العرب… بين زمانين

العرب يعيشون بين زمانين، لكل زمان منهما مسلماته وخطاباته و«عقله»، بل حتى واقعه، الخاص به، ولعل المثال الصارخ الذي يوضح هذا الأمر هو الانشطار في الفصائل الفلسطينية بين مشروعين: مشروع «بناء الدولة» من جهة، ومشروع «مقاومة الاحتلال» من جهة أخرى، مشروع بناء الدولة وعلاقة المواطن العربي بدولته ينتمي لزمان خاص به، ومشروع مقاومة الاحتلال واستعادة سيادة الأمة ينتمي لزمان خاص به هو أيضاً، والعرب يعيشون في هذين الزمانين في الوقت نفسه، يتكلمون بالخطابين معاً، يعبرون من هذا الزمان إلى ذاك، من دون أن يردموا الهوة التي تفصل هذين الزمانين عن بعضهما البعض.

حدث الانشطار في الزمان هذا كنتيجة لما دعاه عزمي بشارة يوماً بـ«المسألة العربية»، أي عندما لم تتمكن «الأمة العربية» من أن تستقل في «دولة» مثلها مثل باقي الأمم، بل استقلت إلى «مجموعة دول». هذه الحال لم تخلق «استقلالاً تاماً» للأمة، ولم تنهِ «الاحتلال» بشكل تام، بل خلقت «استقلالاً جزئياً» و«احتلالاً جزئياً»، أي أنها حال بين وبين، حال انفصلت فيها الدولة عن الأمة، فأصبح هناك زمان خاص بالأمة… وزمان خاص بالدولة.

في زمان الأمة، تكون المشكلة الرئيسة هي مشكلة السيادة، وحولها تحديداً تدور الكثير من الخطابات، فمنها ينبع خطاب مقاومة الاحتلال، وخطاب رفض الهيمنة الخارجية على الدول العربية، وخطاب مقاوم لسياسات الدولة القُطرية المناقضة لمصالح الأمة. المعادلات في هذا الزمان موجهة ضد أعداء الأمة، ولأجل حماية هوية الأمة، والأولويات فيه تقدم الأمة على الدولة.

من الناحية الأخرى، في زمان الدولة تكون المشكلة الرئيسة هي مشكلة «المواطنة»، وحول هذه المواطنة تنبع الكثير من الخطابات، سواء تلك الخطابات التي تؤكد على حقوق المواطنة، أو تلك التي تنسب الدولة لطائفة ما، أو قبيلة ما، أو حزب شمولي ما، أو تلك المقاومة للاستبداد. في هذا الزمان التفكير هنا هو حول الدولة: شرعيتها، وتنميتها، مدى عدالتها في توزيع الثروات، علاقتها بالمواطن… إلخ. المعادلات في هذا الزمان موجهة ضد الاستبداد وانتهاكات حقوق المواطن، ومن أجل حماية علاقته بدولته، والأولويات فيه لدولة مناسبة يعيش فيها المواطن على الأمة.

على رغم أن هذين الزمانين متوازيين، إلا أنهما يتبادلان التأثير في ما بينهما. فخطاب المقاومة مثلاً المنتمي لزمان الأمة قد يتسبب في دمار الدولة التي ينتمي حمايتها لزمان خاص بها، فإن تخوض مصر في عام ١٩٦٧ مثلاً حرباً ضد الاحتلال الإسرائيلي كان ثمنها تضرر الدولة، فهو قرار يختلف تقويمنا له بحسب الزمان الذي ننطلق منه، فإن كنا ننظر إليه من خلال زمان الأمة فإننا سنعتبره قراراً شجاعاً وشرعياً وخطوة للأمام نحو استقلالها، وإن كنا ننظر إليه من خلال زمان الدولة فإننا سنعتبره عملاً متهوراً وخطوة للوراء في عملية بناء الدولة، بالمقابل يمكن أن نرى خطاب مصالح الدولة المنتمي لزمانها قد يسهم في استمرار انتهاك سيادة الأمة، مثلما فعلت مصر أيضاً في السبعينات عندما قررت عقد سلام مع إسرائيل، فمن منطق الدولة يمكن تبرير مثل هذا العمل، ولكن لا يمكن إلا إدانته إذا نظرنا إليه عبر زمان الأمة.

الأهم من أن هذين الزمانين يتبادلان التأثير في ما بينهما، هو أنه لا يمكن حل إشكالية أحدهما بمعزل عن حل إشكالية الزمان الآخر، ولعل المآزق التي تنبع من محاولة حل إشكالية أحد الأزمنة إنطلاقاً من فرضية أن الإشكالية الأخرى ستنحل بشكل تلقائي مع حل الأولى لهي الشاهد على هذا الأمر.

فالحل الذي دوماً ما يتم ترويجه للمشكلة الأولى – أي الوحدة – عندما يتم تطبيقه من دون الالتفات لإشكالية الزمان الآخر سينتج دولة وحدة قصيرة الأمد، كالتي حدثت بين سورية ومصر.

ومحاولات تطبيق حل لإشكالية الزمان الثاني – أي التنمية والعدالة الاجتماعية والحد من استبداد من الدولة – من دون الالتفات للزمان الآخر ستنتج دولة مثل العراق التي تحولت ديموقراطيتها فوراً إلى دولة طوائف.

أخذ هذين الزمانين بجدية سيجعلنا نفهم كيف يوجد بين العرب من يرى أن التدخل العسكري – انتهاك السيادة، الاحتلال، الهيمنة – في سورية هو الحل الأفضل للأزمة، لأنه يفكر إنطلاقاً من زمان الدولة، ويرى أن إنهاء الاستبداد هو الأولوية القصوى، كما أنه أيضاً سيجعلنا نفهم كيف أن هناك من العرب من يغمض عينيه عن كل الجرائم التي يقترفها نظام الأسد ضد الشعب العربي في سورية، انطلاقاً من أن هذا النظام داعم لحركات المقاومة المناهضة للاحتلال الإسرائيلي، هذا النوع يفكر في زمان الأمة ويرى الاحتلال هو مشكلته الأم.

إلا أننا الآن في زمان الربيع العربي، زمن الثورة، فهل تحدث الثورة قطيعة مع هذه العيشة بين زمانين وتنهي هذا الصدع في الزمان فتعيد رأبه من جديد؟ أي تجعل عملية بناء الدولة لا تتعارض مع حماية سيادة الأمة ومتكاملة معها؟ أم أن الربيع العربي هو محصور في سياق زمان الدولة، أي أنه يحدث ويتشكل ضمن علاقات المواطنين بالدولة فقط؟ مشكلة هذا النوع من الأسئلة هو أننا لا نملك بإزائه إلا الانتظار والمراقبة لمعرفة أجوبتها.

6 Responses

  1. سلمت.
    لدي ملاحظة بسيطة، الأرشفة في مدونتك بعد تحديثها ليست جيدة تمامًا.
    أبحث عن مقالة قرأتها هنا منذ فترة عن القضية الفلسطينية ولم أجدها، ليتك تتنبه إلى تحسين الأرشفة.

    1. أي تدوينة تقصدين؟ لان قبل اشهر حدث عطل في المدونة فحذفت بعض التدوينات واستطعت استرجاعها كلها ما عدا تدوينة “لماذا ندعم القضية الفلسطينية؟ “

  2. بحثت أيضاً عن مقاله تحدثت فيها عن ولادة الأنسان بين جماعة ينتمي لها وتدرحت لعصر ماقبل الدوله وتوسع الأمبراطوريات وحتى عرجت على عصر النبوه وشكل الدوله التي كانت في ذلك العصر وعصر الدوله الحديثه لا يحضرني أسم المقاله ….ليتك تسعفني بها

اترك تعليقاً