوك بأمرهم. والعائلة اليونانية كانت ستكون أحد هؤلاء. بل إنهم ولفترة ما أوقفوا عمل مهرب الخمر المفضل عند الأب جنكيز. وظنت السيدة فن أن هذا سيبهج كورا، لكن كل الذي قالته كورا، “أبي يسكر من وقت طويل جداً، لذا هو سيستمر كعادته.” ورفضت إبداء المزيد من الملاحظات على حملة مخدومتها للنقاء، ففي وسط حملة التنظيف هذه، ماتت جيسي.
في يوم الجنازة، تكدّس المنزل بالأزهار. (أقاموا مراسم العزاء في المنزل وليست في الكنيسة، آخذين في الحسبان ضعف وعجز الجدة العجوز.) توشح كل أفراد العائلة بملابس الحداد. كانت السيدة فن منهكة القوى، لكنها مع ذلك تستعيد نشاطها كلما اقتربت ساعة الخدمة، وتأكل البيض، “ليساعدني على تخطي المساء.”
” و .. كورا ” أكلمت السيدة فن، “اطبخي لي قطعة صغيرة من لحم الخنزير معها. أشعر بضعف شديد.”
“حاضر، سيدتي.”
جاء طلاب المرحلة الأخيرة من المدرسة الثانوية معاً في مجموعة. وجاء نساء النادي تميزهم شاراتهم. وجاء القس الدكتور مكيلوري بأطول ياقة لديه وأطول معطف. جلس صاحب الجوقة خلف النعش، ومعه عازف منفرد خاص لغناء “إنه الراعي قطعانه مثل الراعي.” لقد كانت أمسية ربيعية جميلة، وكانت جنازة جميلة.
إلا أن كورا كانت هناك، بالطبع وجودها لم يثر أي تعليقات (كانت خادمة العائلة)، لكنّ ما فعلته وكيف فعلته، هو الذي بقي حديث ميلتون إلى هذا اليوم، وذلك لأن كورا لم تكن متواضعة إزاء الموت.
بعدما تلى القس الدكتور مكيلوري تلاوته التأبينية، وقرأ تلاميذ الصف ذكرياتهم، وغنيّت الأغاني، وبينما كان الأقارب والأصدقاء سيمرون لكي يلقوا النظرة الأخيرة على جيسي ستدفنت، نهضت كورا من مقعدها بجانب غرفة الطعام. قالت: ”حبيبتي، أريد أن أقول شيئا“. كانت تتحدث وكأنها توجه كلامها إلى جيسي. اقتربت من الكفن ومررت يديها السمراوان على جسد الصبية الأبيض. وبدأ الاهتياج يعلو محيّاها. تسمّر القوم في مقاعدهم، وكانت لحظة صمت طويلة. وفجأة صرخت: ”قتلوك! … ولأجل ماذا؟… قتلوا طفلك… أخذوك من هنا ومن ربيع حياتك، والآن أنت رحلت، رحلت رحلت!“.
أصبح الجميع مشلولين في مقاعدهم.
تابعت كورا: ”إنهم قد قدموا من أجلك موعظة جميلة، لكنهم لم يقولوا شيئا، وغنوا من أجلك أغنية، لكنهم لم يقولوا شيئا. لكن كورا هنا عزيزتي، وهي ستخبرهم بما فعلوه لأجلك، سوف تخبرهم لماذا أخذوك لكنساس سيتي“.
ضجت بالمكان صرخة عالية، ووقعت السيدة آرت من كرسيها وتيبست كلوحة. ابنة العم نورا والأخت ماري قبعتا في مكانيهما كالأحجار. أما رجال العائلة فهموا باتجاه كورا للإمساك بها، لكنهم تعثروا بالأكاليل والزهور. وقبل أن يصلوا إليها، أشارت كورا بأصابعها الطويلة باتجاه المرأة المتشحة بالسواد وقالت ”قتلوك، عزيزتي، قتلوك أنت وطفلك. لقد قلت لهم أنك أحببته، لكنهم لم يأبهوا. لقد قلتوه قبل أن يولد“.
يد قوية أحاطت بخصر كورا، وأخرى قبضت على ذراعها. نصف رجال آل ستدفنت يجرونها، والنصف الآخر يدفعها عبر الممر بين الكراسي، وعبر غرفة الطعام المكتظة بالناس، إلى خارج المطبخ الفارغ، ثم للخارج حيث الحديقة الخلفية. وكانت تقاومهم على طول الطريق، شاتمة نسائهم. ولكن عند الباب بدأت بالنحيب، حيث سكبت دموعا غزيرة حبا بجيسي.
جلست على سلة الغسيل في الحديقة الخلفية تبكي. عند الردهة حيث بالكاد تستطيع سماع الجوقة تغني. وبعد دقائق، استجمعت قواها، وعادت إلى المنزل. وبهدوء، جمعت أغراضها من المطبخ والمستودع، مئزرها ومظلتها، وخرجت من الحديقة متجهة إلى أمها في المنزل. ولم تعد بعدها أبدا للعمل لدى ال ستدفنت.
الآن هي وأمها تعيشان على الحقل الصغيرة التي يزرعون، ومن الخردة التي يجمعا أباها- عندما يتمكنا بالقوة من أخذ جزء من إيراداته الضئيلة قبل أن يشتري خمرته.
وعلى كل حال، ففي إحدى أطراف ملتون، وبطريقة استطاع ال جنكيز السود، الأب والأم وكورا، أن يعيشوا معا.

4 Responses

  1. المجد لكورا ومن مثلها لمن يقبلون بنا بعد اخطائنا ويتجاوزن ويصلحون الامور

اترك تعليقاً