في موسم الجدل عن الدكتور عزمي بشارة في السعودية.

* بالذات في هذا الموضوع أرجو أن أكون موضوعياً منصفاً قدر الإمكان, سأحاول ألا أتنبى أحداً, سأحاول توصيف استثنائية مشهدنا المحلي في هكذا جدل.
* لن يكون هنا examples of evaluation essays أي حديث عن ( هل أخطأ الدكتور عزمي أم أصاب ؟!

), فقد أوسعت هذه الجُزئية نقاشاً و جدلاً.
* الملاحظ أن أي حادثة جديدة ( أفكاراً كانت أم أشخاصاً ) تأتي إلى المشهد الثقافي المحلي تؤذن عادةً باستعار الحرب الباردة بين المحافظين و الإصلاحيين.

* و لأن الطرفين قد خرجوا من رحم واحدة, حيث كانوا رفاق الأمس حتى قرر الإصلاحيون ممارسة نقد للطرح المحافظ و جدارته في أن يتم تبنيه و جدواه في تحقيق مصالح الأمة و المجتمع , فإن الجدل هنا من السهل استثارته بل قد يتحول من الموضوعي إلى الحزبي أو الشخصي.
* هذا الجدل حول الدكتور عزمي طبيعي جداً و متوقع جداً و إيجابي جداً !
فهو واقعي لأن كثافة حضور الدكتور عزمي عبر مقالاته و أحاديثه عن الشأن العربي لا يمكن أن تمر مرور الكرام على مشهد ثقافي يتنازعه محافظ يحرس ما بقي به من محافظه ( حيث حصن الإسلام الأخير ) و إصلاحي يهتم بجديد الأفكار و يرى أن ثمة محافظة غير مبررة تجثم على المجتمع.

و هو طبيعي لأنها قد غدت سنة لدينا أن يثور هكذا جدل في هكذا موقف, و الذين عاصروا الجدل الذي ثار ( و مازالت له بقايا ) حين تلقي و تبني أفكار محمد عابد الجابري يفهمون ذالك جيداً. الناس حينها لم يشرقوا و يغربوا في موقفهم منه بل شرقوا و غربوا في حكمهم على بعضهم و فرزهم لأنفسهم من خلال مواقفهم مما كتبه الجابري !
و هو إيجابي لأن الناس سيكونون من هذا الجدل على ثلاثة أقسام :
1 ) قسم لم يقرأ للدكتور عزمي و لم يتابع طرحه, و من الطبيعي أن هذا القسم قد يتساءل ( فيمَ يتجادل الناس كل هذا الجدل ؟! ), و قد يتبع هذا التساؤل إطلاع على فكر الدكتور عزمي و طرحه, و لاشك أن مثل هذا الإطلاع هو إضافة مهمة لفكر كل شاب.
2 ) قسمٌ دافع عنه و تبنى أراءه, و هذا القسم سيزداد قرباً من فكر الدكتور و فهماً له, لأن الواحد من الصعب أن ينسى فكرة تبناها ذات يوم و دافع عنها بحماسة.
3 ) قسم هاجم الدكتور و شنَّع عليه, و هؤلاء لا يُستبعد أن يعود و لو بعضهم – بعد هدوء عاصفة الجدل – إلى القراءة و المتابعة أكثر للدكتور بشكل هاديء و متزن, مما قد يُسهم و لو قليلاً في تفهمهم لطرحه و تخفيف ملامتهم عليه.

* الشيخ يوسف الأحمد له جماهيريته المعروفة و رمزيته عند تيار محافظ صار يفتقد للرموز بشكل واضح و هو الذي اعتاد ترميز أشياخه, و هو ذكي في تتبع قضايا المجتمع الملحة و مباشرتها بالحديث و الطرح, لذالك من الطبيعي أن يجلب الشيخ الأحمد الكثيرين إلى رأي ما لمجرد أنه رأي الشيخ يوسف الأحمد.
* أتصور أن الشيخ الأحمد قد ابتدأ الأمر بما كتبه في صفحته على الفيس بوك من تخلي الدكتور عزمي عن الثورة السورية و طعنه لها, الأمر الذي يدل أن الشيخ الأحمد كان يتابع ما يطرحه – عبر الجزيرة تحديداً – الدكتور عزمي. و هنا نطرح تساؤلاً :
ألم يشاهد الشيخ الأحمد – الذي يصفه محبوه بالعدل و تحري الإنصاف – شيئاً يستحق الإشادة و الثناء مما يطرحه الدكتور عزمي ؟!
ألم يعرف له سوى عبارات مجتزأة و قابلة للتأويل, قام هو بالتقاطها و كتبها على حائطه ؟!
* وصف الدكتور حاكم المطيري – أحد أقطاب السلفية في الخليج – الدكتور عزمي ب( العربي الحر ), و قدم له الثوار في تونس شكرهم و تقديرهم, أما في مصر فقد كانت تحليلاته تُتابع في ميدان التحرير كل مساء بإهتمام بالغ حتى قالت عنه نواره نجم ( هو الكوتش بتاعنا ), و في اليمن استجاب الثوار في اليوم التالي لمطالبته لهم برفع علم فلسطين في الساحات, أما في سوريا فقد استطاع الرجل – الذي بدا ناصحاً أول الأمر لأنه اعتقد أن الفرصة كانت مواتية لإصلاح حقيقي جذري – أن ينفض يده من يد النظام, و اسأل صفحات الثورة السورية في الفيس بوك التي اعتبرته أحد الشرفاء الذين دعموا الثورة و اسأل أبواق النظام كرفيق نصرالله و ناصر قنديل و غيرهم الذين لا يكلون من التعرض له و التعريض به بعد أن كان لديهم بطلاً قومياً.
* و قبل ذالك كانت مواقف الرجل من المقاومات العربية الرافضة للغطرسة الأمريكية و الإحتلال الإسرائيلي, و شدة نقمته على الأنظمة العربية التي سلمت العنق العربية لمقصلة العدو. و قبل ذالك سيرته داخل اسرائيل و إصراره على الهوية العربية للفلسطنيين و أنهم أهل البلاد الأصليين, و أن العالم العربي هو امتدادهم وانتماؤهم تاريخاً و هويةً و مستقبلاً.
* تهكم الدكتور عزمي بالديمقراطية الإسرائيلية و بدعاوى الأخلاق و الإنسانية التي يرددها الساسة الغربيون, فضحها و عراها كثيراً و دعا العرب ألا يعتبروا حل قضية فلسطين بيد الأمريكيين بل بأيديهم.
* مع الدكتور عزمي قد تسمع كلاماً عن الإسلام لا تسمعه من كثير من المفكرين, قبل أيام قليلة كان في القاهرة يردد و يشيد بالمقولة الفقهية ( حيث يكون العدل فثم الشريعة ).

* إذن فلماذا بنى الشيخ الأحمد ( رأياً تاماً ) حول الرجل و اطلق حكماً عليه لا على ( ذات فعله ) ؟!
لماذا فعل هذا بناءاً على كلام مجتزأ و قابل للتأويل وله ما قبله و ما بعده من حديث نفس الرجل عن ذات الموضوع ؟!
* بما أن الجدل قد أصبح حول تأويل كلام ما أو اعتباره صريحاً لايقبل تأويل, و حول اجتزاء هذا الكلام أو أخذه في سياقه و فهمه حسب خلفيات متلقيه, إذا ما كانت الحالة هذه فلا بد من الذهاب إلى تخمينات أو تفسيرات ماورائية ( ليست موجودة في نص مكتوب و لا كلام مسموع ) !
* يبدو أن الشيخ الأحمد قد ضاق ذرعاً بهذا المحلل السياسي الذي صار مُتابعاً و مسموعاً أكثر مما ينبغي. و لأن الشيخ الأحمد مهتم جداً بتتبع حاجات المجتمع و مطالب الناس و الحديث حولها فقد كان من الطبيعي – في هذا الجو الثوري العربي الذي يبهر العالم – أن يتجه الشيخ إلى هذا الموضوع و لو متأخراً – بعد إنجاز ثورتي مصر و تونس -, إلا أنه قد شعر بوجودٍ مهم للدكتور عزمي في التنظير لهذه الثورات و إمدادها بالرؤى و التحليلات, و من الطبيعي في هكذا حالة أن تكون إزاحة هذا المفكر هماً و شغلاً شاغلاً لمن أراد أن يحل محله. و مما يلفتُ الإنتباه هنا هو أن عدد المعجبين في صفحة الدكتور عزمي يتجاوز ال25000 بينما هم أقل من ال10000 في صفحة الشيخ الأحمد !
* و هذا التخمين / التفسير مفهوم و معقول فلو تجاوزنا لحظية و جزئية هذه الحادثة و ألقينا نظرة سريعة على خط الزمن ( و بالذات في العقدين الأخيرين ) فإننا نلحظ خشيةً متزايدة لدى التيار المحافظ من تزعزع حضوره الملحوظ في المجتمع, فقد كان هذا التيار في عقود مضت هو صاحب الخطاب الأقوى ( و قد يكون الأوحد ) في المجتمع, و هو الذي له الحق وحده في فرز الأراء التي يحق للمجتمع تبنيها أو حتى تعاطيها و تداولها. كأنه عالم أحادي القطب لا يريد هذا القطب لصوت فيه أن يعلو, بل لا يحق للخطاب الثقافي و الفكري أن يتشكل خارج عباءة هذا التيار ( و الموقف من أدب الحداثة في الثمانينات مثال على ذالك ). يزيد من حدة الشعور بالتراجع هذه عدم وجود حالة جهادية كالحالة الأفغانية تُذكي بطولاتُها خطابَ هذا التيار و يُتكأ عليها لطرح خطاب رومانسي حالم يجمع حوله أبناء أمة أثخنتها الهزائم والخيبات, أضف إلى ذالك تناقص أهمية هذا التيار لدى المؤسسة الرسمية بعد أن زال طوفان التيارات الناصرية واليسارية في المنظقة العربية.

* بقيت نقطة أخيرة و مهمة و هي أنني لاحظتُ فيما كتبه الشيخ الأحمد وصف الدكتور عزمي ب( النصراني ) الذي خان الثورة السورية بسبب معتقده, كما قال تلميذه الأستاذ عبدالوهاب آل غظيف في تدوينة له عنه ( اعلموا أن الكافر الشجاع شر عند الله من المسلم الجبان ) و هذا في تصوري يثبت أن الشيخ و تلميذه لم يروا من الدكتور عزمي سوى ( كفره و نصرانيته ).
هذه اللغة التفزيعية – يريدونها أن تكون القشة التي تقصم ظهر البعير – و هي تُثبت أن الطائر عاد إلى عشه القديم, و أنه حتى في مواضع نقاش الأفكار و التحليلات و تأويلها فإن هذا الخطاب أسير لثنائية ( الإسلام / الكفر ) و ( الهدى / الضلال ), و غني عن القول أن العزف على وتر هذه الثنائية موجهٌ إلى الرأي العام المحلي ليتم فض الناس من حول طرح هذا المفكر و إحراج التيار الذي تبنى و تفاعل مع كثير من أرائه ( بالذات حول الديمقراطية و المواطنة ).
إنه تحويل للسؤال عن موقف شخص ما من عزمي بشارة إلى أحد أسئلة الحسم …. ( قل لي ما رأيك في عزمي بشارة … أقل لك من أنت ؟! ).

نايف السلمي
16 يونيو 2011