بين نقد الخطاب الإنساني.. ونقد استغلاله

هناك الكثير من المؤسسات والأحزاب والتيارات والأشخاص من يتبنون الموقف السلامي الإنسانوي الآتي: «الحرب شر، يروح ضحيتها المدنيون، يجب أن نوقفها».

وككل موقف، فإن لديه معارضين، إلا أن معارضي هذا الموقف الإنساني السلامي ليسوا سواءً، فهناك- على الأقل- نوعان مختلفان من النقد الذي يوجه إلى من يتبنى هذا الموقف.

الماركسيّة مثال جيّد لتوضيح هذا الفرق. فقد وجد في التاريخ تيارات ودول وحركات تنسب نفسها إلى هذه الآيديولوجيا، وهناك الكثير أيضاً من النقاد. الناقد الأول: نظر في دعوى الدولة الشيوعية بأنها الممثل للماركسية، وراح يفنّد هذه الدعوى، مبيناً أنها براء مما تفعله الدولة السوفياتية، وأن هذه الأخيرة لا تفعل أكثر من استغلال الأولى. ما الذي قام به هذا الناقد؟ إن الذي قام به هو إنقاذ للماركسية مما اقترفه السوفيات؛ تبرئةً لها من سلوكيات السوفيات، إنه في نهاية الأمر نقد ماركسي للشيوعية.

في المقابل، جاء الناقد الآخر وفتش عن أكثر المؤسسات والجهات والتيارات صدقيةً في تبنيها الماركسية، وراح ينتقدها. ما قام به هذا الناقد الثاني أمر مختلف تماماً عن الذي قام به الناقد الأول، فهو هنا لا يحامي عن قيم النظرية ضد استغلالها، بل يسعى لنقد هذه القيم عبر أفضل ممثليها ومطبقيها. إنه نقد للماركسية، وليس نقداً لاستغلالها.

بالمنطق السابق نفسه، نستطيع القول أيضاً بأن هناك نوعين من نقد الخطاب الإنساني؛ فنقد منظمات مثل منظمة أطباء بلا حدود أو الصليب الأحمر أو هيومن رايتس ووتش أو منظمة العفو الدولية، يختلف بشكل كبير عن نقد دولة مثل أميركا تدَّعي أنها تعمل من أجل القيم والمثل والأهداف نفسها التي تعمل من أجلها تلك المنظمات. ففي الحالة الأولى النقد موجه إلى منظمات صادقة في تبنيها لما تتبناه، أما في الحالة الثانية فالنقد يكون للاستغلال والادعاء والكذب والتوظيف لهذه المثل. إن الذهاب إلى هذه الدولة أو الجهة أو تلك ممن يرفعون خطاباً إنسانياً؛ لتمرير أجندة سياسية محددة، وفضح استغلالها للخطاب الإنساني ومثله، والكشف عن الأجندة السياسية الحقيقية الثاوية خلف هذا الاستغلال، هو نوع من الدفاع عن هذا الخطاب، حراسته من المستغلين له، و(تبرئة) له من استغلالهم، إنه نقد إنساني لاستغلال الخطاب الإنساني.

هذا النوع من النقد لا يفيد شيئاً أولئك المتعطشين لنقد الخطاب الإنسانوي نفسه؛ لأنه نقد يحرس الخطاب، وجل همه الكشف عمن يستغله ليفضحه، إنه نقد يعيد النقاء للخطاب عبر تنقيته ممن دنَّسه، إنه نقد حارس للعقيدة القويمة التي يمثلها الخطاب يسعى لتكفير المتلاعبين والمنافقين والمشعوذين، وهو لهذا السبب ليس نقداً للخطاب، بل دفاع عنه.

في المقابل هناك نقد جاد للخطاب السلامي الإنساني، نقد ليس معنيّاً بلعبة التفتيش عن المنافقين؛ من أجل تعريتهم، بل هو نقد له عبر نقد المخلصين له، نقد له ولما يكشفه من رؤية وفلسفة للكون. هذا النقد هو النقد الأكثر فائدة معرفية، النقد الذي يسائل الخطاب نفسه، يحاول تفكيكه وفهمه والكشف عن مشكلاته ومساوئه ومزاياه.

مثال على هذا النقد هو ما قدمه كارل شميت عندما كشف أن أكثر الأشخاص سلاميةً وإنسانيةً بحاجة إلى حرب أخيرة، تكون نهاية كل الحروب، وأنه بتحويله الحرب أو ما يؤدي إليها عدواً له، فإنما ينقل علاقة العداء، والتي هي العلاقة التي تعرّف السياسة، من فضاء ما إلى فضاء آخر، ينقلها، لكنه لا يلغيها.

مثال آخر يأتينا من الفرنسي ديدير فاسين، والذي كشف عن استحالة مقولة المساواة بين البشر التي تمثّل الركن الرئيس للخطاب الإنساني السلامي. فبحسب فاسين، هناك دائماً مفاضلة في الأرواح بين البشر، فعندما تفكر منظمة إنسانية سلامية في إنقاذ أحد، تُجري مفاضلة بين حياة المنقذ وحياة من تُنقذه، جاعلةً من حياة الأول أولوية لها. هل يُضحَّى بالطبيب أم بطفل مصاب بمرض؟ هذا السؤال يكشف كيف أنه، وفي أشد الحالات إنسانية (تقديم الرعاية الصحية)، لا يزال هناك فروقات في القوة بين الأطراف.

هذه الأمثلة توضح أن نقد الخطاب الإنساني عملية أعقد بكثير من مجرد كشف الاستغلال، وهي العملية المولدة للمفاهيم الجديدة، وللجوانب المختلفة للعالم الذي نعيش فيه، ولامتحان موازيننا ومعاييرنا الأخلاقية بشكل أكثر دقة وأعم فائدة.

فمن يدين قتل الأبرياء في سورية اليوم كثر، منهم من يفعل ذلك نفاقاً، مخْفياً أجندة سياسية، وهناك من يفعل ذلك صادقاً. كشْف النوع الأول والتشهير به ليس نقداً للخطاب، كما كررنا أكثر من مرة، بل هو جزء من عمل النوع الثاني. نقد الخطاب يكون بالكشف عن أن إيقاف الحرب الآن يعني انحياز للأقوى على الأرض، وأن التفكير بإيقافها يعني أن المتحاربين سواسية، وأن التركيز على حماية المدنيين، يعني إلغاء كل موازين القيم الموجودة في الحرب نفسها.

هناك، إذنْ، من ينتقد الظاهرة فعلاً، وهناك من يدافع عنها متخفياً بقناع نقـــدها، وعلينا التفريق بين الاثنين دائماً.