هل الفلسفة هي الحل؟

كتب شتيوي الغيثي في الوطن مقالا بعنوان “الفلسفة بوصفها حلا فكريا”. وفي نفس الجريدة أيضا، كتب عبد الله المطيري مقالا بعنوان “الحاجة إلى الفلسفة الآن” وآخر بعنوان “لماذا الفلسفة؟”. وهناك عدد من المقالات التي تدور حول نفس الموضوع، وتحاول طرح إجابة على سؤال: لماذا المطالبة بالفلسفة؟ وتأتي الإجابة انطلاقا من إشكالية التعامل مع المنتجات الغربية، ومغايرا للموقف الإسلاموي التقليدي.
فالموقف الإسلاموي التقليدي من المنتجات الغربية يشدد على أمرين: الأول فصل هذه المنتجات عن سياقها الذي تشكلت فيه، انطلاقا من اعتبارها مجرد وسائل محايدة، لا قيمة لها، بالامكان اعادة استزراعها في أي مكان، بل حتى أسلمتها. والثاني هو التعامل مع هذه المنتجات بميزان النافع والضار، اعتمادا على تفسير خاص للشريعة. ونتج عن هذا الموقف، أن أصبح الاسلامويون عاجزون عن حل مشاكل مجتمعاتهم. فالمصنع، على سبيل المثال، من حيث هو منشأة انتاجية، يعتبر من الأمور النافعة. ولكن، لأن استيراده لا يكون محايدا، فهو يحمل معه كافة مشاكله وقيمه، كتقسيمه للأماكن: لأماكن عمل واماكن حياة عادية، وتقسيمه للزمان: لساعات عمل وساعات حياة عادية، وتحديد قدرات الافراد على اشباع رغباتهم بما يوفره من دخول، وتعزيز قيمة الفرد… فكل هذه التبعات من الصعب فصلها عن استيراد المصنع، ولا يمكن فهمها ومحاولة علاجها دون التخلي عن مسلمة “المنتجات المحايدة”، ولأن الموقف الاسلاموي لا يتخلى عنها، فهو لا يستطيع فهم وحل هذه المشاكل. والسؤال لماذا لا يتخلى عنها؟ لأن التخلي عنها يعني الاعتراف بانحياز هذه المنتجات لسياقها الفكري والفلسفي والاجتماعي، وبالتالي يصبح استيرادها، استيراد لقيم الغرب وثقافته وفلسفته، وهذا ما يشدد الاسلامويون على رفضه.
وكموقف مقابل، تأتي مبررات المطالبين باستيراد الفلسفة، والمؤكدين على حاجتنا إليها، انطلاقا من التشديد على مدى الترابط بين هذه المنتجات والفلسفة التي انتجتها. ويفسرون ظاهرة الاستهلاك المستشرية في مجتمعاتنا من هذا الاكتفاء بالمنتجات دون الالتفات للفلسفة المسببة والمنتجة لها. وانطلاقا من هذه المبررات، يتم تقديم الفلسفة كمطلب أساسي للتقدم، والتخلص من التخلف، بل تصل المسألة حد التغزل بالفلسفة، بوصفها سلسلة لا تنتهي من الأسئلة، كما يصفها شايع الوقيان في مقالته “سؤال الفلسفة” في جريدة الرياض.
أصحاب هذه الرؤية يربطون بين قضيتين لا علاقة بينهما: الأولى هي حرية التفلسف، والثانية الإصلاح. فهم يعتبرون أن جزءا رئيسيا من التخلف الذي نعاني منه يعود إلى غياب الفلسفة وتغييبها أو محاصرتها أو تفريغها من محتواها. صحيح أن سمعة “الفلسفة” في السعودية ليست جيدة، وأن إسلاميينا يتحدرون من أشد المذاهب عداء للفلسفة، مذهب يؤسس لنفسه من عذابات أحمد بن حنبل التي يتم تصوير تأثر معذبيه من المعتزلة بالفلسفة عاملا حاسما في هذه المعاناة. وصحيح أن إسلاميينا يبنون خطابهم على أساس محاربة “التغريبيين” و”العقلانيين” وهم المتأثرين والمروجين لأفكار الغرب وفلسفته. كل هذا صحيح، ولكن ليس صحيحا أبدا، أن مقاومة كل هذا التضييق وإيجاد بيئة لحرية التفكير والتعبير، كفيل بالإصلاح أو تحقيق نهضة ما. فقضايا الحريات ليست مرتبطة بالضرورة بقضايا الحقوق والواجبات، فكم من الدول التي تتوفر على هامش كبير من حرية الرأي والتعبير، لكنها في الوقت نفسه تنتهك الحقوق بالدرجة نفسها التي تنتهكها فيها دول تضيق هامش الحريات هذا؟
صحيح أن النقد الجذري للواقع متطلب رئيسي من أجل إصلاحه، فأنت لا تصلح ما لم تدرك موضع الخلل، والنقد هو العين التي من خلالها تراه. ولكن النقد كفعالية ذهنية ليس احتكارا فلسفيا، يقول كارل بوبر في مقدمته للطبعة الانجليزية من “منطق البحث العلمي”: (… كما أنني مستعد للاعتراف بوجود طريقة يمكن وصفها بالطريقة الفلسفية. إلا أن هذه الطريقة لا تطبع الفلسفة وحدها، إنها بالأحرى طريقة كل نقاش عقلاني وهي بالتالي طريقة العلوم الطبيعية بقدر ما هي طريقة الفلسفة. وأعني بها الطريقة القائمة على صياغة المشكل بوضوح وبتفحص مختلف الحلول المقترحة تفحصا نقادا). وبالتالي احتياج الإصلاح للنقد، لا يعني احتياجه للفلسفة. من ناحية المبدأ، أنا أنحاز مع المطالبة بحرية التفلسف والتفكير والتعبير… لكن أرفض تماما الذي يحدث على أرض الواقع، فالذي يحدث ليس تفلسفا، بل هو “استهلاكا للفلسفة”… بحيث ترى المهتم بالفلسفة لا هم له سوى التعرف على آراء الفلاسفة الغربيين، والحرص على ضبط مقولاتهم، فينأسر بهم ويقع تحت سلطتهم، وتضمر فيه حاسته النقدية تماما… الحاسة التي يفترض أن اهتمامه بالفلسفة ينميها وينعشها. والذي يحدث على أرض الواقع هو هذا الولع بالغموض والانئسار بالكلمات، وتكريس نوع من الفوقية والنخبوية، بحيث يكاد يكون المتفلسف لا يخاطب إلا نفسه، وهذه صفة إلهية على الفيلسوف – كما يقول بوبر- “أن يعلم أن ليس فيه ما يؤلهه أكثر مما في سواه من الناس”.
قضية الإصلاح هي الأولوية، وواجب المثقف أن يجعلها قضية واضحة قدر الإمكان، يستشعر أهميتها أكبر قدر ممكن من الناس، أي أن يكون خطابه جذابا وواضحا ومنتجا. قد يتوسل ذلك عبر الفلسفة، لكنها حتما ليست الطريق الوحيد ولا الطريق الضروري.

اترك تعليقاً