ماذا حدث للعرب؟

لعل الأسبوع الماضي كان من أكثر الأسابيع العربية رمزية في التعبير عن الحال المتردية التي وصلنا إليها. ولعل الرمزية تزداد إلحاحا عندما تتشكل على هيئة دعابة أو سخرية تنطق بها أفواه البسطاء من الذين استعصى عليهم استيعاب كل الذي يجري حولهم من تخبط وانقسام، فراحوا يعبرون عن اللحظات الحاسمة والمصيرية وكأنها مشاهد هزلية لا تستدعي سوى الضحك. إن “الانقسام” وتفاقمه، هو السمة السائدة للواقع العربي منذ الخمسينات والستينات الميلادية. ولعل العودة إلى التاريخ واستعادة أحداث قصة “الثورة الجزائرية” مهم جدا لوضع قيمها ومناخها وجها لوجه أمام قيم ومناخ ما يجري هذه الأيام…

لقد كان إعلان الجزائريين الكفاح المسلح والقيام بعمليات متنوعة في وقت واحد في طول البلاد وعرضها، ضربة موجعة ومفاجئة لفرنسا، التي طالما تعاملت مع الجزائر باعتبارها أرضا فرنسية استطاعت دمجها كليا إلى فرنسا الأم. كانت الرؤية واضحة أمام الثوار الجزائريين: طرد المحتل، ورفض التقسيم، والسيادة الكاملة على البلاد دون قيد أو شرط… كما كانت الوسائل واضحة: الكفاح المسلح والسياسي والاقتصادي، وكذلك كان الأفق واضحا جدا: العودة إلى الفلك العربي والمغرب العربي الكبير الذي ينتمي إليه الجزائريون…

واجهت فرنسا هذه الثورة بالعديد من الإجراءات: أنزلت أكثر من 700 ألف جندي فرنسي في الجزائر، إضافة لـ 200 ألف مستوطن مسلح تسليحا كاملا، واستطاعت تدبير مكيدة لخطف قواد الثورة الخمسة بن بيلا ورفاقه، وقامت بقتل أكثر من مليون ونصف المليون شهيد وأنفقت حوالي 770 مليار فرنك سنويا على مدى سبع سنوات. كان أي عمل ثوريّ في أي مدينة أو قرية صغيرة في الجزائر، تتم مقابلته بقصف جوي أولا، ثم بعد ذلك ضرب من المدرعات والمدافع. استخدم الفرنسيين وسائل بشعة في التعذيب، فكانوا – كما يقول المؤرخ جلال يحيى- “يجردون الجزائريين من ملابسهم كاملة، ويقيدون أيديهم وراء ظهورهم، ثم يضعون رؤوسهم في الماء المغلي”، كما أنهم كانو يعلقونهم “من أرجلهم في أسقف الحجرات ويواصلون ضربهم على رؤوسهم المدلاة أسفل”…”وأخيرا استخدموا التيار الكهربائي ليمر بين رؤوس الوطنيين وأرجلهم…”. كما هدد النساء بقتل أبنائهن أمامهن وهدد الرجال باغتصاب نساء أمامهم… ولم تتوانى فرنسا من وصف الثوّار بأنهم “جماعة إسلامية إرهابية”… ووصف ما تقوم به على أنه دفاع عن نفسها وحماية للجزائريين من هؤلاء “الإرهابيين”، بل حملت المقاومة مسؤولية سقوط القتلى! وباختصار: استخدمت فرنسا كل ترسانتها العسكرية ومارست كل الأعمال الوحشية من أجل إيقاف الثورة الجزائرية، لكنها لم تنجح…

أحد أهم أسباب صمود الثورة موقف الدول العربية المجاورة، فكان دعم المقاومة بالسلاح يتدفق على المقاومين من تونس والمغرب ومصر، وكان موقف مصر الداعم للمقاومة قد قاد فرنسا للاشتراك في العدوان الثلاثي عليها، ولم يثن ذلك المصريون عن دعم أخوتهم. ولكي تعزل فرنسا الجزائريين عن باقي العرب قامت ببناء “سور عازل” طويل يمتد قرابة الأربعمائة كيلا بين الجزائر وتونس وأخلت المنطقة الحدودية بينهما. ودائما كان هناك وصوليين يسعون لمصالحهم الشخصية، فحاولت الحكومة الفرنسية الاستفادة منهم وتضخيم دورهم باعتبارهم ممثلين للجزائريين من المؤيدين للإندماج بفرنسا، لكن المقاومين كانوا يردون بعمليات على الأرض بعمليات متنوعة ومتعددة.

انتقلت العمليات إلى فرنسا نفسها، وتأثرت الخزانة الفرنسية، فرفعت الضرائب واستدانت من الدول الأخرى، بل تعاظم الأمر إلى انقلاب أنهى الجمهورية الفرنسية الرابعة وجاء بالخامسة على رأسها الجنرال ديجول رئيسا للسلطة، الذي نالت الجزائر استقلالها في عهده. كانت هناك العديد من المحاولات لإيجاد أنصاف حلول من قبل الفرنسيين، فتقدموا باقتراحات عديدة لجبهة تحرير الجزائر، لكن المقاومين رفضوا أنصاف الحلول ولم يقبلوا التفاوض إلا على المطالبات الأساسية التي نشروها في بيانهم الأول، ونالوها كاملة وبينوا أن دماء المليون ونصف المليون شهيد ليست رخيصة وأنها لم تذهب سدى.

هؤلاء العرب الذين نتحدث عن ثورتهم ومقاومتهم وتعاونهم هنا، لم يوجدوا قبل آلاف السنين، بل تواجدوا قبل خمسين سنة فقط. إن هؤلاء العرب الذين ساهموا وضحوا وناضلوا من أجل استقلال بلدانهم من القوى العالمية والإقليمية الكبرى المحيطة، لم يفعل أسلافهم أكثر من أن عادوا من جديد للتبعية والهيمنة.فيا ترى، ما الذي أصاب العرب؟ لماذا تصبح المقاومة إرهابا؟ ويصبح مساعدة المقاومة: تهريبا للأموال والسلاح؟ هذه ليست أسئلة سياسية فقط، بل تمتد لتسائل كافة جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية خلال الخمسين سنة الماضية، لتسائل كل هذه الجهود: كيف حدث أن تم انتاج جيل مثل هذا الجيل؟

2 Responses

اترك تعليقاً