حول مشروع الإبتعاث: رداً على محمود عبدالغني صباغ

قبل أسبوع تقريبا، كتب المدوّن السعودي محمود صبّاغ، طالب كلية الصحافة في جامعة كولومبيا- واحدة من “جامعات النخبة” الأمريكية، كما يحب أن يسميها- عن ما سماه جناية الذهنية الريعية على مشروع الابتعاث موجها بعض الانتقادات لإدارة هذا البرنامج تنطلق من نظرته لما سماه “الذهنية الريعية” ومقترحا تسليم البرنامج – وما بين علامتي تنصيص كلامه هو- ” لمؤسسة عامة مستقلة، تعمل بأسس تجارية، تحمل اسم خادم الحرمين الشريفين، تقوم باعادة توضيب كل متعلقات هذا الملف النهضوي والحيوي كما يجدر ان يكون”.

بنى صبّاغ انتقاده على المحاور التالية:

١- أن الأعداد الحقيقية للطلاب السعوديين- مبتعثين أو غير مبتعثين في كافة المراحل الجامعية والمعاهد والأو بي تي- في الولايات المتحدة هو ٣٤١٣٩ طالب. واعتبر أن هذا الرقم يختلف جذريا عن الأرقام الضخمة التي تنشرها الملحقية، معتبرا ذلك مثالا صارخا على ما يسميه بـ”الذهنية الريعية” التي تقدم الكم على الكيف والتضخيم الإعلامي لهذا المنجز الكمي ليس في موضوع الابتعاث فقط بل في غيره من عدد جامعات وما إلى ذلك.

٢- وللتأكيد على هذه العقلية الريعية المنحازة للكم على حساب الكيف، يقدم صباغ نموذجا آخرا وهو عدد الطلاب في ما يسميه “جامعات النخبة”، وكيف أن عددهم في هذه الجامعات قليل نسبيا بالمقارنة بتمثيل دول الجوار الاقليمي مما يؤكد تركيز إدارة البرنامج على الكم لا الكيف.

ومن هذين المحورين أعلن صبّاغ فشل وزارة التعليم- بل تحديدا فشل “الذهنية الريعية”- في إدارة ملف الابتعاث وطالب بتسليمه لمؤسسة
مستقلة.

يمكن القول بشكل مختصر، أن تدوينة صبّاغ لا تعكس، إن كانت تعكس شيئا، إلا فشل “جامعات النخبة” في تأهيل طلابها للقيام بأبسط أبجديات البحث عن المعلومة والدقة في توظيف المفاهيم للوصول لنتائج متسقة ودقيقة وواضحة.

وهذا الكلام الذي اختصرناه هنا، سنقوم بإثباته عبر النقاط التالية:
1- كم عدد الطلاب السعوديين في الولايات المتحدة الأميركية؟
في هجومه على الأرقام التي تصدر من ملحق المملكة في أمريكا، قام محمود صبّاغ بالاستناد على أرقام معهد التعليم الدولي، معتبرا إياها أرقاما “معصومة” لا يأتيها الباطل من فوقها ولا من تحتها. ما فات طالب كلية الصحافة في إحدى “جامعات النخبة” الأميركية هو أن يتساءل “علام يستند معهد التعليم الدولي في أرقامه؟” قبل أن يقوم بتوظيفها كحقيقة دامغة يدين فيها تصريحات الملحقية. إذ بالتوجه إلى صفحة “أسئلة
شائعة” في موقع المعهد سنجد السؤال التالي: “كيف يتم جمع المعلومات المتعلقة بالطلبة الدوليين؟”، وتأتي الإجابة كالتالي: ” يتم الحصول على البيانات المدرجة في تقرير أوبن دوور السنوي عبر إرسال إحصائيات لحوالي ٣ آلاف مؤسسة تعليم عالي أميركية معتمدة، حيث تقوم كل واحدة منها بتوفير المعلومات عن الطلبة الدوليين المسجلين لديها….”. فهي من الناحية المبدئية لا تقوم بأخذ معلومات كل الجامعات الأميركية، إذ أن عدد المؤسسات الأكاديمية الأميركية التي تمنح درجات علمية بحسب المركز الوطني للإحصاءات التعليمية في عام ٢٠٠٩/٢٠١٠ هو حوالي ٤٥٠٠ مؤسسة. إلا أن هذا الرقم بطبيعة الحال لا يشمل معاهد اللغة والمراكز التي تقدم دورات تدريبية على اختبارات الجي آر إيه والجيمات وغيرها. وبحسب موقع الجهة المسؤولة عن الهجرة والطلبة الأجانب في الولايات المتحدة الأميركية، فإن عدد المؤسسات التي لها الحق بتقديم خدمات تعليمية للطلاب الدوليين هو ٩٦٧٥ مؤسسة.

ليس هذا فقط، إذ أنه وبحسب المركز الوطني للإحصاءات التعليمية أيضا، فإن نسبة المؤسسات التي تستجيب مع الاحصائية التي يقوم بها معهد التعليم الدولي كانت في عام ٢٠٠٩/٢٠١٠ حوالي ٦٣٪، أي أنه من أصل ٢٦٧٣ مؤسسة طلبت معلوماتها لم تستجب إلا ١٦٨٤ مؤسسة تعليمية. وهذا يعني أن هذه الأرقام تعبر فقط عن عينة من الجامعات الأميركية وليس كل الجامعات ولا كل الطلاب وبالتالي لا يمكن أخذ أرقامها على أنها تحمل أي دلالة في هذا الموضوع.

يعضّد من هذه النتيجة أننا لو اتجهنا إلى تقرير لمؤسسة أخرى فإننا سنجد رقما آخرا، فمنظمة اليونسكو، التي هي إحدى شركاء معهد التعليم الدولي، في تقريرها السنوي عن اتجاهات تنقلات الطلبة الدوليين تقدم رقما مختلفا عن عدد الطلبة السعوديين في الولايات المتحدة الأميريكية في عام ٢٠١٠/٢٠١١. فالرقم الذي تقدمه للطلبة المنتظمين في مؤسسات تعليمية (active students) تلك السنة – أي بدون المرافقين- هو 43910 طالب، أي أكثر بعشرة آلاف من الرقم الذي يقدمه صبّاغ لعام ٢٠١٢ بعد التحاق أفواج أخرى من الطلاب الجدد!

إلا أن هذا الرقم أيضا ليس رقما “حقيقيا”، بل هو رقم تقريبي، إذ أن الرقم الأشد قربا للحقيقة هو الرقم الذي تقدمه سلطات الهجرة الأميركية وهم بحسب تقريرهم الربع سنوي الذي أصدروه في ١ أكتوبر من عام ٢٠١٢ فإنهم يذكرون أن عدد الطلاب السعوديين المنتظمين بمؤسسات تعليمية – أي بدون المرافقين- هو ٥٧٢١١ طالب– كما هو مبين بالشكل التالي المقتبس من تقريرهم:

Screen Shot 2013-02-27 at 4.30.17 AM 1

وهذا الرقم قريب جدا من الرقم الذي ذكره الملحق الثقافي في أغسطس من عام ٢٠١٢، أي ٦٤ ألف طالب، إذا اعتبرنا أن نسبة كبيرة من زوجات وأزواج المبتعثين يحملون فيزا إف تو والتي لا تجعلهم طلابا منتظمين (active students) بحسب توصيف سلطات الهجرة الأميركية، ويظل الرقم قريبا حتى بعد خصم الدارسين على حسابهم.

يبقى أن تصريحات الملحقية- أو نقل الصحف عنها- يعاني من مشكلة في التفريق بين عدد الطلاب المبتعثين وبين عدد الطلاب مع ذويهم، كما أن الصعود السريع في الأرقام متفهم اذا اخذنا بالاعتبار أن زيادة الطلاب السعوديين من عام٢٠١٠ إلى ٢٠١١ كانت بحدود الخمسين بالمائة بحسب تقرير اليونسكو.

أخيرا، لإن كانت السعودية هي الرابعة من حيث عدد الطلاب في الولايات المتحدة، فهي الأولى من حيث نسبة الطلبة المبتعثين إلى أمريكا إلى عدد سكانها. فبين كل ٣٣٩ مواطن سعودي هناك طالب مبتعث إلى الولايات المتحدة الأميركية، في حين أن هناك طالب صيني لكل ٥٢٢٦ مواطن صيني، وهذه النسبة ستتقلص أكثر إذا اضفنا عدد الطلبة المبتعثين في بقية البلدان، والذين يبلغ عددهم حسب تصريح الوزارة ١٠٦ ألف، لتصبح طالب مبتعث لكل ١٨٣ مواطن، أي يمكن القول بشيء من المبالغة- باعتبار أن ثلثي السعوديين أقل من عشرين عاما- أن هناك تقريبا في كل أسرة سعودية يوجد مبتعث أو مبتعثة.

وبعد هذا الاستعراض لمشكلة “عدد الطلاب في أميركا” سنجد أن محمود صبّاغ- طالب جامعة كولومبيا- تعامل مع أرقام المعهد الدولي بشكل غير علمي، معتبرا اياها “احصاءات رسمية” أولا، وبانيا عليها حكما قاسيا على تصريحات الأجهزة الحكومية التي اتضح أن ارقامها أقرب إلى الأرقام الأميركية من المعهد الدولي ثانيا.

٢- أسطورة “جامعات النخبة”

هناك أربعة أسئلة أساسية حول محور “جامعات النخبة” الذي قام صبّاغ من خلاله بمحاربة وزارة التعليم العالي:

١- هل هذه التقييمات التي تقدم يمكن اعتمادها كمعيار نهائي يمكن الاحتكام عليه؟ لن أخوض في المشاكل الأساسية التي تعتري هذه التقييمات والتي يكفي لمعرفة مدى سوءها مشاهدة كيف استطاعت جامعة الملك سعود أن تصعد على سلمها بشكل سريع ومريب وذلك فقط باجراء بعض التعديلات التي تتناسب مع مقاييسها دون تغيير جوهري في نظامها التعليمي. وهذا الأمر يعيبه جدا صبّاغ، لكنه في نفس الوقت الذي يعيب الجامعات السعودية على التسابق للحصول على تقييمات عالية، يقوم باستخدام هذا المعيار كمقياس يحاكم به برنامج الابتعاث، فهو إما أن يقبل بهذه التقييمات وبالتالي يقبل أن جامعة الملك سعود من ضمن أفضل ٤٠٠ جامعة في العالم، أو أن يرفضها وبالتالي لا يحاكم برنامج الابتعاث بها.

٢- لو سلمنا جدلا بأن هذه التقييمات سليمة، فإن هذا ليس أمرا كافيا لأن يعتبر صبّاغ برنامج الابتعاث “ريعي” فقط لأن نسبة الطلاب السعوديين قليلة في “جامعات النخبة”. الطريقة الوحيدة لصبّاغ أن يثبت نقطته هي ألا ينظر لجامعات النخبة، بل ينظر إلى معايير الاعتماد الاكاديمي. أي على أي أساس تقوم وزارة التعليم العالي بقبول ورفض برنامج دراسي ما، وعبر تقييم هذه المعايير يمكنه أن يخرج بنتيجة تحدد ما إذا كان البرنامج يركز على الكم لا على الكيف.

٣- ولو افترضنا أن الدراسة في جامعات النخبة مؤشر على “الذهنية الريعية” لإدارة الابتعاث، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا خمسة؟ لماذا ليس العشرين الأولى؟ الثلاثين الأولى؟ لا يوجد مؤشر لاختيار رقم خمسة سوى الاعتباط المحض.

٤- ولو افترضنا أن رقم خمسة له قدسية معينة ويمكن اعتباره مؤشرا على الذهنية الريعية، فلماذا اعتمده صبّاغ على الجامعة بشكل عام؟ لماذا لم يعتمده على كل برنامج على حدة. فأفضل خمس جامعات في الهندسة، ليست هي أفضل خمس جامعات في الإعلام، ليست هي أفضل خمس جامعات في الطب…إلخ. مرة أخرى، إن اكتفاؤه بتقييم الجامعة عوضها عن تقييم التخصص، هو اعتباط محض.

خاتمة

ليس الهدف من هذه التدوينة هو الدفاع عن برنامج الابتعاث، بل هو لأجل عدم الاغترار بالنقودات التي تبدو في ظاهرها علمية في حين أننا حين تفحصها نجدها لا تقوم إلا على أسس هشة. لنأخذ مثلا التوصية التي يقدمها صبّاغ، فهو يريد مؤسسة عامة بديلة عن وزارة التعليم العالي لتولي برنامج الابتعاث، والسبب في ذلك هو التحرر من البيروقراطية. إن “البيروقراطية” تبدو هنا بمعناها العامي كـ”حكم أخلاقي” أكثر من كونها مفهوم يصوّر “سمة إدارية”، فكل جهاز إداري معقد هو جهاز بيروقراطي، حتى المؤسسة التي يبشر بها صبّاغ، ستكون رغما عنها مؤسسة بيروقراطية. فالتحرر من البيروقراطية- كما تحدث عن ذلك يوما ماكس فيبر قبل قرن من الزمان- هو من المستحيلات لكل مؤسسة تحتوي على مجموعة بشرية كبيرة.

إن برنامج الابتعاث بحاجة إلى النقد، فهو كما وضحنا يمس كل أسرة سعودية، والنقد الذي يحتاجه متعدد الأبعاد (سياسي-أخلاقي-إداري-اقتصادي…إلخ)، لكن النقد الذي قدمه محمود صبّاغ- على رغم كونه طالبا في إحدى “جامعات النخبة”- لا يمكن تصنيفه أبدا ضمن هذا النوع من النقد، بل أقصى ما يمكن وصفه به هجائية مرصعة ببعض الارقام هنا وهناك.