ديانة العلم

في صحيفة عكـاظ نقاش حول العلاقة بين الدين والعلم، بدأ أولا بين عبد العزيز قاسم وتوفيق السيف، وامتد مع تعليقات كل من جمال سلطان وخالد الدخيل. والسؤال الرئيسي الذي دار حوله النقاش هي العلاقة بين الدين والعلم: هل هي علاقة اتصال أم انفصال؟ أم هي ليست هذه ولا تلك بل اندماج تام؟

فالسيف يرى أن البحث العلمي لابد أن يكون حرا، فلا يتدخل الدين فيه إلا في المجال الأخلاقي المنحصر في السبيل الأقوم لتوظيف منتجاته. وتدخل الدين في الحد من العلم، كمنع تدريس الفلسفة- أم العلوم وأساس التفكير العلمي- سبب في زيادة التخلف وإن ترافق مع زيادة الإيمان.

في المقابل يرى قاسم أن الدين من العلم، وبالتالي لا مجال لفصل الشيء عن نفسه، فضلا عن مناقضته إياها. ويرى أن الدعوة للفصل ما هي إلا رؤية علمانية صرفة تبغي استنساخ الحضارة الغربية، لم تجن سوى الفشل وذلك بسبب تدين البيئة العربية. والدين والتجربة والعقل، نظرا لكونها من مصادر المعرفة، فلابد أن يتعاضدوا لا أن يُضرب أحدهما بالآخر. وكذلك يرفض تصوير الإسلاميين بأنهم يرفضون العلم، ويوضح أن الرفض محصور بتلك النتائج التي تتناقض مع قطعيات الوحي، فموقف المؤمن منها: انتظار أن يتم اثبات خطأها، تماما كما حدث مع الداروينية.

أما جمال سلطان فينادي بتحرير المصطلحات أولا، فالدين هو الاسلام، صانع الحضارات، وليس أي دين، أما العلم فهو الرياضيات والفيزياء، لا الأدب والفلسفة. وبهذا التحديد نقول بسهولة أن لا تناقض بين الاثنين. وكذلك يؤكد على أنه لا معنى من طرح هذه الاشكالية في الأوساط الاسلامية لأن الاسلام هو باعث الحضارات، ويلفت الانتباه إلى ضرورة محاصرة العلوم بالقيود الاخلاقية.

وأخيرا يأتي خالد الدخيل ليؤكد على ضرورة الفصل بين الدين والعلم، على اعتبار أنهما منهجين متمايزين لاستخراج المعرفة من المعلومة، وتمايزهما ليس تمايزا قيميا. ومن هذا المنطلق يرفض تصوير كل فكر ونظر على أنه علم، بل هناك بالاضافة للعلم كل من الأدب والدين والفلسفة وغيرها، كل منها فيه جانب من الفكر والنظر. ولتوضيح التمايز بين الدين والعلم، يذكّر بأن في الدين مساحات ممنوع التفكير والنظر فيها، كالعبادات، ومساحات أخرى يكون التفكير والنظر فيها مقيدا كفقه المعاملات وغيره؛ في حين أن الاجتهاد والفكر في العلم غير مقيد، وهو لا يرتهن لسلطة غير العقل.

وهذه التصورات الأربعة، على الرغم من كونها تبدو متمايزة عن بعضها، إلا أنها تنطلق من مسلمات مشتركة تعود كلها إلى ما قبل القرن الـ20. أولى هذه المسلمات أن الصراع الذي دار بين علماء النهضة الأوروبية كجاليليو وغيره والكنيسة، كان صراعا بين “الدين والعلم”. وثانيها أن هناك في العلم حقائق يقينية، وهذا تصور للعلم لا يتجاوز تصورات منطق باكون وفيزياء نيوتن. أما ثالثها، أن ثمة في الاسلام قطعيات غير قابلة لإعادة النظر، وهذا تصور للدين تم تثبيته في جميع المذاهب الاسلامية التي استكملت نضجها في عصور الانحطاط.

فالعالم – المسيحي والاسلامي- كان قد استقرت فيه تصورات محددة للكون. فهناك تصورات محددة للزمان، ولكون التراب والماء والنار والهواء عناصر أساسية يتكون منها العالم، وهذا ينقسم إلى ما فوق فلك القمر وما تحته… ومن هذه الاساس الايبيستمولوجي نشأ منطق أرسطو وفلك بطليموس وطب ابقراط، وفي نطاقه لا ضدا عليه جاءت بعض التعديلات والاضافات والنقود التي شهدتها الحضارة الاسلامية، كتعديل ابن الهيثم للبصريات وإضافة الجبر ونقد كل من ابن تيمية وابن خلدون للمنطق. ومن هذه التصورات بنت العديد من المذاهب والمؤسسات الدينية عقائدها، فلكي تثبت العقيدة الأشعرية أو الكاثوليكية أو الأرثوذكسية او الاعتزالية عقيدتها، كانت تنطلق من تصورات منطقية وطبيعية وميتافيزيقية تعود للأساس الاغريقي لتوائم بينه وبين تفسيرها للنصوص الدينية، وبهذا ارتبطت صحة عقيدتها بصحة “مجموعة المعارف” التي استندت عليها.

وليس هذا فقط، بل إن مثقفي تلك العصور ومتمرديها وهراطقتها كانوا يلوذون بهذا الأساس المعرفي لتأكيد تفوق اختياراتهم على غيرهم، ومن هنا كان تصور دوران الارض حول الشمس يماثل في سذاجته لدى مثقفي ذلك الزمان سذاجة تصور دوران الشمس حول الارض لدى مثقفي زماننا.

وفي هذا السياق وحده، تمت مناهضة القائلين بهذا الرأي على كافة الجبهات: الفلكيين لمخالفته ما تقرر لديهم من علم، والدينيين لانبناء عقيدتهم على هذا الاساس، وغيرهم. فالصراع لم يكن بين “العلم والدين” بقدر ما كان صراعا بين تصور جديد للعالم وتصور قديم له، شاءت المصادفة أن يكون ممثل الاول عالم كجاليليو وأن يكون ممثل الآخر مؤسسة دينية كالكنيسة الكاثوليكية.

وتصوير الصراع على أنه صراع بين العلم والدين، إنما تم على يد مؤرخي القرن الـ18 والـ19، في حربهم ضد المسيحية مؤسسين بذلك لديانة جديدة هي ديانة العلم. فما كاد يتم لهم الانتصار حتى تشكلت مذاهب شمولية تتوسل العلم، كالماركسية والنازية، تحولت إلى دول كانت احد أطراف الحرب العالمية الثانية. وبسبب الدمار الذي خلفته، وبسبب ظهور تصورات جديدة للعالم مهد لها كل من اينشتاين وبلانك، وبسبب ظهور نظريات أخرى تدعي العلم كالفرويدية والأدلرية، طرح كارل بوبر هذا التساؤل: ما هو العلم؟… وللحديث بقية.

اترك تعليقاً