هل تتدخل الدولة في الحيز الخاص؟

في الدولة الحديثة حيّزان. الحيز الأول هو حيز عام يظهر فيه الإنسان باعتباره مواطنا، والعلاقة فيه تتشكل باعتبارها علاقة بين مواطن ودولة، وهو ما يسمى بالمجال السياسي. في هذا المجال السياسي – ولأجل تحقيق العدل- تكون المساواة بين المواطنين مسألة أساسية، إذ أن المساواة والعدل مترابطتان ارتباط جوهري في هذا الحيز.
لكن بمقابل هذا الحيز العام، هناك حيز خاص لا يكون فيه الإنسان مواطنا بل فردا يتعامل فيه مع الآخرين كأفراد  هم أهله وأصدقائه وأقاربه أو غير معروفين. وهذا الحيز بدوره ينقسم إلى قسمين: المجال الاجتماعي، والمجال الفردي. وبحسب المفكرة السياسية حنة أرندت، فإن ما يحكم الأفراد في المجال الأجتماعي هو التمايز، وما يجمعهم في المجال الفردي هو الحميمية. فأنت في مجالك الاجتماعي تظهر باعتبارك منتميا لمجموعة، وهذه المجموعة متمايزة عن مجموعات أخرى ومختلفة عنها سواء من ناحية فكرية أو عرقية أو دينية أو مذهبية أو قبلية، ومن خلال هذا التمايز يحدد كل فرد نفسه أمام الآخر المنتمي هو الآخر لمجموعة أخرى على الرغم من أن كلاهما لابد أن يكونا متساويان أمام الدولة في الحيز العام.
وتنشأ المعضلة عندما يتم نقل تساوي المواطنين في الحيز العام إليهم كأفراد في المجال الإجتماعي في الحيز الخاص، إذ أن هذا النقل لن يعني سوى مصادرة وإلغاء كافة المجموعات المتمايزة في هذا المجال ومحاولة مجموعة واحدة- لبرالية كانت أم إسلامية- إحتكار هذا المجال بأكمله. وهذه المجموعة لن تقوم بذلك إلا عبر التوسل بأدوات قمع الدولة، إما لأجل شطب الآخرين أو- على أقل تقدير- من أجل استخدام هذه الأدوات كحامي لوجوده وقامع للآخرين ومضيق عليهم. إذ أن الغاء التمايز بين المجموعات المختلفة من الأفراد في المجال الاجتماعي، لن يؤدي إلى المساواة بينهم، بل إلى التماثل والتشابه أي في النهاية إلى ازدهار وتعاظم بقاء مجموعة واحدة فقط على حساب البقية. وبالإضافة لإلغاء وجود الجماعات المختلفة، فإن نقل المساواة من الحيز العام إلى المجال الإجتماعي من الحيز الخاص، يلغي المساواة نفسها في الحيز العام، إذ أن الحاجة لها كمساوي بين المختلفين أمام القانون تصبح منتفية طالما أنه قد تم إلغاء المختلفين في المجال الاجتماعي  واقصائهم، ولن يبقى من المساواة في الحيز العام سوى التفرد والاستئثار.
وعدم مراعاة هذا التمايز في المجال الاجتماعي في الحيز الخاص والتعامل معه باعتباره (جريمة تمييز) على أساس اللون أو الدين أو العرق كما يفعل عادة بعض الحقوقيين اللبراليين، إنما هو إقحام للدولة في مجال لا علاقة لها به وبالتالي تدميره لصالح مجموعة بعينها. وعدم المراعاة هذه تنشأ عادة من كون ما يحكم علاقات التمايز بين الأفراد في المجال الاجتماعي هي الأعراف والتقاليد والموروثات، والتي قد تكون في بعض الأحيان محرضة على كراهية المجموعات الأخرى أو كلانية تنتهك حرية الفرد وتقمعه. فيقوم المحافظين عادة بسن قوانين (أي بإقحام الدولة) لصالح المجال الاجتماعي وعاداته وتقاليده فتقيد فيها حرية الفرد وتنتهكها من أجل تأكيد أولوية، بحيث يصبح مخالفة الفرد لجماعته في مسائل سلوكه وصداقاته وزواجه وتصرفه في كل ما يتعلق باختيار من سيمضي معهم بقية حياته ليس مجرد تمردا على الجماعة بل (جريمة) يعاقب عليها القانون. وبالمقابل يقوم اللبراليون بسن قوانين (أي إقحام الدولة أيضا) لصالح الفرد مقابل مجاله الاجتماعي بما يعود على هذا المجال بكافة تمايزاته إلى الالغاء والتدمير الذي يتبعه تحطم للمساواة في الحيز العام، بحيث يضحي الفرد بمجاله الفردي في مواجهة مباشرة مع الدولة، وتصبح قضاياه الحميمية قضايا سياسية.
هل هذا يعني أن الدولة لا تتدخل أبدا في حيز الأفراد الخاص، ولا تتدخل في الصراع الذي يحدث بين الأفراد والمجموعات التي ينتمون إليها فيه؟ في الحقيقة أن الدولة الحديثة، ومنذ أن تحولت إلى مسؤولة تنموية عن مواطنيها أواخر القرن التاسع عشر بشكل أولي وبعيد الحرب العالمية الثانية بشكل نهائي، باتت تقتحم هذا الحيز من بوابة الاقتصاد وادارته. فهي بما تمتلكه من موادر ضخمة، وادوات ووسائل تنفيذ متنوعة، تجعل قدراتها على الانجاز وتوفير الوظائف والخدمات والسلع هائلة جدا. ومن هذا الاقتحام الاقتصادي تقوم بالتأثير المباشر على أنماط العلاقات في الحيز الخاص وبشل حاسم.
ولكن بغض النظر عن الاثر الناتج من هذا الاقتحام الاقتصادي، إلا أن على الدولة أن تبقى بعيدة عن الحيز الخاص، لأنه ضامن المساواة في الحيز العام، وبالتالي لا يحق لها التدخل فيه إلا في حالة واحدة هي حماية حق الفرد في التمرد على مجموعته. فالحيز الخاص وبانقسامه لمجالين- مجال الافراد في مجموعاتهم، ومجالهم الحميمي مع أفراد آخرين (زوجات وأصدقاء)- معرض لأن تحدث فيه صدامات بين الافراد ومجموعاتهم نتيجة اختيارات الفرد أن يمضي بقية حياته بطريقة خارجة عن أعراف وتقاليد المجموعة التي ينتمي لها، هنا في هذه الحالة، حالة تمرده، فإن على الدولة أن تضمن ألا تقوم بتجريم تمرده، بل تحمي هذا التمرد باعتباره حقا إنسانيا، وأن تجعل من قوتها وسيلة لحماية الفرد من مجموعته لحظة تقريره التمرد على أعرافها.

اترك تعليقاً