حنة أرندت والبوليس اليونانية: محاولة لإعادة اكتشاف السياسة

تقول حنة أرندت التالي:”ٍيجد تراث  فكرنا السياسي بدايته الأولى في كل من تعاليم أفلاطون وأرسطو. وأعتقد أن نهايته القصوى لم تتشكل إلا في نظريات كارل ماركس“ (الماضي والمستقبل، ١٧). وبالنسبة لها، فإن ما يميز هذا التراث الذي ناهز الألفي عام من العمر هو ازدراؤه الموروث لكافة ما يتعلق بشؤون البشر وفعالياتهم، وبالتحديد عداؤه للسياسة (رفيق كامبردج عن حنة أرندت، ٢٦٢). يكشف كل من هذا الازدراء لشؤون البشر وهذا العداء للسياسة عن نفسيهما مع بداية هذا التراث عندما  يصف أفلاطون -في أمثولة الكهف من كتابه الجمهورية- عالم شؤون البشر بصفات من قبيل ”الظلمة، التخبط، والخداع التي تدفع الشخص السليم لأن ينصرف عنها وينبذها إن كان يريد اكتشاف صفاء سماء المثل السرمدية“ (الماضي والمستقبل، ١٧). ويظهر هذا العداء للسياسة بشكل أكثر وضوحا أيضا في نهاية هذا التراث عندما يعلن ماركس ”أن الفلسفة وحقيقتها ليست موجودة خارج شؤون البشر وعالمهم المشترك بل تحديدا داخلهما، ويمكن ’تحقيقها‘ فقط في فضاء العيش المشترك، الذي يسميه ’مجتمع‘، وذلك عبر ظهور ’البشر الاشتراكيين‘“، ويتنبأ بـ”أنه تحت ظروف ’البشرية الاشتراكية‘ فإن ’الدولة ستتلاشى‘“ (١٧ ، ١٨). ويوضح هذا التنبؤ بكل وضوح كيف أن ”تحقق“ الفلسفة في ”البشرية الاشتراكية“ الصاعدة لا بد أن يأتي مترافقا مع اضمحلال الدولة وتلاشيها. وتؤكد أرندت على أن هذا ”الشرخ بين الفلسفة والسياسة بدأ تاريخيا مع محاكمة وإدانة سقراط، التي بالنسبة لتاريخ الفكر السياسي قامت بنفس الدور المحوري الذي لعبته محاكمة وأدانة يسوع لتاريخ الدين“ (وعد السياسة، ٦). وهذا الدور المحوري جاء كنتيجة للوقع الذي أحدثته هذه المحاكمة والإدانة على أهم تلاميذ سقراط، أعني: أفلاطون وفلسفته.

ما عنته محاكمة وإعدام سقراط لأفلاطون هو ببساطة أن مدينة آثينا (والتي سأدعوها من الآن فصاعدا بالبوليس Polis) ليست مكانا آمنا للفلاسفة وهذا بالضبط ما أحبطه من ”حياة البوليس، وفي نفس الوقت، شككه بأصول معينة من تعاليم سقراط“ (٦-٧). ولهذا السبب، قرر الانتفاض ضد البوليس بغرض تحويلها إلى مكان آمن ليس فقط لأن يعيش فيه الفيلسوف، بل أيضا ليكون حاكما فيها. وانطلاقا من هذا البرنامج المحدد، بدأ تراث الفكر السياسي يحمل نظاما متكاملا يحط من شأن ليس فقط السياسة بل كل الأنشطة البشرية لصالح نمط الحياة التأملية التي يعيشها الفيلسوف والتي تجد فيها الحقيقة لها مكانا. هذه الفلسفة، بالاضافة لفلسفة ارسطو، تطورت لتتحول إلى أساس التراث الغربي وبقيت كذلك حتى تمزق هذا التراث مع العصر الحديث. وهذا التطور ما كان له أن يكون لولا أن الرومان، بما عهد عنهم من ”تقديس للتأسيس كلحظة مميزة“، لم يعتبروا هذه الفلسفة ”أساسا جامعا وسلطويا، غير قابل للمسائلة، للفكر“ (٥٤). ولهذا السبب، أصبح الثمن الذي دفعته روما عندما قبلت بالفلسفة الإغريقية كتراثها الخاص هو عجزها عن ”تطوير فلسفة، ولا حتى فلسفة سياسية، مما أدى بها إلى ترك تجربتها السياسية بدون تأويل مناسب“ (٥٤).  ولم تكن تجربة روما فقط هي التي تركت دون تأويل مناسب، فتقديس فلسفتي كل من أفلاطون وأرسطو، بعدائهما الخاص للسياسة، واعتبارهما تراثا جعل من ”أي تجربة، أو فكرة، أو عمل لا يتواءم مع تصنيفاتها ومعاييرها، والتي طورت منذ بدايتها، تحت خطر دائم أن تنتسى“ (٤٤). وأحد هذه التجارب السياسية هي البوليس الإغريقية التي لم تكن فلسفة أفلاطون- بحسب أرندت- سوى انقلابا عليها، والتي ستلعب دورا جوهريا في فكر أرندت عندما ستعود إليها في محاولة لتجاوز هذا الصراع القديم بين الفلسفة والسياسة، بين العمل والفكر. وكل ما ستحاوله هذه الورقة هو إعادة تقديم الصورة التي رسمتها أرندت للبوليس، وأثر هذا التصور على محاولتها إعادة النظر للسياسة ومفاهيمها الأساسية، المحاولة التي أرادتها أن تكون متحررة من الصراع الموروث في التراث الغربي الفلسفي بين الفلسفة والسياسة.

تنقسم الدولة-المدينة الإغريقية إلى ميدانين: الميدان الخاص والميدان العام. والتفريق بين هذين الميدانين، ”بين فضاء البوليس وفضاء المنزل والعائلة، وأخيرا، بين النشاطات المتعلقة بالعالم المشترك وتلك المتعلقة بصيانة الحياة“ (الحالة الانسانية، ٢٨): أمر صعب، نظرا لأننا- كما ترى أرندت- بتنا نرى التجمعات السياسية ”من خلال صورة العائلة التي لا بد من الاهتمام بشؤونها اليومية عبر إدارة ضخمة على مستوى البلاد للأعمال المنزلية“ (٢٨).  ولهذا السبب تقوم بالتذكير بأن  صعود الدولة-المدينة الإغريقية وميدانها العام لم يكن إلا ”على حساب الميدان الخاص للأسرة والمنزل“، وأن ”الذي منع البوليس من اقتحام الحياة الخاصة لمواطنيها، وجعلتها تعتبر الحدود التي تحيط بكل ملكية: مقدسة؛ لم يكن احترام الملكية الخاصة كما نفهمه نحن، بل حقيقة أنه بدون امتلاك منزل لا يمكن للإنسان المشاركة في شؤون العالم لأنه لن يكون له مكان فيه يعود إليه مباشرة“ (ص ٢٩-٣٠).

تعتبر أرندت أن ما يميز الفضاء المنزلي هو التالي:

”أن الناس يعيشون فيه سوية لأنهم مدفوعون برغباتهم وحاجاتهم. حيث أن القوة الدافعة هي الحياة نفسها… التي- من أجل صيانتها في الفرد وبقائها من أجل حياة كل الجنس البشري- بحاجة لمرافقة الآخرين. وكون صيانة الأفراد هي مهمة الرجل واستمرار الجنس البشري هي مهمة المرأة: أمر واضح، وكلا هاتين الوظيفتين الطبيعتين- كدح الرجل من أجل توفير الطعام وكدح المرأة في الولادة- هما خاضعان لنفس إلحاح الحياة. ولهذا كان التجمع الطبيعي في المنزل وليدا للضرورة، والضرورة هي التي تتحكم في كافة الأنشطة التي تتم فيه.“ (ص ٣٠)

وعلى النقيض من هذا، فإن فضاء المدينة ’البوليس‘ كان ”فضاء الحرية“(ص ٣٠). وإن كان ثمّ علاقة بين الفضائين فهي بالتحديد أن ”التحكم بضرورات الحياة في المنزل كان شرط الحرية في المدينة“ (ص٣١). ومن هنا تصبح الضرورة ”ظاهرة قبل-سياسية“ مكانها الميدان الخاص، وأن ”القوة والعنف مُبرَران في هذا الميدان لأنهما الوسائل الوحيدة للتحكم بالضرورة- على سبيل المثال: السيادة على العبيد- والتحول إلى الحريّة“ (ص٣١). ونظرا لأن كل ”الكائنات البشرية خاضعين للضرورة، فإنهم مضطرون لأن يمارسوا العنف اتجاه بعضهم البعض. إذ أن العنف هو التصرف ما قبل السياسي ليحرر المرء نفسه من ضرورة الحياة لأجل الحرية في العالم“ (ص٣١). ومن هنا كان الميدان الخاص هو الميدان الذي فيه يحكم فيه رب الأسرة أعضاء أسرته وعبيده بالقوة والعنف، والذي بمجرد أن يخرج منه إلى الميدان العام يجد نفسه محاطا بأقرانه المساوين له. فالميدان العام لا يعرف سوى المتساوين في حين أن المنزل ميدان لعدم المساواة. وهذه المساواة الموجودة في الميدان العام الإغريقي تختلف عن مفهومنا الحالي للمساواة المقترن بالعدالة، من حيث أنها كانت ”جوهر الحرية: فأن تكون حرّا يعني أن تكون متحررا من عدم المساواة الموجود في ميدان الإخضاع، وأن تنتقل إلى فضاء لا يوجد فيه من تحكمه ولا أن تكون فيه محكوما من قبل أحد“ (ص٣٠).

لكن ما هي الأنشطة التي كان الأثينيون يقومون بها في هذا الميدان العام؟ إن الإجابة على هذا السؤال تضطرنا للعودة إلى تقسيم أرندت لأنشطة البشر الأساسية المشروطة بوجود الإنسان وكيفية توزعها في دولة-المدينة الإغريقية. هذه الأنشطة البشرية الأساسية يقوم بها البشر استجابة لمحض تواجدهم البشري على هذه الأرض. فلأنهم أحياء، فإن حياتهم تدفعهم للكدح. ولأنهم لا يقطنون كباقي الحيوانات في الأوكار والمغارات، بل في مساكن وبيوت، أي في ’عالم‘، فإنهم مدفوعون للصناعة. وأخيرا، ولأن ”البشر، وليس الإنسان، هم من يعيش على هذه الأرض ويسكنون العالم“، أي لأنهم متنوعين، فإن تنوعهم هذا يدفعهم لـ”العمل“(٧). فالكدح والصناعة والعمل هي ما تعتبره أرندت الفعاليات البشرية الأساسية المشكلة لـ’النشاط البشري vita activa‘. أما الكدح فهو الفعالية التي تستجيب لحاجات الحياة الجسدية وبقائها ونموّها، ومثالها توفير الغذاء من أجل سد حاجة الجوع. وأما الصناعة، فهو الفعالية التي تقوم بتحويل الطبيعة إلى منتجات تشكل بمجموعها (عالم) الإنسان الذي يسكن فيه، كتحويل الخشب إلى منزل. أما العمل فيحدث بشكل مباشر بين البشر دون توسط الأشياء مستجيبا لحقيقة كونهم متنوعين (٧). ”وعلى الرغم من أن كل جوانب التواجد البشري مرتبطة بطريقة ما بالسياسة، إلا أن هذا التنوع هو بشكل خاص الشرط … لكافة الحياة السياسية“ (٧). وهذه الفعاليات الثلاثة ”مرتبطة بالشرط الأعم للوجود الإنساني: الولادة والموت. فالكدح لا يضمن بقاء الفرد وحده، بل حياة الجنس البشري. أما الصناعة وما ينتج منها، أي العالم الإنساني، تضفي نوعا من الديمومة والاستمرار على عقم الحياة الزائلة والسمة العابرة للزمان الإنساني. أما العمل، باستغراقها في تأسيس وحفظ الكيانات السياسية، تخلق حالة للتذكر، أي للتاريخ“ (٨-٩).

ولم يقم الإغريق ببناء المجال العام من أجل الصناعة ولا الكدح، بل فقط من أجل العمل. فالكدح، بوصفه يستعبد الإنسان لضرورات الحياة، يجد مكانه في ظلمة المجال الخاص. ومن هنا كان الذي يقضي حياته رهنا لهذه الفعالية- مثل العبيد في العصور القديمة- لا يختلف عن باقي الحيوانات في شيء وبالتالي من الصعوبة أن يعتبر إنسانا. بالمقابل، فإن الصانع، وعلى الرغم من كونه يقوم بصناعته في عزلته عن الناس، إلا أنه بعد فراغه من عمله، يأتي بمنتجه ليضيفه كشيء جديد من أشياء العالم. وعملية عرض المنتج هذه تكون في سوق مقايضة المنتجات التي تمثل ميدانا عاما للصناع، حيث فيه يعرضون منتجاتهم ويتواصلون مع الآخرين من خلالها (ص١٦٠). إلا أن الصانع، وعلى الرغم من أنه هو الذي سيبني الميدان العام، سيُحرم من المشاركة فيه، ولن يكون مواطنا أبدا. وذلك إنما يعود لكونه ليس حرا، حرا ليس بمعنى التحرر من تسلط الدولة، بقدر ما هو متحرر من حاجاته وصناعاته. وحده المتحرر من حاجاته- إذ يتم توفيرها له في مجاله الخاصة من خلال عبيده الذين يتسيدهم- ومن الفقر – فلا ينشغل في صناعة يتكسب منها- هو الذي يقبل في المجال العام، الذي هو مجال العمل.

كان تأسيس البوليس ومجالها العام، كما تصورها أرندت، حلا لمشكلة هشاشة كل من العمل والحديث. وقبل أن نصف مشكلة الهشاشة هذه، لا بد من تبيين ماذا نعني بالضبط من العمل والحديث ولماذا هما مهمان. فحاجة الناس للعمل والحديث تنبثق من تنوعهم، التي ”لها خاصيتي المساواة والتمايز“ (ص١٧٥). فلا العمل ولا الحديث سيكون لهما أي معنى لو كان الناس غير متساوين، حيث لن يكون هناك أي تفاهم بينهم. ولو كان الناس متماثلين، فإن العمل والحديث سيكونان فائضان عن الحاجة، إذ ستكفي الرموز والأصوات من أجل التواصل فيما بينهم (١٧٥-١٧٦). والطريقة الوحيدة التي من خلالها يستطيع الناس تمييز أنفسهم، والكشف عن ”تميزهم المتفرد“، وإخطار الآخرين بـ’من‘ هم لا بـ’ماذا‘ هم، إنما تكون عبر العمل والحديث. ولدور العمل هذا تصر أرندت على أن ”حياة بدون حديث وبدون عمل… هي عمليا ميتة بالنسبة للعالم؛ فقد كفت عن أن تكون حياة بشرية طالما أنها لم تعد معاشة بين البشر“ (١٧٦). أن تعمل، هو أن تبدأ شيئا غير متوقعا وجديدا، شيئا لا يمكن ربطه برابطة عليّة بما حدث قبله. وبسبب عدم القدرة على التوقع هذه المغروسة في العمل ينشأ تميزها عن الصناعة التي يكون منتجها النهائي معروف قبل أن تبدأ عملية الصناعة وصورة هذا المنتج هي ما تبرر وتقود اختيار كل الوسائل التي ستتطلبها عملية التصنيع من أجل تحقيق صورة المنتج هذه النهائية. ومن عدم القدرة على التوقع هذه، تعتبر أرندت كل عمل: ’معجزة‘، ذلك لأنها إخلال للسير الذاتي ”للعملية التي تحدث في ظلها“ (بين الماضي والمستقبل، ١٦٩). ونظرا لأن التقارب بين الحديث والإفصاح أكثر بكثير من التقارب بين العمل والإفصاح، فإن على العمل دائما أن يصطحب الحديث معهي من أجل أن يفصح عن هوية العامل. هذا ما يجعل أرندت تقول أن ”الأعمال الصماء لن تكون أبدا أعمالا لأنه لن يكون لدينا أي عامل“ (الحالة الانسانية، ١٧٨). هذا الطابع الإفصاحي في العمل والحديث يمكن بسهولة خسارته عندما يكفّ الناس عن أن يكونو سوية؛ بمعنى آخر أن هذه الـ’معا سوية‘ ستُفقد طالما كف المرء أن يكون مع الأخرين، وقرر أن يكون هناك إما من أجلهم أو ضدهم(١٨٠). وبالنسبة لأرندت، الطريقة الوحيدة لضمان هذه الـ(معا سوية) بأن يتم استيعابها داخل فضاء عام (١٨٠).

على الرغم من أنه عبر العمل والحديث يقوم الناس بالإفصاح عن هويتهم، إلا أن هذه الأنشطة أكثر الأنشطة البشرية عقما لأنها (لا تترك أي أثر، أي منتج يمكنه أن يستمر بمجرد أن تمر لحظة قول الكلمة أو عمل العمل) (١٧٣). وبالنسبة لأرندت، فرؤية الإغريق لكافة الأشياء التي ”تأتي إلى الوجود بنفسها وبدون مساعدة من قبل البشر والآلهة“ بأنها خالدة. وكذلك، ”كل المخلوقات الحية، والإنسان ليس استثناء، مشمولون بميدان الوجود إلى الأبد هذا“ (بين الماضي والمستقبل، ٤٢). وعلى الرغم من أن البشرية مشمولة بهذا الخلود، إلا أن الإنسان الفرد زائل، وهذه الزائلية تحديدا أضحت ”العالمة الفارقة للوجود الإنساني“. فأفراد البشر هم وحدهم الزائلين في محيط من الأشياء الخالدة، وزائليتهم ترتكز حول حقيقة أن حياة الفرد لها ’قصة‘ مستقلة بنفسها تبدأ من الولادة وتنتهي بالموت، قصة تختلف عن- وتتعالى على- الدورة البيولوجية الطبيعية التي يعيش خلالها المرء ويقضي جزءا منها كادحا في سد حاجاتها والتي يشترك فيها مع باقي الحيوانات. هذه القصة هي قصة أفعاله وأقواله، التي هي أيضا زائلة بدورها، والتي لا يستطيع المرء تخليدها إلا عبر ’التذكر‘. ومن هنا، ترى أرندت، أنه ”منذ هرودتس أصبحت الكلمات والأفعال والأحداث- أي تلك الأشياء التي تدين بوجودها بشكل حصري للناس- مادة كتابة التاريخ. إذ من بين كل أنشطة الإنسان، تعتبر هذه أكثرها عقما“ (ص ٤٤). إذ عبر الصناعة، حيث يقوم المرء بصناعة منتجاته من الطبيعة الأزلية، فإن هذه المنتجات يمكن أن تبقى أكثر من الصانع نفسه وتحظى بالخلود الذي تستمده من كونها مصنوعة من الطبيعة الخالدة. بالمقابل، فإن القصة، منتج أعمال الإنسان وما ”يحدث بين الزائلين مباشرة… لا يستطيع البقاء أبعد من لحظة تحققه، ولا يمكن أن يترك أي أثر بدون مساعدة التذكر“ (ص٤٤). ومساعدة التذكر هذه تأتي من الصانع”في أعلى قدراته، أي مساعدة الفنانين والشعراء والمؤرخين وباني النصب التذكارية، والكتاب، لأن بدونهم فإن المنتج الوحيد لنشاطهم (= أي العاملين)- القصة التي يحدثونها ويروونها- لن تبقى أبدا“ (أرندت، الحالة الانسانية ١٧٣).  والمعضلة هنا هي أنه على الرغم من امكانية تجاوز عقم العمل عبر مساعدة المؤرخ والشاعر الذين بإمكانهما تخليد قصة المرء وصناعتها، فإنه من الواضح أن ليس كل فعل وليس كل قول سيحظى بهذه ’الشهرة الخالدة‘ ولكن فقط أولئك الاستثنائيين-  كآخيل  كما مجده شاعر الإغريق يوما فوصفوه بأنه ”فاعل الأفعال العظيمة، والناطق بالكلمات العظيمة“ (أرندت، بين الماضي والمستقبل ٤٦)- الذين يقرر المؤرخ أو الشاعر أنهم يستحقون التخليد.

بالنسبة لأرندت، لم يقم الإغريق ببناء البوليس فقط من أجل حل معضلة عقم العمل هذه، بل أيضا لموازنة سمتين أساسيتين مغروستان في العمل: عدم محدوديتها، وعدم قابليتها للتنبؤ. عندما نعمل، فنحن نبدأ قصة ”مكونة مما يتبعها من أفعال ومعاناة. وهذه التبعات غير محدودة، لأن العمل، وإن كان يبدأ من غير مكان، إن أمكن قول ذلك، فإنها يمارس فعله على وسط حيث كل ردة فعل تصبح سلسلة من ردات الفعل وحيث كل عملية هي سبب عمليات جديدة. ونظرا لكون العمل تمارس على كائنات قادرة على القيام بأعمالها الخاصة، فإن ردة الفعل- بعيدا عن كونها محض استجابة- هي عمل جديد ينبثق من نفسه  ويؤثر في الآخرين. وإذن فإن العمل وردات الفعل بين البشر لا تسير أبدا في دائرة مغلقة ولا يمكن ابدا ضمان احتوائها بين طرفين اثنين“ (أردنت، الحالة الانسانية ١٩٠). عدم محدودية العمل هذه لها جانب آخر وهو ما تملكه ” من قدرة هائلة على تأسيس العلاقات“ مما يجعل لدى العمل ”نزعة ذاتية لأن يقتحم كل الحدود، وأن يقفز فوق كل الحواجز“(١٩٠-١٩١). ولهذا، فإن القوانين والحواجز- على الرغم من أن الإغريق كانوا يرون أن تشريع القوانين وبناء المدن أنشطة ماقبل-سياسية وليست أعمالا بل محض صناعات- يلعبان دورا حاسما في حفظ توازن ”الشؤؤن البشرية لأنه لا يوجد أي حدود أو مبادئ حامية تنبع من الأنشطة التي تمارس في ميدان هذه الشؤون نفسه“ (١٩١). إلى جانب عدم محدودية العمل، هناك عدم القدرة على التنبؤ بها التي لا تستطيع القوانين أبدا أن تحمي ميدان الشؤون البشرية منها. الأعمال غير قابلة للتنبؤ ليس لأننا لا نستطيع تخمين كل التبعات المفترضة، بل هي غير قابلة للتنبؤ لأن القصة التي تبدأها لا تصل إلى معناها الكامل حتى تصل لنهايتها القصوى، بحيث أن العاملين أنفسهم لا يعرفون هذه المعاني إلا بعد قيامهم بأعمالهم (١٩٢).

هشاشة شؤون البشر تنبع من عقم العمل، وعدم القدرة على التنبؤ به، وعدم محدوديته، والحل الذي قدمه الإغريق لهذه الهشاشة، كما تعرضها أرندت، هو ”تأسيس البوليس“ (١٩٦).  تقول أرندت التالي:

البوليس … أي (تشارك الأقوال والأعمال) تقوم بدور مضاعف. فهي أولا أريد لها أن تمكن البشر من أن يفعلوا بشكل دائم، وإن كان ضمن بعض الحدود، ما كان في أوضاع أخرى ممكنا فقط في الحالات الاستثنائية والمغامرات النادرة التي بسببها كان عليهم أن يغادروا منازلهم. كان يفترض من البوليس أن تضاعف فرص الجميع لأن يميزوا أنفسهم، لأن يبين الواحد منهم بالعمل والقول من كان بكامل تميزه الخاص… والدور الثاني للبوليس، وهو أيضا شديد الارتباط بأخطار المبادرة كما مورست سابقا قبل تأسيسها، كان بأن يوفر علاجا لعقم المبادرة والحديث، ذلك لأن فرص عدم نسيان فعل استحق الشهرة، أن يصبح حقا (خالدا)، لم تكن جيدة. (١٩٧)

ما هو مبهر في كل هذه الجولة داخل الصورة التي تقدمها أرندت عن البوليس هي الرؤى المختلفة كليا التي تشتقها منها لكل من السياسة والمفاهيم السياسية. فعلى سبيل المثال، فالتصور اللبرالي السائد للحرية يقدمها باعتبارها تحررا من قسر الآخرين، أو المجتمع، أو الدولة؛ بأن ”الحرية تبدأ عندما تنتهي السياسة“ وأن ”السياسة تكون متوائمة مع الحرية فقط عندما تضمن تحررا ممكنا من السياسة“ (بين الماضي والمستقبل ١٤٩). مع أرندت، يصبح هذا المفهوم السلبي للحرية – كما يسميه إسحق برلين- ليس الحرية السياسية، وهو أيضا ليس ”الهدف غير السياسي من السياسة، بل فقط ظاهرة هامشية الذي بطريقة ما يرسم حدودا على الحكومة ألا تتخطاها ما لم تكن الحياة نفسها ومصالحها وضروراتها على المحك“ (١٥٠). إذ بالنسبة لحنة، فالحرية ”هي سبب وجود السياسة“، وكانت ”تفهم باعتبارها وضعية الإنسان الحر، التي تمكنه من الحركة، من أن يخرج من المنزل، أن يخرج إلى العالم حيث يلاقي الآخرين بالكلمات والأفعال. ومن الواضح أن هذه الحرية كانت مسبوقة بالتحرر: إذ حتى يكون حرا، فعلى المرء أن يحرر نفسه من ضرورات الحياة. لكن وضعية الحرية لا تتحقق مباشرة بمجرد التحرر. إذ أن الحرية تحتاج، بالإضافة لمحض التحرر، رفقة الآخرين الذين وصلو لنفس الوضعية، وكذلك تحتاج مكانا مشترك لتلتقي بهم“ (١٤٨). ومن الواضح هنا كيف أن تجربة البوليس حاضرة هنا، وكيف أن أثرها على فكر أرندت قادها إلى مفهوم مختلف كليا عن الحرية.

وعلى الرغم من أن الكثير من نقاد أرندت رأوا في تمجيدها للبوليس نوعا من العودة النوستالوجية للماضي أو محض خيال، إلا أن مختلف اعتبارتهم المتشككة بمدى واقعية نظرة أرندت هذه للبوليس هي- من وجهة نظري- ليست مهمة اذا اخذنا بالاعتبار الاستنتاجات التي تستنتجها منها أرندت. فالتركيز على الدور الذي تلعبه البوليس في منح أعضائها الفرصة لأن يفصحوا عن أنفسهم عبر الحديث والعمل، هو بالنسبة لأرندت، ماهية السياسة. وفي الواقع، أرندت نفسها، تصف البوليس كالتالي:

”البوليس، بدقة أكثر، ليست دولة المدينة بمكانها الفيزيائي، إنها تنظّم الناس كما تتبدى من خلال مبادراتهم وحديثهم سوية، وفضائها الحقيقي يقع بين أفراد يعيشون سوية لهذا الهدف، بغض النظر في أي مكان كانوا.“ ( الحالة الإنسانية ١٩٨)

ومن خلال هذا التعريف للسياسة، تنبع تشاؤمية أرندت من مصير السياسة في العصر الحديث. وذلك نظرا لميلنا الحديث للتعامل مع السياسة باعتبارها محض وسيلة، ’شر ضروري‘، لغاية هي في نفسها خير محض (جيانغ، ١٠-١١). وبالتالي، فإن هذا الميل يقتضي قبول إدماج العنف في عالم السياسة بمجرد ما يتبين أنه لا توجد وسيلة غيره لتحقيق تلك الغاية (١٠-١١). النظرة الحديثة للسياسة تعود بجذورها إلى عمق التراث الغربي الفلسفي وتحديدا إلى أفلاطون الذي قام بتسييس مفهوم ’الحكم‘ و’السيطرة‘ بعدما كانا محض مفاهيم قبل-سياسية مكانهما الميدان الخاص. وعلى الرغم من تشاؤميتها من إمكانية إنشاء بوليس جديدة، حيث تستعيد السياسة معناها، تلاحظ أرندت لحظات تشكل فيها الميدان العام في العصر الحديث. هذه اللحظات هي بالتحديد تلك التي تظهر فيها المجالس المؤقتة المتزامنة مع الثورات الحديثة، حيث يعمل الناس ويتحدثون سوية دون أن يكونوا حاكمين ولا محكومين. فبالنسبة لأرندت، ليس كل ميدان عام هو بالضرورة فضاء سياسة، لأن الميدان العام ممكن أن يتولد متى تواجد البشر سوية. ويصبح الميدان العام: فضاء سياسيا فقط عندما ”يحمى في مدينة، أي أنه مرتبط بمكان محدد الذي يستطيع الابقاء على كل من الأفعال القابلة للتذكر وأسماء من مارسها وتمريرها للأجيال المستقبلية“ (أرندت، وعد السياسة ١٢٣، جيانج ١٠-١١). ولهذا السبب يمكن، بالنسبة لأرندت، أن تتشكل ميادين عامة في العصر الحديثة لكن لا يمكن أن تتشكل فضاءات سياسية. أي لا توجد في الدول الحديثة تلك الفضاءات المؤمنة والدائمة.

وعلى الرغم من تأكيد أرندت على أن الأفراد المعاصرين، بافتقارهم لفضاء عام، لا يستطيعون الافصاح عن أنفسهم بالعمل والحديث، فإن قدرتهم على العمل انتقلت لتطبق على الطبيعة. وهذا الانتقال، بالنسبة لأرندت، هو أمر خطير. ذلك لأنه يحمل العمل، بكل ما فيه من عدم قدرة على التوقع وعدم محدودية، إلى الطبيعة، مما يمد الانسان بقدرات هائلة على التدمير تصل حدّ تدمير كوكب الأرض نفسه. ومهما يكن، فإن ما نشهده اليوم كنتيجة غير متوقعة من تطبيق العمل على الطبيعة هو تطوير الانترنت والويب ٢.٠ الذي جعل من امكانية انشاء فضاءات عامة افتراضية ( على سبيل المثال، يوتيوب، تويتر …إلخ) حيث يستطيع الافراد الافصاح عن أنفسهم عبر العمل والحديث، أمرا ممكنا. ولو طبقنا الوصف الذي تصف به أرندت البوليس على أحد شبكات التواصل هذه سنجدها إلى حد كبير متطابقة إذا اعتبرنا التواصل المتزامن يقدم بديلا للتواجد سوية، الذي هو شرط الميدان العام، والذي يتطلب مساحة فيزيائية لتحقيقه. وهكذا إذن، فالأخطار التي لم تزل أرندت تحذر منها من تطبيقنا للعمل على الطبيعة، تكشفت عن معجزات. فما اعتبرته أرندت ميدانا عاما مفقودا في العصر الحديث يتم خلقه الآن كنتيجة غير متوقعة للعمل الإنساني على الطبيعة.

المراجع

Arendt, Hannah. Between Past and Future, Six Exercises in Political Thought. New York: Viking, 1961. Print.
—, The Human Condition. Chicago: University of Chicago, 1998. Print.
—, and Jerome Kohn. The Promise of Politics. New York: Shoken, 2005. Print.
Jinag. Yi-huah. Hannah Arendt’s Idea of Politics Revisited. National Taiwan University. Online.
Villa, Dana R. The Cambridge Companion to Hannah Arendt. Cambridge [etc.: Cambridge UP, 2006. Online

4 Responses

اترك رداً على مريم إلغاء الرد