اللبرالية وحادثة الأحساء: الدولة البوليسية ليست حلاً للطائفية!

-١-

في كتابه البديع سرقة الصنم: النص والسياق في تصوير العنف الجماعي ، يقول پاول براس بعد مراقبته لأحداث العنف الأهلي والطائفي في الهند لفترة طويلة ما يلي: ”إن الصور المعممة لكثير مما يسمى بالعنف الطائفي أو الطبقي في الهند…. ما هي إلا أبنية قائمة على أحداث تكون عادة مفتوحة لتأويلات متعددة. فعند مراقبة أحداث العنف هذه في مواقع حدوثها، فإننا غالبا سنجد أن الظروف المسببة لها ناشئة من أوضاع إما ليست طائفية أو إثنية في جوهرها أو من أوضاع ذات طبيعة غامضة، وسنجد كذلك أن تحويلها إلى أحداث عنف طائفي أو عشائري يعتمد على الكيفية التي يراها بها الساسة المحليين والممثلين المحليين لسلطة الدولة، وأن ارتقائها النهائي لتكون جزءا من صدام طائفي كبير يعتمد على إعادة تأويلها من قبل الصحافة وسياسيي وسلطات البلاد… إن استمرار تسمية هذه الأحداث بهذه الأسماء هو في جانب كبير نتيجة كونها تخدم كل الأيديولوجيات السياسية السائدة، سواء كانت علمانية أو دينية، في الهند. كما إن استمرارها يساعد القادة من مختلف التيارات السياسية، سواء على المستوى المحلي والوطني، من السيطرة والحفاظ على المؤسسات والسلطة، وذلك عبر تقديم كبش الفداء المناسب، أي أولئك الجناة المفترضين، وكذلك عبر نشر الرعب والتوتر المفيدين أيضا في تبرير ممارسة الدولة لسلطتها“.

-٢-

إنه لأمر مثير مراقبة الخطابات التي تشكلت بسرعة استجابةً لحادثة الإعتداء على زوّار الحسينية في قرية الدالوة في الأحساء قبل عدة أيام. فمنذ اللحظة الأولى لسماع الخبر، ودون الحاجة لانتظار نتائج التحقيقات، تشكلت إدانات وصور جاهزة حول ما جرى، ومن فعل، ومن نفذ بشكل بدى فاتنا أول الأمر، لكن مع الوقت، سرعان ما استحال لأمر مخيف.

وأخطر هذه الخطابات هو ذلك الذي يقوم بدفعه وتشكيله مجموعة متنوعة من الكتاب والمغردين المنتمين بهذه الكيفية أو تلك إلى ما يسمى بالتيار اللبرالي في السعودية. لنرى كيف يفكر هؤلاء. فتحت عنوان من وراء مجزرة أهلنا في الدالوة؟’، يصف عبدالرحمن الوابلي الجاني، لكن ليس باعتباره شخصا معينا من لحم ودم، فهذا النوع من الجناة لا يهمونه، بل إنه لا يعتبرهم إلا محض أدوات لا يستحقون منا عناء التفكير. فما يثير اهتمامه ويشغل تفكيره بشكل كبير هو ما أسماه بـ”الفاعل الخفي“، فهذا هو الجاني الحقيقي بالنسبة له، وهذا الفاعل الخفي ليس فردا معينا، أو حتى مجموعة أفراد، بل هو صنف اجتماعي، هذا الصنف يضم قائمة طويلة من ”دكاترة يحاضرون في جامعات مرموقة، ومحامون، يدعون أنهم نشطاء في حقوق الإنسان وكتاب، منهم أساتذة دكاترة؛ ناهيك عن وعاظ الفتنة وأئمة المساجد والجوامع؛ الذين لا يراعون لا حرمة للوطن ولا للإنسان بشكل عام“. وهؤلاء جميعا يمكن اختزالهم بوصف ”الطائفي“، فالطائفي- حسب الوابلي- ” أكبر خطر على مجتمعه؛ ولذلك فهو يبرر وجوده ويسوق لوحشيته عن طريق اختلاق أخطار تحيق بالمجتمع، ومن ثم يبرز نفسه المنقذ له من هذه الأخطار المحدقة “ وهو ”ممنوع من التحدث عن الأخطار الخارجية، لأن ثقافته لا تؤهله لذلك“ وهو ”يستبيح، بل يحلو له، نشر الأكاذيب والتهم والتشويه للمخالفين له، ويعتبر نفسه بذلك يتقرب إلى لله أو غايته زلفى“، وأخيرا هو ” أخطر مكونات الخطر على مجتمعه؛ حيث هو يسعى لتفتيته ونشر الكره والحقد فيه. حيث هو يخلق فيه مناخ الشحن والتجييش من أجل إعداده وتهيئته لحرب أهلية تستعر، لا تبقي ولا تذر“.

هذا هو العدو المسؤول عن هذه الجريمة. لكن ما هي وسيلته؟ تصف لنا رقيّة الهويريني ذلك في مقالها الأحساء الحبيبةسلامتك! بأن ”ما قامت به يد الإرهاب هو نتيجة طبيعية للشحن العاطفي والتحريض ضد المواطنين الشيعة“، وأن سبب هذه ”الفتنة… هو الخطاب الديني المتشدّد الجائر الذي يكفّر كل من لا ينضوي تحت لوائه، ويهمش كل من لم يسر بحسب هواه، وهذا أمر خطير، ليس على مستوى المذهبية فحسب، ولكن على المستوى الفكري أيضاً، حيث ينشط المتطرفون في بعض القنوات الفضائية وفئة من خطباء المساجد بتحريض الناس على المخالفين لرأيهم وإظهار كراهيتهم الشديدة لهم وقذفهم بأسوأ الألفاظ وأقذع العبارات“. هذا السلاح يرى مشاري الذايدي أنه ”الحلقة الأضعف“ في مواجهة ”الإرهاب“، إذ أن في السعودية قرابة المائة ألف مسجدا فـ”من يراقب خطاب هذه الجوامع؟ من يدقق الكلمات والمواعظ التي تلقى على المصلين؟ من يرصد أدعية «القنوت» التي يحتال بها بعض المتعاطفين مع «داعش» و«النصرة» و«القاعدة» على إبداء الدعم والمساندة للجماعات الإرهابية؟“.

عدوّنا، إذن، هو الطائفي، وسلاحه بث الكراهية المذهبية والشحن والتجييش وهو سلاح خطير ونحن ضعفاء أمامه، فكيف تكون مواجهته إذن؟ يأتي الجواب من محمد آل الشيخ في مقالته حادث الأحساء وخطورة العملية، إذ يرى أن ”لا حل أمامنا الآن إلا محاصرة الثقافة الطائفية محاصرة حازمة ومحكمة، وتجريم الخطاب الطائفي، سواء القادم من أهل السنّة، أو من الشيعة، والضرب بيد من حديد على كل من يسعى إلى إيقاظ الخلافات الطائفية وبواعثها؛“ ويجب أن تضطلع ”وزارة الشؤون الإسلامية بمسؤولياتها وتحرم (الدعاة الطائفيين) من القدرة على الوصول إلى المواطنين من خلال منابر الجُمع، وهم معروفون ومشهورون بخطبهم الطائفية التي يزخر بها تاريخهم“. ويأتي أستاذ اجتماعيات العلوم والمعرفة عبدالسلام الوايل ليقترح تفاصيل ضرورية لزيادة فعالية هذا الحل، فهو في حسابه في تويتر يقترح على وزارة الأوقاف أن تستقدم خدمة الإبلاغ عن المخالفات التجارية التي تقدمها وزارة التجارة لتقدمها للمواطنين حتى يسهل عليهم ”ضبط“ الخطباء عبر التشارك مع المصلين مباشرة. أما مشاري الذايدي، في نفس المقالة السابقة، فيقترح الاستفادة من التجارب ”الناجحة“ في الإمارات ومصر.

-٣-

لو جمعنا شعارات ”وحدة الوطن“ و”نبذ الفتنة“ و”حماية الشيعة“ ورميناها جانبا لدقائق، ثم أعدنا النظر لهذا الخطاب وسعينا للبحث عن الأجندة السياسية الثاوية خلفه، لوجدنا القصّة المعتادة وراء كل خطاب لبرالي: يحدث حدث، يتم تفسيره بربطه بثقافة ما، ويتم تحميل مسؤولية هذه الثقافة للتيار الإسلامي، ثم يتم مطالبة الدولة بقمعه. إلتحاق الشباب السعودي بالحركات الجهادية؟ سببه الثقافة التي يبثها التيار المتطرف الذي يجب قمعه. قتل الشيعة؟ سببه الثقافة التي يبثها التيار المتطرف الذي يجب قمعه.

ماذا يعني محاربة الثقافة الطائفية والمتطرفة؟ إنه يعني السماح للسلطة بأن تتضخم في مراقبتها وتقييدها ومعاقبتها لحريّة التعبير، أو بمعنى آخر إنها دعوة مفتوحة من أنصار اللبرالية- الذين يدعون أنهم خلّان الحريّة وأحباؤها- لتحويل المجال الثقافي إلى مجال أمني. أي أن الحل الذي يقترحه اللبراليون من أجل مكافحة الثقافة الطائفية هو تضخم الاستبداد وتشديد القبضة الأمنية وخنق مساحات حريّة التعبير. إنه خطاب معاد للحرية باسم الحرية، خطاب مبرر للإستبداد باسم محاربته.

إن هذا الخطاب لا يأبه بالفهم، عندما يحدث حدث مثل حادثة الأحساء لا يفكر بسؤال مثل ”ماذا حدث؟ لماذا حدث؟“ وذلك لأنه مؤدلج، والمؤدلج لا تدهشه الأحداث بل يستغلها. فعندما يصطدم وعيه بحادثة من هذا النوع يقوم تلقائيا بوضعها ضمن الكليشيهات الرئيسية التي يرددها، يخلع عليها نفس الأطر التي لا يمل من تكرارها، ويقترح نفس الحلول والتفاسير كلّ مرة.

هذا الخطاب لا يرى في الأحداث إلا أنها تمظهرات لثقافة خفية معادية تتشكل كطاحونة دونكيشوتية كان قد نذر نفسه لمحاربتها، إنه ”جهاده اللبرالي“ الخاص بأن يخلص المجتمع من هذا ”الإيبولا“- كما وصفه عبدالرحمن الراشد. هل لهذه الأحداث سياق سياسي؟ هل لها معنى مختلف؟ هل يمكن تحديد المسؤولية بشكل أكثر دقة ووضوح؟ هل يمكن طرح حلول تمنع تكرارها؟ لا يأبه الخطاب اللبرالي بهذه الأسئلة، لأنه تضعف من قوّة لائحة ادعائه ضد الإسلاميين. فشعاره الدائم هو ”الخلاص من الإسلاميين هو الحل“ لكل شيء لأي شيء، من اكتتاب في بنك إلى جرائم القتل.

-٤-

بعيداً عن هذه الدوافع السياسية التي تقع خلفه، فإن نظرة بسيطة إلى محتوى هذا الخطاب تكشف سطحيته وهشاشته. فهو يخطئ ثلاث مرات: مرة في تشخيص ما حدث، ومرة في فهم الطائفية، ومرة أخيرة في الحلول التي يطرحها.

لنبدأ بمفهوم الطائفية. فهذا الخطاب يختزل الطائفية بأنها محض خطاب الكراهية المذهبية. وهذين الأمرين، رغم وجود علاقة بينهما، إلا أنهما مختلفان تماما. فالطائفي هو- ببساطة- من يعتبر أن هويته المذهبية هي هويته السياسية. فهو، مثله مثل من يرفع الهوية الوطنية، قد يكون مسالما وقد يكون عنيفا، قد يكون متعصبا وقد يكون نقديا، قد يكون داعية للتآخي والتعاون مع غيره من المذاهب، وقد يكون داعية للعداء معها، بل إنه قد يكون علمانيا. ما يميزه ليس العنف ولا الكراهية ولا التديّن، بل تسييسه لإنتمائه المذهبي، أي اعتباره لشركاء المذهب بأنهم هم الجماعة السياسية التي ينتمي إليها ويظهر من خلالها في المجال السياسي ويعرف نفسه عبرها. لنأخذ مثالا. مهنا الحبيل كاتب وناشط أحسائي معروف، وعندما حدثت الحادثة أعلن تضامنه مع الضحايا وأهاليهم، وقام على الفور بزيارة المصابين في المستشفى، كان نشيطا في تأكيد رفضه للحادثة وكل ما يتعلق بها من عنف، وشدد على أهمية التعايش والسلم والتعاضد. وهو، بشكل عام، داعية سلام، وينادي دوما بالإصلاح، ودائما ما يرفض العنف و ينبذه. وهو متدين، حريص على قضايا أمته، وآخر مقالاته التي كتبها كانت عن قضية فلسطين، ولا تجد في أحاديثه أي تبني لخطاب الكراهية ضد أي أحد. من يفهم الطائفية بأنها تساوي الكراهية المذهبية، سيرفض على الفور اعتبار مهنا الحبيل طائفيا، لكن من يعتمد التعريف الذي قدمته سابقا لن يجد أي تعارض بين كونه متضامنا، وداعية سلام، وإصلاحي، وبين كونه طائفي. لماذا أقول عنه طائفيا؟ ليس لأنه يتبنى العنف، وليس لأنه يبث خطاب الكراهية، وليس لأنه معاديا للوطن والاصلاح، بل فقط لأنه يرى نفسه ممثلا لما يدعوه بـ”المجتمع السني“، ويعتبر الهويّة السنية محددا أساسية من هويته السياسية ويعبر عن نفسه من خلالها. فعلى سبيل المثال، في حسابه في تويتر غرّد قائلا ”قصدنا الأطفال والكبار المصابين وابلغناهم رسالة المجتمع السني ضد الجريمة ووجدنا كل وعي وتفهم“، فهويته المذهبية حاضرة بشدة لرؤيته للأحداث السياسية من حوله.

ولأوضح أكثر كيف أن الكراهية الدينية ليست هي الطائفية، لنتخيل بلدا مثل لبنان، ولنتخيل أن الدولة قامت فيه بإصدار كافة القوانين والقيود الممكنة على خطاب الكراهية الديني بحيث استطاعت أن تمنعه وتنهيه بشكل كامل: هل يكف لبنان عن أن يكون بلدا طائفيا؟ الجواب قطعا لا، سيستمر اللبناني بتعريف نفسه سياسيا بأنه سني أو شيعي أو مسيحي وسيتم توزيع المناصب بينهم على أساس هذه الهويات الطائفية. هذا المثال يكشف بوضوح أن الطائفية ليست خطاب الكراهية، بل هي ما ينتج عن بناء المواطنة السياسية على أسس مذهبية، فيكون الانتماء المذهبي الذي يولد عليه الفرد محددا للقيود والحدود المفروضة عليه سياسيا.

تبدو الطائفية في دول الخليج على ثلاث أشكال، كلها سياسية. فلأن الحياة السياسية في هذه الدول شبه معدومة، أي لا انتخاب ولا ترشح، فإن المواطنة تنحسر لتكون بشكل رئيسي مجرد علاقة خدمية. فالدولة- لأنها ريعية- ليست ضريبية بقدر ما هي توزيعية، أي أنها لا تقوم بجمع الضرائب بقدر ما توزع الخدمات بين المواطنين. وعندما تقوم باعتبار الانتماء المذهبي مؤثرا على قرارات توزيعها للخدمات للمواطنين فإنها هنا تقوم بممارسة سياسة طائفية. أي إذا كان هناك مواطنين يتم منحهم خدمات لا يتم منحها لغيرهم فقط للاختلاف المذهبي، فإن هذا التمييز يكون طائفيا، لكنه- لنشدد مرة أخرى- تمييز في الخدمات وليس في الحقوق السياسية التي يكون الجميع محروما منها.

بالإضافة لهذا المجال الخدمي، هناك المجال الرمزي. فالدولة ليست جهاز توزيع موارد بل هي أيضا أحد فضاءات توليد معنى الجماعة التي تمثلها هذه الدولة. فإذا كان المعنى والرواية التي تتبناها الدولة لنفسها منحاز لمذهب بعينه، فإن هذا يحفز تأسيس حركات طائفية من كلا الجهتين تبدأ بالسعي والتنافس نحو المشاركة في هذا التمثيل. وعندما ينشأ مثل هذا الوضع في وسط إقليمي توجد فيه طوائف مماثلة، فإن الروابط الطائفية المسيسة العابرة للحدود القطرية تزداد قوّة- وهذا هو الشكل الثالث- فتصبح الهويّة الطائفية منافسة- إن لم تكن تتغلب- على الهوية الوطنية ومتجاوزة لها. أي تصبح العلاقة بين السني السعودي والسني السوري أو الشيعي السعودي والشيعي العراقي أقوى من الناحية السياسية من العلاقة بين السني السعوي والشيعي السعودي.      

هذه هي مظاهر الطائفية في دولنا، فهي من جهة ليست مرتبطة بخطاب الكراهية الديني، ومن جهة ثانية متعلقة بقضايا سياسية مرتبطة بشكل رئيسي بالدولة وسياساتها. وهذا النوع من الطائفية إذا أردنا تجاوزه فإن علينا أن نبدأ بإصلاحات داخل بنية الدولة نفسها، أي أنه لا يمكن حله بالدعوة إلى الحل البوليسي الذي يطالب الدولة بالمراقبة والتحكم بالمجال الثقافي والديني.

ومثلما يكشف هذا الفهم للطائفية سطحية الحل الذي يقدمه اللبراليين، فهو يكشف هشاشة تشخيصهم لما حدث. فإذا أردنا أن نشخص أن حادثة الأحساء طائفية، فإن هذا يعني أنها حادثة سياسية قامت بها أحد الجماعات الطائفية لتحقيق أهداف سياسية. إذا رجحنا هذا الاحتمال، فإن الغالب أن يكون هذا العمل واحد من تبعات الصراع الدائر في سوريا والعراق، ومن هنا تكون المشكلة ليست في خطاب الكراهية الذي يبثه الإسلاميون في السعودية، بقدرما هي في الخيارات السياسية للمنظمات الجهادية الطائفية في العراق والشام واستراتيجية تعامل دول الخليج مع الوضع الطائفي المتفجر في الهلال الخصيب.

أما إن أردنا أن نشخص المسألة بأنها ليست سياسية، وبالتالي ليست طائفية، بل مجرد فعل عبثي غير مخطط له ولا مدبر له، قام به الجناة بسبب كراهيتهم الشديدة للشيعة النابع من التأجيج والحشد الذي يقوم به الإسلاميين، فإننا سنواجه معضلة الإجابة على سؤال: لماذا تلقينا له يكون بهذا الشكل الاستثنائي؟ ولماذا الان تحولت هذه الكراهية إلى فعل؟ فإذا كانت هذه الثقافة موجودة منذ عقود، لماذا لم تستحل إلى عنف إلا الآن؟ كل محاولة للإجابة على هذخ الأسئلة ستحيلنا لما يحدث في الهلال الخصيب.

أخيرا، يكشف هذا الفهم للطائفية أن الخطاب اللبرالي هو الطائفي. فهو مثلما ينزع الإرادة والمسؤولية عن الجناة، ولا يراهم كفاعلين سياسيين مسؤولين عن جريمتهم، يقوم أيضا بنزع الإرادة والمسؤولية عن الشيعة وتحويلهم إلى محض ضحايا و”أقلية” مهددة بحاجة للحماية. وإذا استذكرنا أحداث الأعوام الماضية وكيف تعامل معها هذا الخطاب- مقالة محمد آل الشيخ  إنه الوطن أيها العملاء مثال ناصع على ذلك- فإننا نستطيع أن نرى كيف أن الشيعي كان يتم تصويره في الخطاب بإما أنه عميل متخفي لقوى أجنبية، أو ضحية مستباحة بحاجة للحماية، فهو بكلا الحالتين بلا إرادة ولا مسؤولية، وهو بكلا الحالتين يعرّف سياسيا بهويته المذهبية. وإذا أضفنا البعد الجغرافي لهاتين الصورتين، فإن القطيف ستكون هي التي تنتشر فيها الصورة الأولى، والأحساء هي التي تنتشر فيها الصورة الثانية.

-٥-

يبقى الآن سؤالين. الأول: هل هذا يعني أن نترك خطاب الكراهية دون أن يمس؟ الجواب هو لا. لكن ما ينبغي أن نفعله بخطاب الكراهية يجب أن يتحدد بناء على عدة أمور، الأول هو أن حرية التعبير أولوية قصوى، والثاني أنه لا يوجد دليل كافي على ارتباط خطاب الكراهية بما حدث، والأخير أن خطاب الكراهية لا يمكن إنهاؤه إلا في دولة شمولية تتحكم في جميع مفاصل الحياة، ذلك لأن الكراهية- في التحليل الأخير- هي من أعمال القلوب.

ماذا نعمل إذن؟ الجواب هو أن نزيد من حرية التعبير ونحميها، فإذا كان من يرفضون خطاب الكراهية مطمئنون أن القانون سيحميهم إن عبروا عن آراؤهم بحرية فسيقومون بنقد ومواجهة هذا الخطاب، فالأفكار والتعبير تواجه بمثلها. فإن كان اللبراليون صادقون في رفض هذا الخطاب، فليمولوا ويفتحوا قنوات فضائية وليدخلوا المساجد وليدخلوا الجامعات وينافسوا خصومهم هناك، أما الاختباء خلف القبضة الأمنية وتبرير التسلط فهو ليس حلا بأي معنى من معاني هذه الكلمة.

أما السؤال الثاني فهو: إذا لم تكن الكراهية المذهبية ولا الثقافة هي السبب لما حدث، وأن السبب هو بشكل رئيسي ما يجري في الهلال الخصيب، فما العمل؟ الجواب: هو بناء استراتيجية للصراعات في تلك المنطقة تمنع انتقال شررها إلينا. هذه الاستراتيجية يجب أن لا تكتفي لأن توجه ضد التنظيمات الجهادية هناك، بل يجب أن توجه بشكل رئيسي للأنظمة المستبدة هناك أيضا وبشكل رئيسي نظام بشار الأسد. كما أن هذه الاستراتيجية يجب أن تبرز باعتبارها زعامة إقليمية لا باعتبارها جزءا من تحالف توجد فيه دول كانت سببا رئيسيا لما يحدث من دمار في تلك المنطقة، فدول الخليج قادرة وتملك ما لا تملكه تركيا ولا إيران ولا إسرائيل: العروبة، والمال، والقوّة، واحتضان الحرمين الشريفين. هذه المصادر الرمزية الكبيرة كفيلة بأن تؤسس لاستراتيجية عربية تقوم بدعم كل الأطياف التي تهتم بإنهاء الاستبداد وإنهاء المنظمات الجهادية والطائفية، سنية كانت أم شيعية، والمساعدة في دعم بناء أنظمة عربية ديمقراطية مستقرة. وبسطر واحد: كلما ساهمنا ودعمنا من يريدون الحرية والديمقراطية والأمن في الصراع الملتهب في الهلال الخصيب، كلما وقينا بلادنا تكرار مثل هذه الأحداث.

اترك تعليقاً