لا لاحتكار المعرفة!

من المفترض أن يكون حديثي اليوم إكمال ما بدأته عن “إشكالية الردة في الإسلام”، ولكن اعتراضا طرح علي سيؤجل هذا الحديث. هذا الاعتراض يقول: إن الحديث في أمور الدين محصور بعلماء الدين، فكيف يبيح غير المتخصص في العلوم الشرعية لنفسه الخوض فيها في حين أنه لا يجرؤ على هذا عندما يتعلق الأمر بتخصصات أخرى كالطب والهندسة والفيزياء النووية؟!

في الحقيقة هذا الاعتراض اعتراض مراوغ، فهو يقول نصف المسألة فقط ولا يتمها كلها. فالنصف الآخر هو أنه في الوقت الذي تتم المطالبة باحترام التخصص، فإن المتخصصين في العلوم الشرعية يبيحون لأنفسهم التدخل في كل شيء وكافة الاشياء انطلاقا من كون الدين شاملا لكل جوانب الحياة. فتكون النتيجة كالتالي: لا أحد يخوض بالشريعة إلا أهلها انطلاقا من مقولة: احترام التخصص، وبالمقابل مباح لهؤلاء الخوض في كل تخصص انطلاقا من مقولة: كليّة الشريعة وشموليتها.

وحتى نخرج من هذا كله، لنسأل السؤال التالي: أليس الدين –بالمقام الاول- علاقة بين الانسان وربه؟ وألا تعني هذه العلاقة ضرورة المعرفة: معرفة الانسان لربه ونبيه ودينه؟ فإن كانت الاجوبة على هذه الاسئلة كلها بـ: نعم، فهذا يقتضي أن المعرفة الدينية معرفة ضرورية لكل مسلم يريد أن يعبد الله على بصيرة، ومن هذه الضرورة العامة تنتفي مقولة الاختصاص من أصلها!

وحتى يتفادى المطالبون بـ: “احترام التخصص”، هذه الحجة فهم عادة ما يفصلون بين نوعين من المعرفة الدينية: معرفة يلزم كل فرد معرفتها وهي معرفة العامة، ومعرفة اخرى خاصة بالخاصة. وهذا الفصل لا أساس له ولا معيار. إنما هو فصل تحكمي ينتهي بالمجتمع بإحداث ظاهرتين: الأولى نشوء طبقة تدعي ملكية المعرفة بالشريعة وأنها الجسر الموصل بين العامة و الشريعة، وهذه الطبقة تؤدي نفس الدور الذي كان الأحبار والرهبان والذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا يؤدونه في الأمم الأخرى. ومعلوم موقف القرآن من هذه الطبقة فقد فسر الرسول قول الله “اتخذوا احبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله”، بأن هذا الاتخاذ لم يكن عن طريق العبادة المباشرة بقدر ما كان عن طريق الطاعة التامة، معتبرا طاعتهم هذه هي عبادتهم لهم من دون الله. ويتشابك مع ظهور طبقة رجال الدين هذه، سلوك اجتماعي هو التقليد. فيتحول الفرد المؤمن المطالَب بالنظر أبدا والاجتهاد قدر الاستطاعة، إلى مقلد لا هم له سوى تتبع أقوال من اتخذهم مرجعيات، وهذا السلوك يؤثر سلبا على المؤمن لا من حيث خبوت نار التساؤل والفضول في نفسه، ولا من حيث تعامله مع الآخرين المختلفين وتفاعله معهم. فالذي يستقي آراءه من غيره تقليدا لهم، يكون غالبا متعصبا لهذه الآراء تعصبا يشابه أولئك الذين قالوا: “إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون”.

بالإضافة إلى كل هذا، لا بد أن أشير إلى أمر مهم. وهو أن توظيف “احترام التخصص” هنا، ليس توظيفا بريئا، فهو يخفي خلفه عدة أمور. فهو، أولا، يخفي كون التعليم النظامي المتبع في الجامعات هو تعليم “حديث” مقتبس من حضارة الغرب، الهدف منه تخريج خبراء في المعارف التي تنظم الحياة المدنية: من علوم طبيعية وعلوم انسانية وإدارية وغيرها. ودور الخبير في المجتمع الغربي أن يطور ما هو واقع او يوجد حلولا لما يطرحه من اشكالات انطلاقا من تعمقه في هذا المجال، والضريبة التي يدفعها نتيجة هذا التعمق هو ألا يدخل قناعاته وقيمه فيما يؤديه من عمل وإنتاج وألا يفكر أبدا في تغيير هذا الواقع. وفي هذا المجال، على المهندس إن أراد أن يكسب أجره نهاية الشهر ألا يسأل في أي شيء سيستخدم هذا الذي يعمل على تصميمه أو بنائه. وهذا الدور يعني تهميش “المتعلم” وحصره في دائرة ضيقة هي دائرة اختصاصه، في حين المطلوب من المثقف أن يكون معبرا عن ضمير أمته ساعيا في تطورها وأن يسعى لزيادة معارفه وتطويرها دون إهمال لمجال اختصاصه.

وهو، ثانيا، يخفي الفرق بين تكوين الآراء في مجال ما ومعرفة ما، وبين التدخل في هذا المجال وهذه المعرفة. فمرفوض تماما أن يقوم أي شخص بإجراء عملية جراحية دون أن يدرس الطب و”يتمرمط” فيه، ولكن هذا لا يعني أن هذا الشخص لا حق له في إبداء رأيه في فروع علوم الصحة المختلفة والسعي في المساهمة فيها ولو لم يكن متخصصا فيها. فأعظم العلماء، كأينشتاين، لم يكونوا متخصصين في فروع المعرفة التي أحدثوا فيها نقلات مهمة.

دعوى “احترام التخصص”، في التحليل الأخير، لا تهدف إلا إلى “احتكار التخصص”. احتكارا يوصد الباب أمام كل منتقد أو مساهم أو حتى معترض. احتكارا يجعل غير المختصين أحد اثنين: إما مقلدين هم أقرب للعميان، أو- إن كان التخصص شرعيا: مارقين إن حاولوا الاقتراب…

1 Response

  1. درر ياسلطان ، بصراحة اقنعت بعد اللي صار في الفترة الاخيرة من تكفير وتخوين ، لابد المجتمع يفكر مو يسأل المشايخ ، اجل الله خلق العقل ليش ، عشان نسلمه للمطاوعة

اترك رداً على عائشة سعيد إلغاء الرد