بعد كتابتي لتدوينة “حول موضوع “الرق” وكيفية تعامل الإسلام معه” ثار نقاش مطول بيني وبين المعارضين لما طرحته في تلك التدوينة. الخلاف دار حول جوانب متعددة، لكن الذي لاحظته هو سيطرة مفهوم “الحرية” اللبرالي على عقول من حاورني. لهذا سأكتب في هذه التدوينة السريعة حول ماذا تعني “الحرية”.
في هذه الأيام عندما نتكلم عن الحرية، فنحن نتكلم عن المعنى اللبرالي لها، أي تلك المساحة المتروكة للفرد يفعل فيها ما يريد. إنها تعني “زوال القيود”، إنها تعني المساحة التي لا تتدخل فيها الدولة أو السلطة وتتركها للفرد يمارس فيها ما يشاء. بهذا المعنى، لا توجد “حرية مطلقة”، أي “لا بد أن توجد قيود”، وعند تحديد هذه القيود ينقسم الناس ويتنوعون: هل تتدخل الدولة في طريقة تربيتنا لأبنائنا؟ هل تتدخل الدولة في ما نلبس من ملابس؟ هل تتدخل الدولة في ما نأكل؟…إلخ.
هذا المعنى للحرية هو ما يقصده من يقول “يولد الناس أحرارا”، أي يولدون بلا قيود، ولكن تأتي القيود من عدة اتجاهات. في البداية كانت القيود تأتي من الدولة وكل كتابات جون لوك وغيره انما موجهة لحماية هذه الحرية من الدولة. بعد ذلك جاءت القيود من المجتمع والرأي العام، فخرج لنا جون ستيوارت مل بكتابه “في الحرية” ليوضح المساحة التي يمكن للمجتمع أن يتدخل من خلالها في حرية الفرد. وأغلب الخلافات حول “الحرية” هذه الأيام إنما يدور حول هذا المعنى “أين يوضع القيد؟ وما هو حجم المساحة التي يجب أن تتاح؟”.
ولكن هذا المعنى الحديث لا علاقة بينه وبين الحرية التي تأتي كنقيض للعبودية. فالحرية اللبرالية هي مقابل للقيود، وليست مقابل للعبودية، والعبودية ليست هي القيود، بل هي الضرورات والحاجات. الحرية المقابلة للعبودية هي امتياز ولا يولد الناس أحرارا بهذا المعنى. نحن لا نولد “بلا حاجات ولا ضرورات”، بل على العكس نولد ونحن مستعبدين لحاجاتنا وضروراتنا. وحريتنا تعني تخلصنا من هذه الحاجات والضرورات، بمجرد ما نتخلص من هذه الحاجات والضرورات نصبح أحرارا. المشكلة تكمن هنا أن هذه الحاجات والضرورات ليست حاجات مؤقتة، بل هي حاجات دائمة، إنها حاجات الحياة نفسها: حاجات الدورة البيولوجية فينا وضروراتها، ما به نستمر في الحياة ونعيش، وبالتالي حتى نصبح أحرارا بشكل دائم علينا أن نستطيع سد هذه الحاجات بشكل دائم.
كيف يمكن سد حاجات مجتمع كامل قبل اختراع الالات والراسمالية؟
الجواب: هو العبيد.
بدون وجود عبيد نسخرهم من أجل سد حاجاتنا لا يمكن لنا أن نتمتع بهذه الحرية. الحرية = سد حاجات. وسد الحاجات لا يتم إلا بعبيد، إذن: الحرية تشترط وجود العبيد.
ماذا سيحدث لو لم نستعبد احدا في ذلك الوقت؟
الجواب: هذا لا يعني أن الجميع أصبحوا أحرارا، بل هذا يعني أن الجميع أصبحوا عبيدا لحاجاتهم، ولن يتحرروا من حاجاتهم الا اذا وجدوا من يحررهم منها: آلات أو عبيد أو شركات تقوم بتوظيف عمال وتسخرهم لسد هذه الحاجيات.
فالحرية التي تعني زوال القيود: شيء، والحرية التي تعني التحرر من الحاجات والضرورات البيولوجية: شيء آخر ومختلف.
مثال: في أمريكا يتمتع الافراد بمساحة من الحرية اللبرالية (أي زوال القيود)، لكن الفقير الذي لا يجد مسكنا (الهوملس) لا يعيش فيها إلا حياة العبيد: يكون همه اليومي منذ أن يستيقظ حتى أن ينام هو أن يجد ما يستطيع أن يبقيه حيا لليوم الاخر.
فعندما نقول أن الناس يولدون أحرارا، فنحن نعني الحرية اللبرالية (أي بلا قيود).
ولكن اذا كنا نقصد بان الناس يولدون احرارا، انهم ليسوا عبيد، فنحن نغالط الحقيقة، لأنهم عبيد لحاجاتهم، ولا يصبحون أحرارا إلا إذا كان هناك من يقوم بسد حاجاتهم.
مهمة (سد الحاجات) التي من خلالها يتحرر بعض الافراد كانت موكلة في الماضي للعبيد، أما اليوم في المجتمع الحديث فهي موكلة للعمال: للذين يعملون في المطاعم والمصانع وآبار النفط والمناجم وغيره، لتلك الطبقة الدنيا الفقيرة والتي لا تملك الا طاقتها الجسدية تبيعها مقابل أن تستمر على قيد الحياة تماما كما كان يفعل العبد سابقا.
أخيرا، إذا عدنا للمعنى اللبرالي للحرية: هل نحن فعلا نولد بلا قيود؟
الجواب: لا، نحن نولد في دولة سياسية ضمن ظروف اقتصادية واجتماعية محددة ولم نخترها، تشكل هذه الظروف قيودا على حرياتنا، ولأن كل انسان يولد داخل مجتمع، فهو يولد مقيدا وليس حرا.
أرجو أن يكون واضحا الآن اننا عندما نتحدث عن تحرير العبيد نحن لا نتكلم عن تحريرهم من القيود، بل نتحدث عن تحريرهم من حاجات غيرهم وحاجاتهم.