وهم النظام الرئاسي… نهاية الديمقراطية في تركيا

اعتبر معلّقون عرب كثيرون أن الاستفتاء الدستوري التركي الذي أُجري في 16 إبريل/نيسان يعني انتقال تركيا من نظام ديمقراطي برلماني إلى نظام ديمقراطي رئاسي. هذا غير صحيح؛ ما عناه الاستفتاء هو خروج تركيا من الديمقراطية ككل إلى شكل من السلطوية يسمى “السلطوية التنافسية”.

لكن، قبل إثبات وجهة النظر هذه، يجب تبديد الانطباعات المبدئية. صحيح أن هناك خصوماً كثيرين للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وحزبه “العدالة والتنمية”، في داخل بلاده وخارجها، يردّدون مقولة أن التعديلات تعني نهاية الديمقراطية في تركيا. صحيحٌ أيضا أن هؤلاء مغرضون، لا تهمهم الديمقراطية، ولا تهمهم الحقيقة أصلا، بل كل همهم هو النيل من أردوغان، إما لأنهم معادون للإسلاميين عموما، أو مناصرون لإيران أو النظام السوري أو أنظمة محدّدة في الخليج. لكن، لا يغيّر من صحّة المقولة أن أنذالا يردّدونها، فمعيار الصحة والخطأ هو الحجج التي تقدّم لصالحها، وليس ولاءات من يستغلون صحتها وتحيّزاتهم.

الأمر الآخر، قد يكون أردوغان محدّثاً اقتصادياً كبيراً، وقد تكون سياساته الخارجية مناصرة للعرب والمسلمين، لكن كل هذه الأمور خارج النقاش هنا، ما نناقشه: هل ما قام به تحوّل من شكل ديمقراطي إلى آخر، أم خروج عن الديمقراطية؟

بالعودة إلى السلطوية التنافسية، هناك مثال. في العام 1929، تسلّم الحزب الثوري المؤسساتي في المكسيك السلطة، وبقي فيها 71 سنة، ولم يخسر الانتخابات إلا في عام 2000. خلال هذه الفترة الطويلة، فاز الحزب بتسعة انتخابات رئاسية متعاقبة، وبالأغلبية البرلمانية إحدى عشرة مرة متتابعة. وفي 1997 خسر الأغلبية في البرلمان، وفي 2000 خسر الرئاسة.

يختلف هذا النوع من النظام عن نظامٍ مثل نظام حسني مبارك السابق في مصر، حيث توجد مظاهر ديمقراطية شكلية بلا مضمون حقيقي، وحيث الانتخابات غير نزيهة (تزوّر)، ولا حرّة (قيود كثيرة لمن يحق له الترشح). في المكسيك، كانت الانتخابات نزيهةً وحرّة، وكانت هناك أحزاب أخرى مسموح لها بالمنافسة على المناصب كافة. ومع ذلك، لا يعتبر النظام ديمقراطيا، لأنه، ببساطة، لا يكفي أن تكون الانتخابات حرّة ونزيهة حتى يكون النظام ديمقراطيا. 

كثيرون من علماء السياسة، مثل ليفيتسكي ووي وماجالوني وغيرهما، يضعون شرطا إضافيا للتمييز بين نظامٍ مثل نظام المكسيك ونظام ديمقراطي يسمونه “الميدان التنافسي”. وفي الأنظمة التي يكون فيها ميدان التنافس مصمما بحيث يفيد منه أكثر من حزب واحد، فنحن هنا نتكلم عن ديمقراطية، أما إذا كان ميدان التنافس منحازا إلى حزب واحد، ومصمما لخدمته فقط، فنحن هنا نتكلم عن سلطويةٍ تنافسية. فهي تنافسيةٌ لأنها تسمح بالانتخابات، وتسمح بوجود أحزاب معارضة، لكنها سلطويةٌ، لأن الميدان مصممٌ بحيث لن يكون في مقدور هذه الأحزاب والمعارضة الفوز بأي انتخابات مقبلة.

ما المقصود بميدان تنافسي منحاز؟ المقصود أن هناك قوانين ومؤسسات وإجراءات رسمية وقانونية تجعل من قدرة بقيّة الأحزاب على المنافسة في الانتخابات أضعف بشكل كبير جدا من قدرة حزب واحد. ومثالاً على قدرة الحزب الحاكم على إخراس خصومه ما فعله أردوغان في الفترة بين محاولة الانقلاب في 15 يوليو/تموز 2016 إلى ليلة الاستفتاء في 16 إبريل/نيسان الجاري. فحسب وزارة الداخلية التركية، ألقي القبض على 113266 مواطنا، وتم توجيه التهم لـ47155 شخصاً منهم. وبحسب “صحفيون بلا حدود”، تم منع 2700 صحفي وسجن 130 منهم، وإيقاف 149 منصّة إعلامية، و29 دار نشر. ويحدث هذا كله ضمن حالة طوارئ. كل هذا يعني أن الميدان التنافسي (الإعلام، المؤسسات الحزبية والحقوقية والمدنية، السياسيين) منحاز بشكل واضح لجهةٍ واحدة، فقدرة المعارض للاستفتاء على إقناع الجمهور (عبر الإعلام، عبر الجامعة، عبر الشارع.. إلخ) مقيّدة ومحدّدة ومسيطر عليها.

لا يتوقف الأمر هنا، فالتعديلات نفسها تجعل انحياز هذا الميدان ممأسسا ودستوريا. فالبرلمان الديمقراطي يقوم بدورين: يشرّع القوانين ويراقب الحكومة، والتعديلات الدستورية تجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، على البرلمان مراقبة الحكومة، فالرئيس يعين أعضاء الحكومة ويعزلهم، ويؤسس وزاراتٍ، ويلغي أخرى من دون أي تدخل من البرلمان والقضاء. كما أن البرلمان لا يستطيع استجواب الرئيس أو طرح الثقة عنه، وكل ما يستطيع فعله، بشرط موافقة الأغلبية المطلقة، توجيه تهم له لدى المحكمة العليا التي يعين الرئيس غالبية أعضائها. أما الوظيفة التشريعية للبرلمان، فالتعديلات تعطي للرئيس حق إصدار المراسيم في الأمور التي لم يتقرّر بشأنها قانون، وعندما يستخدم الرئيس حق النقض، على البرلمان حشد أغلبية مطلقة لكي يستطيع كسر هذا النقض.

ليس هذا نظاما رئاسيا، فصحيحٌ أن النظام الرئاسي يجعل الرئاسة أقوى من البرلمان، لكنه يفعل ذلك من دون الإخلال بمبدأ توازن السلطات (أي قدرة كل سلطة بالحد من السلطة الأخرى). 

 لنأخذ النموذج الأميركي، فالرئيس لا يعين أحدا من حكومته من دون موافقة الكونغرس، ولا يعين أحدا من قضاة المحكمة الدستورية من دون موافقة الكونغرس أيضا. يستطيع الجهاز القضائي تعطيل قرارات الرئيس، والحكم بعدم دستوريتها. يستطيع البرلمان استجواب من يشاء من الحكومة، ولا يستطيع الرئيس حلّه. في المقابل، ماذا لدى البرلمان والقضاء التركيين من قدرة على الحدّ من سلطة الرئيس؟ برلمان لا يملك إلا نزرا يسيرا من قدرته الرقابية، ومحاصر في قدرته التشريعية أمام رئاسةٍ لا تُساءَل، ومطلقة اليد في التعيين والفصل.

هذا نظام يتيح للحزب الذي يستطيع كسب 51% من الأصوات أن يحكم بشكل مطلق. ويستطيع حزب أردوغان الفوز بهذه النسبة، على المدى القريب على الأقل، لأن الميدان التنافسي منحازٌ لصالحه، فبالإضافة إلى القيود الدستورية الموجودة من انقلاب الثمانينيات التي تشترط حدا أدنى من الأصوات للدخول للبرلمان، والتي تعيق الأحزاب الصغيرة من المنافسة، وبالإضافة إلى سياسات اتهام الخصوم السياسيين بالإرهاب، والتضييق على الإعلام (تركيا أكبر سجن للصحافيين في العالم)، وبالإضافة إلى سياسات التجنيس لكسب أصواتٍ جديدة، هناك أيضا تسييس للخدمات الحكومية، من أجل كسب مزيد من الأصوات.

في دراسة لعالم السياسة التركي، إردم آيتاش، الأستاذ في جامعة ييل، حاول فيها استكشاف العلاقة بين الخدمات الحكومية التركية واتجاهات التصويت في الانتخابات من العام 2005 إلى 2008. أورد أن في تركيا برنامج “التمويل المشروط”، تدفع الحكومة بموجبه مبالغ مالية محدّدة للأسر الفقيرة بشرط أن تستثمرها في تعليم أبنائها. وفي العام 2012 قرابة ثلاثة ملايين طفل منخرط في هذا البرنامج، في ميزانية تقدر بـ690 مليون دولار. من السهل تسييس هذه الدفعات، نظرا إلى قدرة الحزب على التأثير في اللجنة المانحة. وفي 2009، وقبل الانتخابات، استخدم أحد حكام المناطق البرنامج لتمويل عدد من الأسر، فرفعت عليه دعوى، وحكمت عليه المحكمة لتسييسه منصبه، وفُصل، لكن أردوغان عاد فعيّنه في منطقة أكبر. درس آيتاش 878 محافظة، وبحث أي المحافظات التي يكون لها دعم أكثر من غيرها. كانت النتيجة، أن الإنفاق يزداد في المناطق التي يكون فيها حزب منافسٌ مقارب أيديولوجيا.

في الختام، كل الصفات المدرسية التي تقال عن نظام السلطوية التنافسية مطابقٌ لحزب أردوغان، وليس هذا الاستفتاء إلا مأسسة وترسيخاً لها. وهذا مؤسف لكل من تهمّه الديمقراطية في المنطقة. أما من تهمه إسلامية أردوغان، أو سياساته الاقتصادية، أو سياساته الخارجية، أو دعمه الإسلاميين، فهذا بالطبع لن يجد في الديمقراطية ما يتحسّر عليه. لكن، من المهم جدا أن لا يخدع نفسه ويخدعنا، ويسمي ما حصل تحوّلاً إلى نظام ديمقراطي رئاسي.

اترك تعليقاً